الهلال يفقد خدمات مالكوم امام الخليج    الأهلي ينتصر على الفيحاء بهدف رياض محرز    «الصحة الفلسطينية» : جميع مستشفيات غزة ستتوقف عن العمل    منتدى المحتوى المحلي يختتم أعمال اليوم الثاني بتوقيع 19 اتفاقية وإطلاق 5 برامج    اعتماد معاهدة الرياض لقانون التصاميم    القبض على 4 مقيمين في جدة لترويجهم «الشبو»    المملكة توزع 530 قسيمة شرائية في عدة مناطق بجمهورية لبنان    انطلاق مهرجان الحنيذ الأول بمحايل عسير الجمعة القادم    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    باص الحرفي يحط في جازان ويشعل ليالي الشتاء    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    الذهب يتجه نحو أفضل أسبوع في عام مع تصاعد الصراع الروسي الأوكراني    الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    فعل لا رد فعل    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    فرع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بحائل يفعّل مبادرة "الموظف الصغير" احتفالاً بيوم الطفل العالمي    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    «المسيار» والوجبات السريعة    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أعترافات جلاد فرنسي في حرب الجزائر : تعذيب بالكهرباء وإذلال وأغتصاب
نشر في الحياة يوم 01 - 01 - 2001

تُنشر في فرنسا شهادات وآراء حول انتهاك حقوق الانسان والتعذيب والاهانات والجرائم التي ارتكبها الفرنسيون خلال حرب الجزائر. وتتزامن هذه الشهادات مع اعمال القمع والقتل التي تدور في هذا البلد على يد متطرفين لا يعرف العالم الشيء الكثير عن هويتهم.
"الوسط" تساهم في القاء الضوء على جرائم حرب الجزائر الفرنسية من خلال قراءة اعترافات ادلى بها جلاّد فرنسي ونُشرت في كتاب صدر اخيراً.
تتمتع الجرائم الفرنسية في الحرب الجزائرية بحماية قانونية فعّالة، لم يسبق لدولة اخرى ان فرضتها. فالجرائم الاميركية في فييتنام، والسوفياتية في افغانستان، والاستعمارية في كل مكان، لم يُحدد مصيرها باتفاقات صريحة وواضحة.
وقبل شهور من استقلال الجزائر، اصدر الفرنسيون قانوناً يجيز العفو العام عن الجرائم التي ارتُكبت في هذا البلد قبل صيف 1962، وكانوا قد اصروا خلال مفاوضات "ايفيان" مع الحكومة الجزائرية الموقتة، على ادراج بند في اتفاقات الاستقلال يؤكد ان فرنسا لا تتحمل في المستقبل اي مسؤولية عن وجودها في الجزائر، وبالتالي لا شيء يلزمها دفع تعويضات مادية او معنوية.
وبما ان جرائمهم صارت محمية، فقد عاش جلادو ومجرمو الحرب الجزائرية نهاية خدمة سعيدة وهانئة لا تعكّر صفوهادعاوى قضائية ولا تطاولها المحاكم الدولية وبعضهم عاد للانخراط في الحياة السياسية.
والثابت ان الدولة الفرنسية اجتهدت في حماية هؤلاء وساعدت المسنين منهم على الموت في اسرّتهم وليس في زنزانات السجون، فهي فرضت ستاراً من التكتم التام على حرب الجزائر، ورفض الجميع اطلاق صفة حرب عليها، وهذا التكتم التزمه الجميع تقريباً، فلم تنتج افلام للسينما عن الحرب كما حدث في الولايات المتحدة بعد حرب فييتنام. والاقلام القليلة الفرنسية التي خاضت في هذا الشأن اكتفت بمعالجة سطح المشاكل وبعضها اتخذ منحى تبريرياً.
هكذا نشأ في باريس بعد الحرب الجزائرية ضرب من الازدواجية المثيرة للانتباه، فقد حوكم الالماني كلاوس باربي مجرم الحرب النازي بسبب دوره في اعتقال يهود فرنسيين وارسالهم الى المحرقة، فيما العشرات من الذين عذّبوا عرباً جزائريين واغتصبوا نساءهم ومارسوا القتل والتصفيات 40 ألف شهيد في سطيف وحدها كانوا يشاهدون تفاصيل المحاكمة على شاشات التلفزة في منازلهم. وحوكم الفرنسي موريس بابون كعميل اداري للنازية ولكن تقرر عدم محاكمته على دوره في رمي عشرات الجزائريين المتظاهرين في نهر السين في عام 1961. اذ ان القانون لا يجيز محاكمته عن جرائم حرب الجزائر وان كان يجيزها في شأن جرائم الحرب النازية.
والراجح ان غياب المسؤولين الكبار عن الحرب الجزائرية مليون ونصف المليون شهيد واندماج "الاقدام السود" في المجتمع الفرنسي وتهميش "الحركيين" الجزائريين الذين عملوا كأدوات فرنسية في هذه الحرب. وبروز قوى فاعلة في اوساط المهاجرين الجزائريين وانخراطها في مختلف اوجه الحياة الفرنسية، كل ذلك اتاح الحديث الآن عن تلك الجرائم.
والحديث عن هذه الجرائم اجازه رئيس الحكومة ليونيل جوسبان الذي دعا من خلال الاحتفال السنوي "للمجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية" في فرنسا الى الكشف عن حقيقة ما جرى خلال حرب الجزائر، وقال ان هذه الحقيقة "لا تضعف المجتمع الفرنسي بل تقويه لانها تتيح استخلاص الدروس من الحرب لاستخدامها في بناء مستقبل فرنسي افضل". وهذا الرأي لا يوافق عليه الرئيس جاك شيراك الذي يعتبر ان الحديث عن جرائم الحرب الجزائرية سيفتح جروحاً لم تندمل بما فيه الكفاية بعد.
وعلى رغم التناقض بين وجهتي نظر الرئيس الفرنسي ورئيس حكومته فان مبادرات عدة انطلقت للحديث عن جرائم الحرب الجزائرية فغداة تصريحات جوسبان انتشرت اقوال بعض الجنرالات الاحياء، وتتالت الشهادات حول التعذيب والتصفيات الجسدية والاغتصاب، وخصصت الصحف الفرنسية حيزاً كبيراً لها.
ومن تلك الشهادات كتاب قديم - جديد يروي تفاصيل مرعبة عن جهاز كان يضم ما يراوح بين 10 - 15 الف ضابط وجندي من مختلف اقسام الجيش الفرنسي وكان مكرساً خلال الفترة بين 1957 و1962 لعمليات التعذيب والتصفية والاغتصاب ضد عناصر "جبهة التحرير الوطني الجزائرية" والتيار الشعبي المتعاطف معها.
وتقول "دار رامسي" بأن الكتاب الذي اصدرته بعنوان "اعترافات محترف تعذيب في الجزائر" في 1980 قوبل بصمت شبه تام، وبما يعادل المنع غير المباشر، لكنها قررت نشره الآن بعد ان انحسر الصمت حيال احداث الجزائر.
والكتاب الذي صدر بعنوان جديد "لقد مارسنا التعذيب في الجزائر" وقّعه الكاتب الصحافي جان بيار فيتوري الذي يقول انه تلقى رسالة من ضابط صف سابق في الجيش الفرنسي في الجزائر، عن اعمال تعذيب تفصيلية كان مسؤولاً عنها، وانه اشترك شخصياً في تعذيب 250 شخصاً، فبادر فيتوري الى استجوابه على مدى ساعات وسجّل اعترافاته في الكتاب من دون ان يتدخل فيها.
يروي الشاهد انه عاصر الجهاز المخصص للتعذيب منذ اللحظة الاولى لتأسيسه في نهاية 1956 الى ان حُلّ العام 1962 ويقول ان الجهاز كان يسمى "جهاز الحماية" وتابعاً ل"مركز الارتباط بين الجيوش الفرنسية" دون ان تحدّد له هيئة ادارية وقانونية واضحة، وأُريد له ان يكون مموهاً داخل "مركز الارتباط" وان عناصره كان يؤتى بهم من اسلحة الجو والبحر والبر. وبني بطريقة موازية لتنظيم "جبهة التحرير الوطني" فالجبهة كانت موزعة تنظيمياً على ست ولايات، ولديها خلايا في القرى والنواحي، والجهاز المذكور كان مبنياً بالطريقة نفسها بما يشبه "شبكة العنكبوت" التي تلتقط اعضاء الجبهة ومناصريها وتنتزع اعترافاتهم بكل الوسائل .
ويصف الشاهد الذي تحفظ عن ذكر اسمه او اي اشارة الى هويته نفسه بأنه "رب عائلة ويجب ان افكر بها" المكان الاول الذي عُينت فيه وهو معسكر بني مسوس في منطقة وهران. وأُعدّ ضمن المعسكر مبنى خاص بطريقة مدروسة بحيث يضم 12 زنزانة تتسع كل منها ل6 اشخاص، ويفصل ممر بين الزنزانات التي نظمت بحيث تكون بمواجهة بعضها. وفي المكان نفسه، قبو للتعذيب، يمكن الدخول اليه عبر فتحة خشبية والنزول عبر سلّم. وكان على السجناء الاّ يغنوا ويتجادلوا ويُصلّوا بصوت مرتفع. ولم يكن احد يعلم بوجودهم في هذا المكان.
ويتحدث الضابط المذكور عن السجين الاول الذي عذّبه فيقول: "… اعتقل لانه هرب من حاجز تفتيش، عمره 25 عاماً، والبريء لا يهرب من الحاجز. انزلناه الى القبو حيث يوجد سرير عسكري وبضعة كراسٍ ومكتب وجهاز للتعذيب الكهربائي. ربطناه الى السرير وعلّقنا شريطاً كهربائياً في طرف اذنه اليسرى والشريط الآخر على طرف عضوه التناسلي، وشحنّاه بشحنة كهربائية خفيفة فارتجف واخذ يبكي قائلاً انا بريء ولتحيا فرنسا. ثم كررنا الشحنة مرات، فغارت عيناه واخذ يرتجف ويسعل. فقلت له ان لم تعترف فان ما تعاني منه الآن بسيط جداً بالقياس لما ينتظرك. سأعطيك مهلة 30 ثانية للاعتراف. وبدأت بالعدّ حتى 15. فأذعن وقال انه سيعترف. سألته عن اشخاص كثيرين فأكد انهم ينتمون لجبهة التحرير الوطني الجزائرية. وهنا طلب مني النقيب المسؤول عن وحدتنا ان أسأله عن بائع الحبوب في المنطقة، فقال انه ينتمي ايضاً لجبهة التحرير. فضحك الضابط وقال "هذا من افضل عملائنا" ما يعني ان السجين بريء ولا يعرف شيئاً وقد روى ما رواه حتى يتجنب التعذيب".
ويعلّق الضابط على هذه الحادثة بقوله: "… لقد اثارت استياءنا فجمعنا النقيب وقال نحن لا نعذّب احداً. نحن نستجوب. ولا اريد ان اسمع كلمة تعذيب حتى وسطكم. فلم تلفظ هذه الكلمة خلال خمس سنوات مرة واحدة. وبهذه الطريقة كنا ننظم اضبارات تتضمن اسم المستجوب ووضعه العائلي وقبيلته المتزوج يخضع للضغط اكثر من الاعزب. والنشاط المفترض او الحقيقي الذي يقوم به، والتغيرات الطارئة على كل اضبارة كنا نضيفها تباعاً. فتجمعت لدينا في كل المراكز خلال خمس سنوات مئات الآلاف من الاضبارات التي كانت تضم معلومات حول كل ما يتصل باعضاء الجبهة وانشطتهم واوضاعهم".
ويروي الشاهد تفاصيل مذهلة عن تقنيات التعذيب: "كنا نستخدم الكهرباء عشوائياً ثم اخذنا نُحدّد اساليبنا. وكنا نضرب السجين ضرباً مبرحاً بلا حساب. ثم اخذنا نبتكر ونستخدم الوسيلة المناسبة للسجين المناسب. وبطرقة تصاعدية. فالتلفون الكهربائي يتيح شحنة خفيفة والمانيفل الكهربائي يتيح شحنة اقوى. وكنا نحشو معدة السجين بين 7 - 8 ليترات من الماء حتى تنتفخ. والاستجواب يتم عادة في الليل لان السجين يكون اضعف عندما توقظه من نومه، ونطلب منه ان يخلع ملابسه كاملة وهذه التقنية مفيدة نفسياً لأن العري التام هو افظع انواع الاهانات عند العرب الذين يشتهرون بالحشمة. وكنا نتبادل التقنيات بين المراكز فاحدها كان يستخدم وسائل التعذيب السائدة في القرون الوسطى مثل خلع الاظافر والخازوق، واحراق حلمة الصدر بالسيجارة" ويضيف قائلاً: "… اما افضل النتائج فكنا نحصل عليها بواسطة مناضلين سابقين من جبهة التحرير التحقوا بنا. اذ كان على هؤلاء ان يبرهنوا دائماً عن اخلاصهم لنا وصدقهم واستبسالهم في خدمتنا، ناهيك عن احساسهم بالذنب تجاه المناضلين الذين يرفضون الاعتراف. فيتصرفون معهم بوحشية فظيعة. وادركنا لاحقاً ان المعتقلين باتوا يفضلون ان نستجوبهم نحن خوفاً من وحشية العملاء الجزائريين".
وعن تطبيق هذه الوسيلة في التعذيب يقول: "في احدى المرات احضرنا معتقلاً وربطناه كهربائياً بمعتقل آخر وشى به، وانضم الينا. وطلبنا من الواشي ان يُحرّك شحنة كهربائية خفيفة ضد المعتقل وعندما شعر هذا الاخير بالألم حرّك شحنة اكبر ضد الواشي انتقاماً منه ثم بدأ كل منهما يردّ على الآخر ليُلحق به الأذى الاكبر المتاح وسط ضحك الجنود والضباط الفرنسيين.
لم يكن المعتقلون ينهارون جميعاً تحت التعذيب، فبعضهم كان يفضل الموت على الاعتراف ومن بينهم شاب عمره 28 سنة، كان يبصق علينا ويسخر منا ويقول باستمرار ان جبهته ستنتصر ولا يكف عن شتمنا والنظر الينا بحقد. ولم ُتجدِ كل وسائل التعذيب التي استخدمناها ضده: الكهرباء، الضرب، العزل. وعندما نتظاهر بأننا سنعدمه كان يقابلنا بابتسامة ساخرة، بعد ذلك قرر النقيب تصفيته، فنقلناه الى منطقة خالية فجر أحد الأيام وعندما وصلنا برفقة جنود آخرين، طلب منهم الضابط حفر قبر له ثم خاطبه قائلاً: "ستكون لك أيها الحقير مقبرة واسعة الأرجاء". ثم أطلق النار عليه. وطلب منا ان لا نتحدث عن هذا الأمر. وفي المساء جاءني بورقة مكتوبة بخط يده وطلب مني ان أطبعها على الآلة الكاتبة وفيها ان المعتقل فلان الفلاني حاول الهروب فأطلق الجنود النار عليه بعد ان رفض مراراً الامتثال اليهم".
ولم تكن عمليات التصفية الجسدية تتم دائماً بالطريقة نفسها، ففي احدى المرات أُيقظت من النوم على عجل واستدعيت الى السجن لأرى معتقلاً انتحر شنقاً في قبو التعذيب، علماً أنه لم يكن متاحاً لأي من المعتقلين الحصول على حبل أو أي شيء آخر من هذا النوع يمكن استخدامه للانتحار. وذات صباح وجد معتقل آخر منتحراً بالرصاص والرواية تقول انه انتزع مسدس النقيب وأطلق النار على نفسه. ولم يهتم أي منا بالسؤال عن السبب الذي يحمل معتقلاً على انتزاع مسدس النقيب من الدرج واطلاق النار على نفسه من دون ان يطلق النار على الجنود أو العملاء الموجودين في المكان".
ولم تقتصر عمليات التعذيب والتصفيات الجسدية على الرجال من مناضلي جبهة التحرير الجزائرية، التي كانت تضم في صفوفها عدداً كبيراً من النساء. وتفيد الروايات الجزائرية بعد الاستقلال ان التنظيم النسائي لعب دوراً أساسياً في حرب التحرير ومثاله الأبرز المناضلة المعروفة جميلة بوحيرد التي تحولت تجربتها الى فيلم سينمائي شهير اخرجه يوسف شاهين. ويروي المسؤول عن التعذيب تفاصيل كثيرة عن نساء دخلن الى قبوه، منهن "فتاة قصيرة القامة وصغيرة السن تسبح في فستان أوروبي أعطتها اياه، بلا شك، سيدة فرنسية كريمة. اعتقلناها على حاجز تفتيش روتيني وبحوزتها رسالة خطية كان عليها ان تنقلها من مسؤولة في الجبهة الى مسؤولة أخرى. طلبنا منها ان تعترف فقالت انها بريئة وان أحداً كلفها بنقل الرسالة ولا تعرف هويته وانها كانت على وشك رميها في سلة المهملات عندما اعتقلت، هددها النقيب باللجوء الى وسائل اخرى ان هي أصرت على موقفها فلم تذعن. فطلب نقلها الى القبو، وسلمها الى رقيب مهووس جنسياً، فبادرها هذا الأخير بالقول: "أنت عذراء على ما يبدو! لكن بعد قليل ستفقدين عذريتك ثم باشر بضربها واهانتها، فبكت بحشرجة من شدة الألم، تأثرت لحالتها وطلبت منها ان تعترف قبل فوات الأوان، لكنها أصرت على القول انها بريئة. وهنا طلب منها الرقيب ان تخلع ملابسها كاملة فامتنعت. ضربها مجدداً. فابقت ما يستر عورتها فانتزعها بقوة وجعلها عارية تماما. فانطوت على نفسها كالنطفة وفي عينيها شعور بالعار لا يوصف. ثم قيدها الى السرير وأطلق شحنة كهربائية جعلتها تنتفض من مكانها فقررت الاعتراف والدموع الكثيفة تبلل شعرها الأسود الطويل. وقد أدت المعلومات التي أدلت بها الى اعتقال شبكة من النساء بعضهن ربات منازل ومدرسات وسكرتيرات وممرضات. وقد أحضرنا بعضهن مع أطفالهن الى المركز".
ومن بين الحالات الأخرى التي يذكرها الشاهد وهو كما أشرنا ضابط صف، ممرضة من جيش التحرير الوطني الجزائري، اعتقلت بعد معركة عسكرية بين وحدة من الجيش الوطني والقوات الفرنسية، وأصيبت بجرح طفيف خلال المعركة. "امرأة في غاية الجمال تلوح من وجهها تعابير الافتخار والاعتزاز بالنفس الى درجة انها كانت ترفض النظر الينا خلال الاستجواب وكانت عيناها معلقتان على سقف القبو طوال الوقت.
بعد فشل محاولات استجوابها مرات، سلمها النقيب للمعاون "فيتال" الذي كانت له في فرنسا ابنة من عمرها، غير انه يكن احتقاراً للجزائريين.
ويضيف: "وبخلاف كل التوقعات لم يخضع فيتال المعتقلة للتعذيب. ومضت أيام من دون ان تظهر نتيجة التحقيقات. وكان يطالب بأيام اضافية ويقول انه سيتوصل بوسائله الخاصة لانتزاع اعترافاتها من دون الحاجة للتعذيب الجسدي. واللافت انه كان يعاملها بلياقة غير معهودة منه، ويحيطها بكل مظاهر الاحترام اثناء نقلها من الزنزانة الى مكتبه. وتغيرت فجأة عاداته، فأخذ يُحسن هندامه ويحلق ذقنه ويعطر نفسه. الأمر الذي أثار شكوكنا، فوضعنا جهاز تنصت في مكتبه لنكتشف انه وقع في غرام المناضلة التي سمعناها تقول له: في جيش التحرير الوطني تحترم النساء يا سيدي. ولو سمح لنفسه أي جندي بالحديث مع امرأة كما تتحدث أنت معي الآن فإنه يُعدم فوراً. نحن في جيشنا يا سيدي نعتبر ان الانتصار في الحرب يتم عبر التشديد على الاخلاق بالقدر نفسه الذي نشدد فيه على السلاح. يمكنك ان تعتدي علي ان أردت، لكن لا تنتظر مني أن أقبل بذلك وأوافق عليه، أعدني الى زنزانتي لو سمحت.
بعد هذا الحوار اكتشفنا ان غرام فيتال كاد ان يودي بنا، فهو كان سيضعف أمام المناضلة أكثر، ولربما زودها سلاحاً. لذا قرر النقيب المسؤول نقله وتعيينه في قطاع عسكري آخر من دون ان يصدر بحقه أي عقاب لأن جهازنا كان يتمتع بحصانة كبيرة في هذا المجال وكنا غير خاضعين لأي نظام عسكري تقليدي".
ولأن التعذيب ينطلق من الشبهة والافتراض فقد كان بعض مؤيدي فرنسا وأنصارها في الجزائر يقعون في شباكه وبينهم مقاتلون في الجيوش الفرنسية في الهند الصينية وخلال الحرب العالمية الثانية وفي مواقع أخرى، ناهيك عن بعض العملاء الذين تخطتهم "شبكة العنكبوت" المذكورة فيدفعون ثمناً باهظاً لهذا الخطأ. حالة أحمد الجزائري المقاتل في فيتنام الى جانب الجيوش الفرنسية، تكاد تكون نموذجية. فهو أدعى ذات يوم وعلى سبيل المزاح، خلال جلسة علنية في احد البارات، انه يعتزم القيام بعملية ضد الجيش الفرنسي، ولربما نطق بهذه الكلمات تحت وطأة الكحول فقاده هذا المزاح الى أحد أقبية التعذيب في جنوب الصحراء الجزائرية ووقع بين يدي ضابط الصف الذي اخضعه للكهرباء كالعادة والضرب ولم يسمع منه الا "تحيا فرنسا. أنا بريء. ولدي أوسمة من الهند الصينية. وكشف عن هذه الأوسمة التي كانت معلقة على جلابيته".
ويوضح قائلاً: "وحتى لا نواصل ضربه وتعذيبه الى الأبد بحثت في اضبارات المعلومات، فلم أجد أية إضبارة باسمه، واستجوبت المعتقلين الآخرين، فأكد أحدهم ان الرجل استضاف في بيته قائداً من قادة جيش التحرير الوطني. فذهبت الى القبو وسألته عن الشخص الذي استضافه، فقال انه استضاف ابن عمه، ولا يعرف القائد المذكور، أحضرنا ابن العم فنفى ذلك. عدنا لضرب المعتقل حتى كاد يموت، لكنه لم يعترف. ومثل هذه الحالة لم نصادفها من قبل. لذا عدت ثانية لإبن العم وطلبت منه بتعابير تهديدية ان يروي لي الحقيقة. فقال انه بات بالفعل تلك الليلة عند ابن عمه وانه أنكر الأمر بداية خوفاً من ان يكون الرجل متورطاً بالفعل بعمل سري الى جانب جبهة التحرير. ليتبين لنا ان المعتقل بريء وانه فعلاً من أنصار فرنسا وقد استحق بقتاله الى جانبنا الأوسمة المعلقة على جلبابه".
وتكشف اعترافات الشاهد عن اشكال اخرى لا تحصى من القمع والاهانات، وتعكس نظرة مشوبة بالعنصرية والاحتقار للعرب، هذا الاحتقار على كل المستويات، لم يكن قاصراً على الجلادين وحدهم. يقول: "... لا نعذب الا الناس الذين نشعر أنهم أدنى مرتبة منا وأننا متفوقون عليهم حضارياً. وأحياناً كنا نزج بزعمائهم للتعاون قسراً معنا، كذلك الرجل الذي ينتمي الى طبقة الاشراف صورناه بعد ان وضعنا بين يديه كمية من الأموال، فأضحى يتعاون معنا مضطراً حتى لا نكشف الصور. وأصبح مجبراً لأن يعرض نفسه للاغتيال على أيدي عناصر جيش التحرير الجزائري، وإلا فسنهدر شرفه".
انتهت فصول التعذيب الفرنسي في الجزائر العام 1962، فخلال مفاوضات "ايفيان" اصبح جهازنا الذي يُعرف باسم آخر هو "جهاز التوثيق والاستقصاء والابحاث" وكلف بتصفية الأرشيف والاضبارات التي جمعناها خلال خمس سنوات، وأدت الى افراغ الجزائر من "القسم الأكبر من مناضليها ووطنييها" وأحرقنا عشرات الألوف من الأدلة الثبوتية لحماية عملائنا غير المكشوفين من الانتقام، وقد أصبح هؤلاء بفضل ما قمنا اشخاصاً محترمين في الجزائر المستقلة. أما الاضبارات الاخرى المتصلة بمناضلي جبهة التحرير فقد صنفنا المفيد منها ونقلنا جزءاً من أرشيفنا الى فرنسا للحفظ، ومن ثم حل الجهاز وعاد كل منا الى قطاعه العسكري السابق وكأن شيئاً لم يكن".
هل يشعر الجلاد بالندم، في سن الخامسة والخمسين، لحظة الإدلاء بشهادته والكشف عن أهوال تفوق الوصف وتصدم الاحساس الانساني البسيط، يجيب: "لا أشعر بالندم ولا أريد الغوص فيه" فهو، على غرار قدامى حرب الجزائر قام "بواجبه" ويقضي أيامه سعيداً في وظيفة ادارية "... أحاول احياناً أن أساعد الجزائريين الذين يحتاجون الى مساعدة في المستشفى أو في الحصول على شيء لا يستطيعون الحصول عليه، بالقدر الذي تتيحه مسؤولياتي". أما رفاقه الذين خدموا معه ومارسوا التعذيب "... هم اليوم مواطنون عاديون يقومون بوظائفهم في التدريس أو الاعمال الحرة والادارية، أما أنا فإنني واصلت تعلقي بالأدب الفرنسي، فكما كنت ألتهم روايات بلزاك وكوليت وسيلين خلال أوقات الراحة بين وجبتي ضرب وتعذيب، أواصل اليوم عادة القراءة التي تعززت لدي هناك".
هكذا يبدو الجلاد فخوراً ببلزاك بقدر افتخاره الضمني بخدمة بلاده بارتكاب جرائم وضيعة في الجزائر من دون ان ينسى ذكر احساسه بالشفقة على جزائريي الهجرة في فرنسا. وهي في أية حال لا تعوض فعل الاعتذار والندامة الذي يحتاج الى شجاعة لا يمتلكها الجلادون الجبناء، شجاعة كتلك التي برهن الألمان أنهم يتمتعون بها تجاه جرائم بلادهم خلال الحرب العالمية الثانية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.