على رغم أن الثورة في مصر لا تزال مستمرة ولم تفرغ حمولتها بالكامل، نستطيع أن نستخلص بعض الملاحظات، فقد جسدت هذه الثورة مبادئ النظام السياسي الليبرالي كافة وأثبتت أن هذه المبادئ تنطوي على جاذبية إنسانية عالمية، ومع ذلك فإن الثورة المصرية كانت أصيلة وليست مستوردة. أولاً: إن تأثير «الحداثة» على مصر ثقافياً واجتماعياً، ظهر في تحركات وأدوات ورموز شباب الثورة – وعلى عكس توقعات المنظرين في الغرب - حملت هذه الثورة طابعاً اجتماعياً (مدنياً) وليس دينياً، لم ترتفع لافتة دينية واحدة، وإنما كانت شعاراتها هي: «تغيير، حرية، عدالة اجتماعية»... «مدنية مدنية... سلمية سلمية». وأثبت شباب مصر – للمرة الأولى في عصر العولمة – أن الثورات لا تحدث في الأوساط التي ينتشر فيها الفقر والجوع والأمية بل حيث الشبابُ المثقف المتعلم الناضج، الذي يقترب كثيراً بثقافته ونمط تفكيره من الثقافة العالمية؛ لأن الشباب المتعلم يريد أن يحصل على نصيب عادلٍ من الحياة (75 في المئة من المصريين الآن تقل أعمارهم عن 35 سنة). ثالثاً: أن الفوز بالديموقراطية أمر ممكن في مرحلة مبكرة من عملية التحديث في أي بلد، وليس تتويجاً لعملية تحديث طويلة المدى، لأن الإنسان هو الذي يصنع «الحداثة» بالقدر نفسه الذي (يصنع) داخلها. والثورة المصرية الآن في مفترق طرق، قد تنجح في المستقبل القريب (كما هي حال الثورة الأميركية، وثورات أوروبا الشرقية في عام 1989)، ولكن (على العكس) قد تنتكس إلى ما هو أسوأ من نظام مبارك نفسه، (وأفكر هنا بما حدث في الثورة البلشفية، والثورة الإيرانية).. وسأطرح بعض الأسباب: أولاً: إن نقاط القوة في الثورة المصرية هي نفسها مكمن ضعفها، فالشعارات الليبرالية والديموقراطية التي رفعها هؤلاء الشباب، تقول كل شيء ولا تقول شيئاً على الإطلاق في الوقت نفسه. ناهيك عن أن الثورة في مصر لا تمتلك أدواتها السياسية والمعرفية المحددة المعالم، فضلاً عن أنها لا تمتلك أدوات طبقية محددة تعبر عن رؤية أو برنامج اقتصادي اجتماعي نقيض. ثانياً: هذه الليبرالية حملت في جنباتها الكثير من الاحتمالات المتباينة المفتوحة، إلى جانب البنى التقليدية القديمة نفسها: الدينية – القبلية، وهو ما ظهر في نتائج الاستفتاء: أكثر من 77 في المئة وافقوا على التعديلات الدستورية يوم 19 آذار (مارس) الجاري، بينما كان من المفترض أن الدستور القديم سقط بسقوط النظام ورموزه وسياساته، خصوصاً أن هذه التعديلات طرحها الرئيس السابق قبل أن يتخلى عن الحكم بأيام قلائل. ثالثاً: أحدث نتائج استطلاعات الرأي لمؤسسة «بيو» أكدت أن 59 في المئة من المصريين يقفون إلى جانب الأصولية الدينية في صراعها مع قوى الحداثة، وأن نسبة 41 في المئة من المصريين لا يعتقدون بأن الديموقراطية هي أفضل أنظمة الحكم، وأن هؤلاء سيكون بمقدورهم الالتفاف على الثورة وإسقاطها، في ظل وضع اقتصادي مترد حيث تعيش قطاعات واسعة (41 في المئة) تحت خط الفقر (المحدد بدولارين في اليوم). وفي ثورة 25 يناير المصرية اجتمعت لحظتان تاريخيتان مهمتان لأوروبا والعالم، الأولى عام 1947 حين دعا جورج مارشال إلى مشروع مثير لإعادة بناء أوروبا التي خرجت مدمرة من الحرب العالمية الثانية، واللحظة الثانية عام 1989 حين انهارت الشيوعية في الاتحاد السوفياتي السابق وأوروبا الشرقية وبزغ فجر الميلاد الجديد للحرية والديموقراطية. أمام أوروبا الآن فرصة تاريخية لمساعدة مصر وشعوب الضفة الأخرى من المتوسط، في بناء اقتصادات قوية وديموقراطيات قوية، وخلق كيان متوسطي جديد يتغذى على قيم الديموقراطية والمصالح والآمال المشتركة، أضف إلى ذلك أنها تتيح إمكانية جديدة ل «الاستثمار المزدوج» في مستقبل المتوسط ككل، شماله وجنوبه. وعلينا أن نتذكر أن مشروع مارشال في جوهره كان حرباً من أجل العقول. حيث كانت الشيوعية هي الأيديولوجية المعادية بعد الحرب العالمية الثانية، ونحن الآن في الجولة الثانية من هذه الحرب من أجل العقول (وهي الأخطر) حيث الأصولية الإسلامية تقف وراء الاستبداد والإرهاب. ومثلما كان هدف مشروع مارشال هو «تجفيف المستنقعات» التي كانت الشيوعية تستمد منها الدعم، فعلى أوروبا الآن أن «تجفف المستنقعات» التي تمد الإرهاب الدولي بالأصوليين والمنتحرين وبالدعم المالي. وعندما نتذكر أيضاً «مبادرة برشلونة» في التسعينات من القرن العشرين، و «الاتحاد من أجل المتوسط» في عام 2008، تحضرنا مطالبة المستشار الألماني السابق فيلي برانت بنظام عالمي عادل، وأن يتم ارتباط الاقتصاد العالمي كوحدة واحدة ويقوم على نظام اقتصاد السوق الحر ويكون النظام السياسي عبر النظام الديموقراطي الليبرالي. المساعدات الاقتصادية، وفتح أسواق الاتحاد الأوروبي، ومشاريع الطاقة الاستراتيجية، والمشورة الدستورية والقانونية، والتعاون بين الجامعات، كلها من بين الموارد التي يتعين على الغرب أن يوفرها إذا كان راغباً في الإسهام في إنجاح الثورة في شمال أفريقيا (جنوب المتوسط)، لأن فشل الثورة معناه انتشار التطرف الإسلامي إلى أنحاء العالم. ويرتبط تصدير العنف الشامل قبل 11 أيلول (سبتمبر) 2001 وبعده، بالبنية السياسية الاجتماعية للبلدان العربية - الإسلامية، المشكلة لقوس الأزمات، حيث مكانة الفرد هامشية تخضع لسيطرة الجماعة والبنية الأبوية، وفي غياب الحريات يصبح الدين مجالاً للتعبير عن إحباط ونقمة الجماهير المعارضة للأنظمة المستبدة الحاكمة. مع وجود الديموقراطية وانتشار التعددية، لن يكون هناك مجتمع يسيطر عليه فريق واحد أو جماعة واحدة، بل مجتمع متوازن تُمثل فيه كل الاتجاهات الفكرية والسياسية تمثيلاً كافياً. * كاتب مصري، والنص محاضرة باللغة الانكليزية في ندوة: «الثورات في العالم العربي... التحديات والفرص» التي نظمت في 22 آذار (مارس) الجاري بمؤسسة (FAES) في مدريد