ابن خلدون اسم سمع به الكثيرون من العرب وتفاخروا به على عادتهم. ولكن مضامين فكره كما تجلت في"المقدمة"بشأن طبيعة المجتمعات العربية خاصة، لم تصبح جزءاً من تكوينهم الثقافي. وما لم تصبح جزءاً من هذا التكوين فان اغتراب العرب عن حقيقة مجتمعاتهم سيترك لأمد طويل ضياعاً فكرياً لديهم لا يمكن التقليل من خطره. وإذ انتمى ابن خلدون الى الماضي، فإن العرب لن يستطيعوا تجاوز فكره المجتمعي الا بعد معرفته عن كثب. وأعتقد أن مقدمته تمثل الكتاب الأفضل لمحو"أميتنا"الحضارية والتاريخية بشأن حقيقة الذات بين أمياتنا الأخرى! فابن خلدون، من خلال المقدمة، يمكن الالتقاء به في هذه المرحلة في العراق حيث"عصائبه"المتعددة تحاول الاتفاق على مشروع"دولة". ويمكن الالتقاء به في لبنان للاعتبار ذاته، وفي اليمن، بين قبائله، المترددة بين إرثها العصبوي وبين دولتها الحديثة التي تحاول التحديث والتوحيد، بل إن ابن خلدون يمكن الالتقاء به، ضمن هذا المفهوم، في مصر حيث الدولة على عكس المحيطين بها من"أحلاف قبلية"مشرقاً ومغرباً، حقيقة قائمة:"سلطان ورعية"حسب تعبير ابن خلدون! إن ما رآه ابن خلدون، برؤية نافذة حقاً، إلى السوسيولوجيا السياسية للعرب ما زال الكثير منه مترسبا بقوة الى يومنا رغم"قشرة"الحداثة، بل العولمة، التي تحاصر المجتمعات العربية. وعندما تأملت في"العولمة" لأول مرة قبل عقد من الزمن ذهب فكري حالاً الى تلك"العصائب"والقبائل وتساءلت: ماذا ستفعل العولمة بهم وماذا سيفعلون بالعولمة؟ بكلمة أخرى: كيف سيكون التفاعل بين مفهوم كوني في منتهى العمومية وأوضاع في القاع المجتمعي في منتهى"الخصوصية"وبينهما عصور وعصور ليس من الزمن فحسب، وإنما من التطور الحقيقي في الواقع البشري المعاش الذي تجاوز التنظير والتجريد الفكري راجع كتاب العرب والعولمة، ندوة مركز دراسات الوحدة العربية، ص 55-56، بيروت ، حزيران 1998. إذا نظرت إلى ذلك الحضرمي اليماني الأصل، الاندلسي الأرومة، التونسي المولد، المغربي المعاناة، المصري المصير، خالجك الشعور بحكم الزمان النهضوي والمكان المتوسطي. انه ينتمي إلى ذلك الشاطئ الشمالي الأوروبي من المتوسط بين رواد نهضة أوروبا الأوائل بحكم جدة تفكيره وتأسيسه لعلم العمران الاجتماع. ولعل هذا ما يفسر الإعجاب المتناهي لفيلسوف التاريخ البريطاني أرنولد توينبي به، اذ اعتبره أعظم عقل في أي زمان ومكان، كما يفسر اهتمام الباحثين الأوروبيين به، وترجماتهم لمقدمته إلى يومنا. إلا أن"مقدمة ابن خلدون"في حقيقة الأمر هي آخر كتاب وآخر ومضة إبداع في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، بالمعنى الفكري الإبداعي في التجديد الحضاري وتنتمي بشكل عضوي إلى هذا الجانب العربي من المتوسط. حقاً جاء بعده مؤرخون أفذاذ، وشهود حق على عصورهم، وآخرهم عبدالرحمن الجبرتي صاحب"عجائب الآثار"، لكن ابن خلدون يبقى سيد المفكرين، في الواقع، لا في اليوتوبيا، وفي التاريخ لا في الميتافيزيقيا! لقد أتيح لي، ذات سنة أكاديمية، تدريس ابن خلدون لنخبة من طلبة الدراسات العليا بجامعة الخليج العربي في البحرين. أدركت حينئذ مدى قدرته على الإيحاء الإبداعي للعقول في عصرنا هذا وربما إلى زمان بعيد. لغة ابن خلدون ليست سهلة التناول ولا تمنح نفسها بسهولة، فنصه ممتنع غير سهل. وربما أحس قارئه المتعجل بركاكة. اقصد ممن تعودوا شعر الحماسة وأسلوب الخطابة. غير أن النص الخلدوني كفرع الشجرة المثقل بثمره، لغزارة فكره وتفرع تأمله. عليك أن تتناوله بتؤدة لتكتشف كل ما فيه من ثمر. وان استعجلت فربما فاتك منه قطاف كثير. فكثافة الفكر تأتي قبل لطافة اللغة لديه، بل إن اللغة العربية تنوء بثقل أفكاره ويكفيها فخراً علمياً انها استوعبته وربما كان هذا الملمح الأسلوبي من أسباب"غربته"عند بني قومه، العرب، لطربهم الدائم بإيقاع البلاغة شعراً ونثراً! ويبقى النص الخلدوني اليوم على مائدة"خبراء"التحديث التربوي سواء استلهموه من أوربا أو أميركا! كان ابن خلدون بفكره"خارجاً"على التقليد البلاغي العربي. وعندما تبلور لديه علم الاجتماع مع فلسفته في التاريخ العربي، مع نظراته غير المعهودة في مسائل اللغة والتربية والعمران، داخله إلحاح غريب بأن يحذر قراءه بأن ما يقدمه لهم في المقدمة"ليس من علم الخطابة". يقول ابن خلدون بهدوء موضوعي غريب ومستفز في المقدمة:"هذا هو غرض هذا الكتاب، وكأن هذا علم مستقل بنفسه. فإنه ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني. واعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة غزير الفائدة، أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص... وليس من علم الخطابة"، نعم هكذا ببساطة"ليس من علم الخطابة"!! هل هي"لكمة"أيقاظ ذهني؟ هل هي سخرية؟ هل هو غضب كاتم لغيظه؟ انه بالتأكيد خروج على"الذوق"الجمعي العربي بل على الظاهرة الصوتية العربية كلها... لذا بقي في غربة عنها. ولكن إلى متى سيبقى غريباً عنا. والعالم يفكر اليوم كما فكر ابن خلدون بالأمس. لا نريد أن نبالغ في أهمية ابن خلدون، وإلا وقعنا في"علم الخطابة"! نريد القول: ان لدى الرجل رؤية تحليلية لتكوين المجتمعات العربية لا بد من الالمام بها قبل الانتقال الى غيرها. ذلك ان"بلغاء"الخطاب العربي جاهزون للاعتراض: هل تريدنا أن نبقى في"أسر"ابن خلدون وقد تجاوزه العالم بقرون. نعم تجاوزه العالم. لكننا كمجتمعات عربية لم نتجاوزه في تكويننا وان داخلتنا مؤثرات أخرى. فإذن علينا التوقف عند محطته الفكرية الهامة للغاية قبل الوصول إلى محطة كارل ماركس وفيبر وغيرهما من علماء الاجتماع الحديث. فعند محطة ابن خلدون يتضح العمود الفقري للسوسيولوجيا السياسية العربية بالذات، وبعدها إضافات مهمة من دون شك لكنها ليست بدايات أو منطلقات يؤسس عليها. عندما أصدرت كتاب"تجديد النهضة"قبل أكثر من عقد من الزمن، ضمنته فصلاً كاملاً بعنوان خلدونية... لا ماركسية: نحو مدرسة ترى الأزمة في خصوصيتها المجتمعية. كان قصدي فقط التنبيه للأهمية القصوى لفهم"الخاص"في القوانين الاجتماعية إلى جانب"العام". وهنا أهمية ابن خلدون، أهميته البالغة في تشخيص العرب. فلن تجد لديه في فلسفة التاريخ وصيرورة المجتمع انشغالاً بالقوانين العامة. إنه دائم الحديث عما هو"خاص"في مجتمعات العرب وتاريخهم.... العرب ضمن تفاعلهم في النطاق الإسلامي مع من جاورهم من"ذوي السلطان الأكبر". لهذا الاعتبار قلت: خلدونية... لا ماركسية . وكان عالم الاجتماع العراقي الفذ الدكتور علي الوردي، وهو من أبرز رواد مدرسة ابن خلدون في النصف الثاني من القرن العشرين، يحاول إقناع مجادليه ومواطنيه من الشيوعيين العراقيين أن النظام الزراعي في العراق نظام عشائري وليس نظاماً إقطاعيا حسب المواصفات الأوروبية وحسب توصيف الماركسية. وكان يقول بتواضع جم : أتمنى أن أكون مخطئاً... لكنه نظام عشائري! ولكن يبقى، بطبيعة الحال، أن علم الاجتماع الماركسي وليس خطابه الايديولوجي ما زال يحمل الكثير من التحليلات الصائبة أو القريبة من الصحة في تحليله لظواهر الاجتماع والاقتصاد والسياسة. بل أنني اعتقد أن هذا العلم في حدوده المنهجية الخاضعة لمقاييس الصواب والخطأ يحتفظ بمصداقية أقوى بعد سقوط الأنظمة الشيوعية الناطقة باسمه، والتي لم تكن أمينة له بقدر ما كانت حريصة على تسلطها ومصالحها كما في كل تسلط. ويبقى أن المسألة ليست في المفاضلة المطلقة بين ابن خلدون ومدارس علم الاجتماع الحديث - ومنها علم الاجتماع الماركسي - على طريقة إما وإما السائدة في الخطاب العربي إلى يومنا. فمن أجل تشخيص وفهم أفضل، ثم تغيير أصح، للمجتمعات العربية لا بد من الوقوف عند ابن خلدون ثم استكمال تجاوزه بالطريقة المتهجية السليمة، لا بالتجاوز السطحي أو الشكلي كما في بعض مدارس الحداثة! ومازال الهدف فهم الواقع من أجل تغييره. * مفكر وكاتب من البحرين