ربما بدافع التقدم في السن، والرغبة في إراحة الضمير، أقرّ اثنان من كبار ضباط الجيش الفرنسي الجنرال هما جاك ماسو 92 عاماً والجنرال بول اوساريس 82 عاماً بأن عمليات تعذيب واعدامات سريعة كانت تمارس بطريقة روتينية خلال حرب الجزائر 1954 1962، ووضعا فرنسا التي حرصت على مدى 38 عاماً على تغييب هذه الحقبة، في مواجهة ذاكرتها. اكد اوساريس في تصريحاته الى وسائل الاعلام الفرنسية، انه قتل بنفسه عندما كان يعمل الى جانب ماسو، بصفته مسؤولاً عن الاستخبارات، 24 موقوفاً جزائرياً لكونهم اعضاء في "جبهة التحرير الوطني" ويشكلون بالتالي خطراً على القوات الفرنسية. وقال ان 3024 شخصاً، فقدوا من اصل 24 ألفاً كانوا موضوعين في الاقامة الجبرية، مشيراً الى ان الامين العام لدائرة الشرطة في الجزائر في حينه، بول تيتجن كان يوقّع مذكرات تجيز نقل بعض الموضوعين في الاقامة الجبرية في المعسكرات، الى السجون، لكن ما كان يحصل في الواقع هو انهم يعدمون. وقال انه لم يشعر يوماً بالارتياح حيال التعذيب الذي كانت تمارسه القوات الفرنسية بحق المعتقلين الجزائريين، ولكن لم يكن في وسعه سوى القيام بالمثل، لأن هذا التعذيب كان شائعاً ومُعمّماً، ولم يكن هناك من اسلوب آخر، وان كبار المسؤولين السياسيين في تلك الفترة كانوا على علم تام بما يجري. ومن جهته ذكر ماسو وهو من سلاح المظليين، أُسندت اليه مسؤولية جهاز الشرطة، ويُعدّ مثله مثل اوساريس، من ابطال معركة مدينة الجزائر 1957 ان ممارسة التعذيب فُرضت عليه بحكم المنصب الذي تولاه. وهو عبّر عن اسفه لارتباط اسمه بهذا النوع من الممارسات. لكنه اشار الى انه لا يتحمل المسؤولية المباشرة عنها، وان اوامر التعذيب كانت تصدر عن مؤسستين عسكريتين هما "مركز التنسيق الداخلي لأسلحة الجيش" الفرنسي و"الاجهزة العملانية للحماية". وبخلاف اوساريس الذي يعتبر ان ماضيه لا يرتّب عليه اي فعل ندامة، فإن ماسو يرى ان الوقت قد حان لكي تعترف فرنسا بما قامت به في الجزائر وتدينه. حيال هذه التصريحات التي اكدت علناً ما كان حتى الآن محظوراً تناوله في فرنسا، بادر الحزب الشيوعي الى المطالبة بمناقشة برلمانية بهدف الكشف عن الحقائق كاملة وتشكيل لجنة تحقيق برلمانية لتقدير مدى اتساع نطاق الجرائم التي ارتُكبت خلال حرب الجزائر وتحديد دوافعها ونتائجها. واعتبر الحزب الشيوعي ان هذا النقاش ينبغي ان تتبعه تعويضات تقدم لذوي ضحايا تلك الحقبة وللعسكريين الذين امتنعوا عن المشاركة في الجرائم التي تخللتها. لكن هذا الاقتراح قوبل برفض رئيس الحكومة ليونيل جوسبان الاشتراكي املاً بتجنيب حكومته الغوص في الحساسيات والعواطف التي يثيرها فتح هذا الملف. فأكد جوسبان في تصريح ادلى به خلال مؤتمر الحزب الاشتراكي الذي انعقد في غرينوبل، انه لا يعارض الشفافية والكشف عن الحقيقة، ولكنه يعتبر ان كتابة التاريخ ليست من شأن لجنة التحقيق البرلمانية. في المقابل اشارت اوساط رئيس الجمهورية جاك شيراك، الذي كان خدم كضابط في الجيش الفرنسي خلال حرب الجزائر، انه لا يعارض فكرة توضيح هذه الحقبة المبهمة من التاريخ الفرنسي. اما رئيس الكتلة النيابية لحزب "التجمع من اجل الجمهورية" الديغولي الذي يتزعمه شيراك فرأى انه لن يعارض اقتراح الشيوعيين تشكيل لجنة برلمانية، شرط ان تتناول كافة جوانب الحرب الجزائرية. وبمعزل عن المواقف المتفاوتة حول اسلوب التعامل مع اعترافات اوساريس وماسو، بات واضحاً انه لم يعد في وسع فرنسا المضي في التستّر وراء الجهل المتعمّد لما تخلل حربها في الجزائر. فهذان الجنرالان مارسا التعذيب والقتل بالامس باعتبار انه واجب، وهما اذ يتحدثان عن ممارساتهما اليوم، فأيضاً بدافع الواجب، واقوالهما على درجة من الوضوح لا تترك للفرنسيين اي مجال للتهرّب من واجب مواجهة ذاكرتهم.