لم تنفع حكاية العصابات المسلحة أو قصة المؤامرة الخارجية في خداع الناس ونشر ثقافة الخوف من التغيير بقدر ما نفع توظيف بعض المصاعب والمشكلات الذي تمر به بلدان عربية نجحت ثوراتها، خاصة وأن ثمة معطيات تغري بذلك، كصور الاضطراب والإخلال بالأمن التي خلفها اهتزاز المنظومة السلطوية القديمة، ومشاهد الاحتقان والتفجير الطائفي التي تتواتر في مصر وآخرها الأحداث المؤسفة في ساحة ماسبيرو وما خلفته من ضحايا، ثم الحضور المستفز للسلفيين التونسيين بلحاهم الطويلة ولباسهم المتميز وهم يرهبون الناس في غير موقع لفرض رؤيتهم على مجتمع يغلب عليه الإسلام المعتدل والتقاليد العلمانية. مثل هذه الظواهر ليست عديمة الدلالة أو الأهمية، وهي تؤثر على عافية الثورات وصحة تمثلها لشعارات الحرية والديموقراطية التي رفعتها، لكن لا يخفى أن الغرض من تسليط الضوء المركَّز عليها هو تشغيل الاسطوانة المشروخة إياها، بأن الآتي لن يكون أفضل، وأن مناخات الحرية تَسُوق الشعوب المفتقرة للنضج السياسي والثقافي إلى الفلتان والفتن والانقسامات واستحضار الخصوصيات الفئوية وأساليب العنف. يخطئ من يعتقد أن التحول نحو الديموقراطية هو مجرد مخطط ذهني سهل التنفيذ، ويخطئ إن ظن أن هذه الطريق لن تكتنفها صعوبات ومشكلات عديدة، يعمقها غياب نموذج عربي يحتذى، وسعي بقايا النظام القديم أو ما يعرف بقوى الثورة المضادة، لتقويض هدف التغيير وإفراغه من محتواه، ثم وجود أطراف لها مصلحة في استغلال التوترات المستندة إلى محمولات متخلفة وتفعيلها، إثنية ودينية. وما يزيد الطين بلة حضور قوى متنوعة من الإسلام السياسي لا تهم بعضها شعارات الحرية والمواطنة بقدر ما يهمه طبع الثورة بطابعه وجعل هوية الدولة ببُعد واحد ينسجم مع ما تمليه أجندته الأيديولوجية. ما يعني أن الانتقال إلى الديموقراطية لا يتحقق بمجرد إزاحة الاستبداد وتوفير بعض الحريات والقيام بانتخابات، بل هو عملية تاريخية تحتاج لزمن غير قصير، وبديهي أن يشهد في بعض المحطات إرباكات وصراعات على السلطة وإصرار قوى معينة على تخريب الثورة وإيقافها والارتداد عنها. يُقصد بالمرحلة الانتقالية تلك الفترة التي تمتد بين إسقاط الاستبداد والتأسيس للدولة الديموقراطية، تعترضها بداية تحديات تتمثل بالتنازع على مصير النظام المندثر وكيفية محاسبة رجالاته، وعلى الحلول المباشرة الواجبة لتأمين حاجات المجتمع وأمنه، وتكتنف تلك المرحلة مهمات متنوعة، كصياغة دستور جديد وتشريعات تضمن حقوق الإنسان والمواطَنة وقضاء مستقل وإعلام حر واقتصاد قوي ومؤسسات نزيهة لضمان الأمن، وأكثر ما يهددها هو العمى الأيديولوجي والعقائدي الذي ينذر بنشوء بؤر متفجرة للمنازعات الطائفية أو المذهبية، ما يفسح في المجال أمام تصاعد العنف وإسقاط المشروع الثوري برمته في أتون الفوضى والصراع الأهلي. هي مرحلة قد تطول أو تقصر تبعاً لحجم المشكلات والصعوبات ولنوعية المعوِّقات السياسية التي تعترضها، والمتأثرة بطابع السلطة القائمة وشكل مواجهتها، إن سلمياً أو عسكرياً، وبخصوصية المجتمع وتنوع مكوناته ودرجة تطوره الاقتصادي والثقافي، والأهم مدى تبلور البديل السياسي ونضجه، بالتالي كلما كانت هذه المشكلات واضحة وتمت معرفة أسبابها وملابساتها، كلما كانت القدرة على تجاوزها أسهل، ونجحت قوى التغيير في خلق تفاهم وطني عريض وإحباط الألغام الإيديولوجية التي خلفها تباين الخيارات الفلسفية والاجتهادات الدينية والحزازات القديمة وتجاوز سوء الفهم والتنافس المرضي بين الجماعات والأشخاص، وكلما كانت التكلفة أقل. بعبارة أخرى، إسقاط الاستبداد لا يعني أن الثورة انتهت، بل على العكس، فمن هنا يبدأ العمل الدؤوب لوضع أحجار الأساس للمشروع الديموقراطي المعافى، ومن دون فهم هذه الحقيقة، سيفضي أي تطور لمشكلة من المشكلات إلى بعض الإحباط واليأس وشيوع أحاسيس باللاجدوى والعجز. فليس بالإمكان نقض الاستبداد وبناء الديموقراطية من دون دحر الثقافة السياسية والمدنية القائمة على النمط القهري والطغياني ومن دون الانتصار للنمط الديموقراطي القائم على الحرية والتسامح والمساواة والمشاركة السياسية. لا أحد يستطيع أن يقدم ضمانات حول مصير الثورات ولو ادعى امتلاك القدرة على التحكم بقوى المجتمع وضبطها لحظة انفلاتها، لكن هل من خيار بعد هذا الاستبداد المزمن وما خلّفه من بؤس وتردٍّ سوى فتح الأبواب لرياح التغيير والثقة بولادة صيرورة جديدة أهم وجوهها إطلاق حريات الناس وحقوقهم ومشاركتهم في صياغة مستقبل آمن من دون قهر أو وصاية من أحد، صيرورة يمكن الاطمئنان لآفاقها وديمومتها في ظل المناخات العالمية الراهنة وانسجامها مع نسق التغيير العربي وكونها تأتي بالضد من ماضٍ استبدادي ثقيل ومكروه يصعب الارتداد إليه. فمرحى للمتخوفين من التغيير، والذين بحجة الحفاظ على الأمن والاستقرار يريدون تأبيد الاستنقاع والتعفن القائم، خوفاً من أن لا تأتي نتائج التغيير كما تشتهي سفنهم! ومرحى للذين أغرقونا بشعارات عن الشعب ودوره التاريخي بينما يطعنون اليوم بأهليته للتمتع بالحرية! ومرحى للذين أدمنوا العيش مع المشكلات القديمة الآتية من تاريخ عتيق لأنهم عاجزون أو يخشون المواجهة مع إشكاليات من طراز مختلف تفرضها الديموقراطية الوليدة. إن ما تعانيه المجتمعات الآيلة للتحول الديموقراطي اليوم من نزاعات واضطرابات جراء انكشاف أحشائها، ليس إلا نتيجة لما راكمته سنوات طويلة من القهر والقمع، ولنجاح الاستبداد في تدمير المجتمع المدني والأحزاب السياسية، وقتل روح السلام والتآخي والمبادرة لدى الناس، والأوضح سعيه المستمر الى تلغيم وحدة المجتمع بإحياء شبكات من المصالح والارتباطات العشائرية والقبلية أو الدينية، يستولد منها الصراعات عند اللزوم، ليضع الجميع أمام اختيار خطير: إما الانصياع للاستبداد كضامن للأمن والاستقرار وإما الحرب الأهلية! في الماضي القريب، أثار مناهضو التغيير الصعوبات التي عانت منها دول أوروبا الشرقية في مخاض بحثها عن حريتها وكرامتها، لتخويف الناس من التحول نحو الديموقراطية وتسويغ استمرار التسلط والقمع، فساقوا الأمثلة عن ثورات أفضت إلى غياب الأمن وسيطرة المافيا، وعن مظاهر التشرد والفقر والانحطاط الأخلاقي وتنامي ظاهرة البطالة... الخ! ولكن عندما تمكنت هذه البلدان، بعد مكابدة ومعاناة، من تجاوز مشكلاتها ونجحت في بناء مجتمع ديموقراطي واعد، اندفع هؤلاء عن سابق تصور وتصميم، الى إغفال هذه الثمار الايجابية أو إنكارها كي يهربوا من الاعتراف بأن ثمة مرحلة انتقالية ضرورية وعسيرة لا بد منها للتخلص من تبعات القهر والفساد والركود، ولمنح الإنسان إنسانيته وتمكينه من لعب دوره الطبيعي في المجتمع، بل لم يسألوا أنفسهم، ما دامت الثورات على الاستبداد تتعارض مع مصالح الناس وأمنهم، لماذا لم نلحظ إلى اليوم أيَّ حالة ارتداد عنها أو رفض لنتائجها؟!