سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الجنرال أوسارس قائد جهاز أمن القوات الفرنسية العاملة في الجزائر "الفرنسية"... يسرد مآثره وفظائع جهازه . السلطات الاستثنائية تضعف رقابة الدولة على الجيش والامن ... وتبيح السياسة والقضاء للإرهاب
كشف نشر كتاب الجنرال الفرنسي المتقاعد "حكماً" منذ قرار مجلس الوزراء الفرنسي في 8 حزيران/ يونيو 2001 بول أوسَّارِسْ، "أجهزة خاصة، الجزائر 1955- 1957" أيار/ مايو 2001، الغطاءَ عن قضايا قانونية وعدلية كانت الشكوك تتنازع الرأي فيها من غير بيِّنة تؤدي الى اليقين. ففي روايته الحوادث الجزائرية التي لابسها ملابسة مباشرة، في أعوام حرب الاستقلال البارزة، لا يتستر الجنرال البالغ الاثنين والثمانين عاماً على ما ارتكبه النقيب الشاب البالغ يومها خمسة وثلاثين عاماً. فما كان يعرفه أهل المحامي الجزائري علي بو منجل، ولاسيما زوجته مليكة، وأصدقاؤه الأقرباء والبعداء، من بطلان دعوى انتحاره في 23 آذار مارس 1957، من غير إثبات دامغ، قطع النقيب السابق الشك فيه برواية لا يتطرق إليها مثل هذا الشك. فهو يروي ان علي بو منجل - المحامي، ونصير جبهة التحرير الوطني الجزائرية، والقريب من أحد وجوهها الأوائل، أبان رمضان قتيل بوصوف، رأس الأجهزة الخاصة الثورية والوطنية، وسليل الأسرة الكبيرة - لم يرم بنفسه من مبنى بالبيار، جادة كليمنصو في العاصمة الجزائر، على ما روي يومها رسمياً. فقاتله يروي اليوم، غداة أربعة وأربعين عاماً على الحادثة، أنه هو، أوسَّارسْ، أمر برمي المحامي الشاب من الدور السادس في المبنى الذي كان معتقله. وكان مرَّ على اعتقاله ثلاثة وأربعون يوماً، تولى استجوابه في أثنائها ضباط ورتباء من فرقة المظليين "الكولونياليين" الثانية. وفي سياق رواية النقيب السابق مقتل علي بو منجل، ثم مقتل العربي بن مهيدي، رأس ولاية الجزائر في الجبهة، في 3 آذار مارس 1957، يبدو جلياً أن النقيب عرف في أوساط القيادات العسكرية العملانية، مثل ماسو وبيجار والاثنان قادا "معركة" مدينة الجزائر في 1957، بمباشرته الأعمال الأمنية الوضيعة، مثل التعذيب والتصفية والاغتيال، من غير تردد. وعلى شاكلة بو منجل زعمت الرواية الرسمية الفرنسية ان بن مهيدي انتحر شنقاً. ولم يصدق الرواية تلك يومها إلا من شاء التصديق وأراده على رغم غرائب الرواية الرسمية وعجائبها. ولا يقتصر الجنرال السابق على الإقرار بأنه ضلع في قتل الناشط الجزائري، بضاحية من ضواحي المدينة تبعد عشرين كلم جنوبها، في مزرعة على حدة من الطرق الى يسار الطريق، على قول الجنرال كان يملكها أحد فرنسيي الجزائر. فهو جمع عشرين رجلاً من الفرقة الأولى، ونقل بن مهيدي في سيارة "دودج" أميركية الصنع الى المبنى، وعزله في حجرة من الحجرات، وتعاون مع مرؤوسيه على شد الحبل على عنق الضحية وتزوير الانتحار. وفوق هذا كله كشف أوسّارسْ أنه كان كتب التقرير عن "الانتحار" قبل يوم تام من إجرائه، وأودَعه تفاصيل عمله على ما لم تكن حصلت بعد وعلى ما حصلت من بعد. بعث دعاوى قتل وذهب مراقبون فرنسيون، من معاصري هذه الحوادث ومن المنددين بها مذذاك في صفوف لجان ناهضت التعذيب والحرب الفرنسية في الجزائر، ذهب هؤلاء الى أن ما كشفت اعترافات الجنرال السابق عنه فعلاً قد لا يكون ملابسات بعض حوادث التعذيب والتنكيل والقتل أولاً، بل تورط السياسيين في التستر على هذه الحوادث، وإباحتهم إياها من غير قيد للعسكريين والقيادات العسكرية. ويتقدم فرنسوا ميتران، الرئيس الفرنسي السابق ووزير العدل يومها من شباط/ فبراير 1956- الى حزيران/ يونيو 1957، المتورطين هؤلاء. فهو أوكل الى أحد القضاة، جان بيرار، "تمثيله" لدى الحاكم العسكري الفرنسي الجنرال ماسُّو. ويقول أوسَّارِسْ أن "ممثل" وزير العدل هذا كان يتولى "تغطية" الأعمال التي بادرت إليها الفرق الأمنية من غير حسيب قضائي ولا رقيب قانوني. ويروي ضابط الأجهزة الخاصة ان القاضي هذا نبهه، حين اعتقال العربي بن مهيدي، الى تفتيش المعتقل ومصادرة السم الذي لا بد ان يكون بمتناوله، شأن القادة الآخرين. فينسب الراوي الى الحسيب القضائي المفترض "فكرة" انتحار الناشط والمسؤول الجبهوي، وتمويه قتله انتحاراً. وهذا، بديهة، من غرائب الحسبة القضائية والعدلية. ولكن الحق ان رئيس الجمهورية اللاحق ووزير العدل يومها لم تقتصر علاقته بالحملة الفرنسية العسكرية على القاضي المتواطئ، جان بيرار. فهو أوكل الى قاضٍ آخر، المدعي العام جان روليكيه، مراقبة اضطلاع الجيش الفرنسي بأحكام حال الطوارئ، أو حال الحصار التي انتدبته السلطة السياسية، التنفيذية والاشتراعية، الى توليها وتدبيرها. ولم ينقض شهران على انتداب ميتران المدعي العام روليكيه حتى نبه هذا وزيره، في النصف الأول من نيسان ابريل 1956، الى انتهاك العسكريين انتهاكاً متواتراً وخطيراً حقوق الموقوفين الجزائريين.ولكن روليكيه هذا كان على خلاف حاد مع زميل ميتران في الحكومة الاشتراكية رئيسها غي موليه، الوزير المقيم على ما كان يسمى، أي "المندوب السامي" روبير لاكوست. فلم يستقبل لاكوست المدعي العام روليكيه إلا ثلاثة أشهر بعد تعيينه. وعلى الضد من إقراره بالضلوع في قتل بو منجل وبن مهيدي يتنصل مسؤول شعبة التدخل في جهاز المخابرات من العلم بمن قتل الأستاذ الجامعي الفرنسي الجزائري والشيوعي موريس اودان، في 21 حزيران 1957. فهو يكرر في مقابلتين مع الصحيفة اليومية "لوموند" في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2000 وفي 3 أيار/ مايو 2001 أنه لم يرَ موريس أودان إلا مرة واحدة، في أحد مباني الاعتقال والتعذيب، وكان يرافقه هنري أليغ، الصحافي الشيوعي الفرنسي الجزائري وصاحب شهادة "الاستجواب"، والطبيب حجاج. أما ما ينسب، على وجه قريب من اليقين، الى العقيد شاربونييه، أحد ضباط المخابرات والتعذيب "الكبار"، من الضلوع في تشبيه محاولة هرب كانت ذريعة الى الاغتيال، فينكر أوسّارِسْ علمه به. فهو يردد تهمة عسكريَّيْن برتبة عريف، اسم احدهما ايف كُويومو واسم الثاني بيير ميستيري، بقتل الأستاذ الشاب 25 عاماً من غير قصد، ومن غير العثور على جثة السجين الهارب. ولم يكد يخرج كتاب ضابط المخابرات الى الملأ حتى رد عليه العريف السابق ايف كُويومو في صحيفة "جمهورية البيرينيه"، في 13 أيار 2001 فاتهمه بدوره بالتستر على "أحد". ويقر كُيوومو، اليوم، بأنه كان يحرس، وزميله ميستيري، موقوفاً مقنعاً في ليلة 21 حزيران 1957. وكان الثلاثة في سيارة "جيب" عسكرية. ويشك، العريف السابق في هوية السجين المقنع الذي أفلح في الهرب من حارسيه، ولم يصبه رشق رشيش بيير ميستيري نحوه. فهو لم يره تحت قناع كان يلف رأسه ووجهه الى أسفل رقبته. ولم تنتظر أرملة موريس اودان، وأم أولاده الثلاثة، التحقق من أقوال العريف السابق، وهو أعلن رغبته في بعث التحقيق في المسألة والشهادة فيها. فطلبت الى موكلتها المحامية نيكول دريفوس الادعاء على من يظهره التحقيق ضالعاً في قتل زوجها قبل أربع وأربعين سنة. ويذهب مراقبون وناشطون كثر الى أن حظ دعوى السيدة جوزيت اودان من القبول، وهي دعوى بجرائم في حق الإنسانية، راجح وكبير. ويرجَّح قبول هذه الدعوى، على خلاف دعاوى أخرى بالجريمة نفهسا أو بجرائم الحرب وإلى اليوم رفعت ثلاث منظمات غير حكومية ثلاث دعاوى من الصنفين، لأن جثمان القتيل أو "جسم الجريمة" لم يعثر عليه، وبقي خفياً. وخفاء الجثمان يبطل العفو العام عن جرائم الحرب الفرنسية في الجزائر وطاول العفو، في 1968، الفرنسيين والجزائريين جميعاً، ويُخرج الجريمة من قانون العفو هذا. والخفاء نفسه يمتحن ما يعرف "بفتوى بوداريل" أو "اجتهاد بوداريل" نسبة الى شيوعي فرنسي ضلع في تعذيب معتقلين فرنسيين في معسكر اعتقال فيتنامي شيوعي في أثناء الحرب الفرنسية "الهند الصينية" الفيتنامية الأولى، أبطل القضاء الفرنسي ملاحقته في 1993 عملاً بمبدأ حقوقي ينص على عدم جواز ترتب مفعول ارتجاعي على التشريع، فإذا دخلت معاقبة الجرائم في حق الإنسانية، منذ 1994 وإنشاء محكمة الجزاء الدولية، في صلب قانون الجزاء الفرنسي، فالقانون الجديد لا يسري على القضايا والدعاوى العائدة الى حوادث منصرمة. ولكن مفعولاً جزائياً آخر لم يُحتسب ترتب على رواية النقيب السابق. فهو روى، في جملة ما روى، ان زيغود يوسف، قائد منطقة فيليبفيل سكيكدة، أمر ناشطيه، في 20 آب اوغسطس 1955، بقتل الأوروبيين المدنيين المقيمين في بلدة الحلية، على بعد 22 كلم الى الشرق من المدينة. وكانت البلدة تعد ألفي جزائري "مسلم" على ما يكتب الرجل ومئة وثلاثين أوروبياً، وبجوارها منجم تستخرج منه مادة من مشتقات الحديد ويعمل فيه الجزائريون والأوروبيون. وينسب الجنرال المتقاعد "حكماً" الى قيادة جبهة التحرير التوسل بفظاعة مقتلة الأوروبيين عن أيدي جيرانهم الى قيام الجيش الفرنسي على الأهالي وقمعهم قمعاً أعمى يؤدي الى لحم الأهالي وتكتلهم وراء جبهة التحرير، وإلى تدويل المسألة الجزائرية ولم يكن انقضى، في صيف 1955، غير احد عشر شهراً على ابتداء حرب الاستقلال الجزائرية. ومثل هذا الاحتساب - أي التوسل بالقتلى وجثثهم وعددهم الى هز "الضمير الدولي" البليد - ما زال من أقانيم السياسات "العربية" الجماهيرية وأركانها الثابتة على مر الزمن وتقول السيدة سليمة غزالي، صحافية "لاناسيون" الجزائرية، أن "جيش الخارج"، أي القوات الجزائرية المرابطة على الحدود التونسية والجزائرية في اثناء حرب الاستقلال، كان يرى إلى "الشعب" في الداخل دمية يحركها ويناور بها. وجرت الأمور على حسب ما توقع قادة الانتفاضة الجزائرية "الشباب" والميدانيون. فهجم الأهالي على المدنيين الأوروبيين والمحتلين والمولودين منذ جيلين او ثلاثة في الجزائر، جيرانهم، وقتلوا خمسة وثلاثين منهم، وعذبوهم بأيديهم، ومثَّلوا فيهم أفظع مُثلة. ومن آيات التمثيل والترويع هذه سلخ الأطفال الرضع عن أحضان أمهاتهم وضرب الجدران برؤوسهم، وتحطيم جمجمتهم، وإشهاد أهلهم على نزعهم وعذابهم. ومنها كذلك اغتصاب النساء وتداول اغتصابهن وقتلهن حال الفراغ من الاغتصاب. وهذا من صور "ألبوم" عائلي تَثْرى صوره. ويروي نقيب قوة التدخل في الأجهزة الخاصة العاملة في الجزائر حواراً بينه وبين احد الجزائريين الستين الذين اعتقلتهم قوة فرنسية انتهى إليها خبر المقتلة بواسطة اثنين أفلحا في الهرب، فيقول أنه سأل الجزائري عن قتله الأولاد بيديه، ومسوغ مثل هذا القتل. فأجاب الجزائري ان مندوباً عن جبهة التحرير جاءهم البارحة، وأمرهم بالقيام على الأوروبيين والتمثيل بهم، وطمأنهم الى ان المصريين والأميركيين قادمون لنجدتهم ومساندتهم، فلا خوف عليهم جراء فعلتهم. فتلا الضابط الفرنسي على العامل الجزائري "قانون المظليين"، على قوله، وينص على قتل من قَتَل بيد من يمسك به أو يلحقه، من غير وساطة تحقيق قضائي أو إداري، ومن غير مقارنة بين الشهود، ولا تقدير التبعات المختلفة والمتفاوتة، ولا حق دفع. فالكل في الجريمة سواء، على ما هي الحال كذلك من جهة قادة جبهة التحرير الميدانيين. وعلى هذا أخذ أوسّارسْ ستين جزائرياً من الحلية، في الحال، مقاتلين وعمالاً "ساعدوا" المقاتلين، على ما يقر، أي ضالعين في القتل والثأر ومتفرجين لا حول لهم ولا قوة، وصفّهم صفاً واحداً ، وأمر جنوده بإردائهم واحداً واحداً. وهو "اضطر" الى تكرار الأمر بالقتل في الستين، كناية عن تحفظ مأموريه ومرؤوسيه من الجنود والرتباء عن الأمر. ويزعم الجنرال، اليوم، انه فعل ما فعل من غير تردد ولا إحساس بارتكاب فظيعة أو بانتهاك حرمة حرمة حياة إنسانية تقتل من غير توسط الحق وهيئاته وأحكامه أو حتى شعائره. فهو يكرر في كتابه، وفي أقواله الصحافية، أنه لم يتخوف القتل على نحو ما لم يخشَ ان يقتله عدوه - الألماني في الحرب الثانية التي خاضها مقاوماً شجاعاً، و"الهند الصيني" أو الفيتنامي في الحرب الفرنسية الشرسة على "الفيتِمْنه" في إمرة العقيد جاك باريس دولا بولاّرديير "ملاك المقاتلين" طهارة وجمالاً، والجزائري في "الحرب القذرة" الأولى-. ولم يشف الستون قتيلاً غليل النقيب المنتقم للأولاد والنساء بإرداء الأسرى من غير تمييز ولا تحقيق تهمة. فكمن ورجاله في منجم الحلية المهجور منذ المجزرتين. ولما عاد الجزائريون، على ما خمن وتوقع، الى مسرح الجريمة، وقعوا في الأسر. وكانوا مئة. ففعل فيهم ما فعله في الستين من قبلهم، أي أمر بقتلهم في الحال. ولم تحل المجزرتان بين إدارة الاحتلال الفرنسية وبين إحالة عشرات الجزائريين المظنونين على القضاء العسكري. وحكمت المحكمة، في شباط فبراير 1958، في خمسة عشر جزائرياً بالإعدام. وأبطلت محاكمة ثانية، في تشرين الأول اكتوبر من العام نفسه، معظم الحكم الأول ولم تثبته إلا في اثنين. وعادت المحكمة عن حكمها، على رغم عصف الميول والأهواء بالناس، لمّا نجح المحامون الفرنسيون، وكانت السيدة جيزيل حليمي بينهم وهي "سوداء القدمين" أي من أوروبيي الجزائر مولداً ونشأة وأحد الوالدين، في إظهار دور التعذيب والتقرير في إثبات التهمة على المظنونين الموقوفين. ويترتب، اليوم، على جهر الجنرال المتقاعد بمآثره الأمنية والحربية إبطال المحاكمة "في الأصل". فمظنونو فبراير وأوكتوبر 1958 نافلون، إذا جاز القول، بعد ان أقدم أقرب الشهود على قتل ستين رجلاً حضروا الجريمة على وجه من الوجوه. وعليه طلبت السيدة حليمي، في 8 حزيران يونيو 2001، ومعها "الأستاذ" ميشال زاوي، وهو كذلك من منشأ "أسود القدمين" وكان أحد محامي أهل الضحايا اليهود في محاكمة موريس بابون الموظف الفرنسي في إدارة فيشي المتعاونة مع الاحتلال النازي الألماني، طلب المحاميان النظر في القضية نظراً مستأنفاً وإبطال أصل الادعاء فيها. وهذا كذلك من المترتبات على "زيارة" التاريخ ووقائعه غداة نيف وأربعة عقود على هذه الوقائع. المرارة والعقل والمناقشات الكثيرة والمتداخلة التي أفضى إليها تذكر جنرال التدخل الأمني، وقائد "لواء الموت" السابق - على ما وصفته صحيفة "ليبراسيون"، وعقدت ضمنياً مقارنة بينه وبين قَتَلة الجيش البرازيلي غداة استيلاء قادته على الحكم، وقَبِل أوسّارِسْ الصفة - هذه المناقشات مبناها على مسائل الدولة الديموقراطية والحكم الديموقراطي، اليوم والآن. وليس مبناها على استعادة مريرة - على رغم وسم المؤرخ وصاحب "لجان موريس أودان" المنددة بالتعذيب الفرنسي، بيار فيدال - ناكيه، مقالة في إقرار أوسّارسْ المتأخر ب"النصر المرير" - لماضٍ قاسٍ. فما تخلص إليه المناقشات هذه، وهي تتكلف الخلوص الى شيء ولا تقتصر على حثو التراب وشق الجيوب والهيام على الوجه، يتصل من وجه أو آخر بمسائل فعلية. وتجوز التسمية في هذه المسائل. وهي تستدعي الحلول والإجراءات والمسالك المؤدية إليها. وفي هذا الضوء استأثرت مسألتان هما دور القضاء في الأزمات السياسية والأهلية الكبيرة، ومسؤولية رجل السياسة والجندي والمواطن تالياً الخلقية والمعنوية، بشطر راجح من المناقشة والفحص. ولعل بعض السبب في نصيب المسألتين من المناقشة هو المآل الذي آلت إليه معالجة المسألتين في إطار الهيئات السياسية والمجتمعية الفرنسية في أثناء العقد الذي أعقب ختام حرب استقلال الجزائر في 1962. فالحط بالقضاء الى درك آلة من آلات مكافحة الحرب الثورية أو الحرب عليها، على ما ذهب إليه الجنرال راوول سالان أحد قادة الحرب الفرنسية وقائد محاولة الانقلاب على ديغول في 1961، وتجنيده في الحرب الاستعمارية - على قول خصمين من خصوم الاستعمار وحربه فرنسيس جانسون صاحب "حملة الحقائب" وملجئي الجزائريين في فرنسا الى ملاجئ آمنة وجيزيل حليمي "الأستاذة" التي مر الكلام عليها -، هذا الحط أفضى، في 1968، الى إنشاء "نقابة سلك القضاء"، واضطلاعها بالمحاماة عن الحريات الفردية، وعن القضاة حماتها من القضاء الاستثنائي. وتربط المؤرخة سيلفي تينو، صاحبة أطروحة دكتوراه في "العدالة في حرب الجزائر"، بين التلفظ بألف وخمسمئة حكم بالإعدام، في السنوات 1954 الى 1962 أنفذ منها 198 حكماً، وبين إجابة عامة الفرنسيين الدعوة الى إلغاء عقوبة الإعدام، في 1981. وهذا الإلغاء باكورة من بواكير إجراءات ولاية فرنسوا ميتران الأولى، وزير العدل الذي صدّق إعدام مئة مدان في سنة 1957 وحدها من 198 إعداماً أنفذت. واجتمع في الرئيس الفرنسي السابق، أي في سياسته وإجراءاته وفي أفكاره وأحكامه، العمل على تحصين القضاء والقضاة من التعسف السياسي وصلف القوة، والسعي في حماية حياة البشر الأفراد من العدوان عليها بذريعة مصلحة الدولة و"داعيها" ومسوغها. وهما اجتمعا، كذلك، في الحزب الديغولي، وفي اليمين الوسط الفرنسي، على نحو آخر. فكانت تسمية "عمليات حفظ الأمن" في المستعمرة الجزائرية السابقة على ما سميت حرب استقلال الجزائر الى 1999 حرباً صريحة ومن غير استعارة، من إنجازات هذا الاجتماع. فبقي اليمين القومي والأصولي الفرنسي، والعَلَم عليه جان -ماري لوبين "صديق" العرب على اليهود والأميركيين، وحده خارج تدبر الحرب الفرنسية الجزائرية وإدراجها في التاريخ الوطني الفرنسي إدراجاً معقولاً ومفيداً معنىً. وحين ينظر الفرنسيون في هذه الحقبة من تاريخهم نظراً فاحصاً يروّعهم منه جر الحرب الاستعمارية هيئاتهم ومؤسساتهم، وجرها الشعب الفرنسي تالياً الى التهاون في إعمال الأصول السياسية الديموقراطية مثل فصل السلطات، واستقلال القضاء، وتقدم الإنفاذ الإداري والأمني والعسكري التكليف السياسي والشرعي. وهذا ما تظهره المقارنة بين أوقات وقوع الحوادث والانتهاكات وبين ملابسات القرارات السياسية الحاسمة. ففي نيسان ابريل 1955 أعلنت الحكومة الفرنسية حال الطوارئ في محافظاتالجزائر "الفرنسية" الثلاث. وسنَّ قانون الطوارئ هذا الإقامة الجبرية والاعتقال الإداري، ورفع رقابة العدالة وقيد المدة عن الأمرين. وأوكل الى المحافظ، رأس السلطة الإدارية، البت فيهما. ووَسع السلطة الإدارية التخلي عن صلاحيتها في البت الى القوات المسلحة، بحسب القانون نفسه. وأحال الجرائم الى القضاء العسكري، وأبقى الجنح في عهدة محاكم الجزاء. وأبقى القانون التحقيق في الجرائم في عهدة القضاء المدني، وأطلق يد القضاء العسكري في الحكم فيها. وأبطل الاقتراع النيابي، في آذار مارس 1956، على السلطات الاستثنائية تمييز الاختصاص هذا. وأخرج من يد القضاء المدني التحقيق، وضمه الى القضاء العسكري. فوسع القوات المسلحة مذذاك تعقب من تتهم، وتوقيفه، واعتقاله الوقتَ الذي ترتأي وتقدر، والتحقيق فيما تنسبه إليه، ولفظ الحكم في حقه من غير جواز استئناف أو نقض، وإنفاذ العقوبة على الشروط التي تراها، من غير ان يكون في مستطاع هيئة اخرى مراقبة الجسم العسكري وإجراءاته القضائية. ولكن طي الجهاز العسكري علي نفسه، وسد المنافذ وطرق المحاسبة إليه، لم يفيا باحتياجات الجهاز الى "الأخبار" أو "المعلومات". فليس إقرار الموقوفين بما تنسبه إليهم القوة العسكرية، في حربها على الحرب الثورية، من تهم ٍهو ما يقض مضجع القوة العسكرية "العاملة". وعلى رغم غلبة المشاغل العملية، أو مشاغل التدخل الأمني، على المشاغل القانونية، تخلت السلطة السياسية، واستقلال القضاء في عهدتها، عن سلطة تعيين المدعين العامين، وجعلت هذه السلطة بين يدي المراتب العسكرية، في شباط فبراير 1960. وجمعت في يد القضاء العسكري وحده الجرائم والجنح جميعاً، من الظن الى إنفاذ حكم الإعدام. وتقع أخبار الجنرال أوسَّارس ورواياته في السنوات الثلاث 1955 الى 1957 التي بلغ فيها المنطق الاستعماري ذروته. ففي الأثناء خرجت القوة العسكرية المحض من عقال الحل والعقد السياسيين، ومن قيد هيئات الدولة على القوة المحض. وحين اوكلت قيادة الجيش الى النقيب الالتحاق بفرقة فيليبفيل، في أوائل 1955، ولمّا تمر أشهر قليلة على قيام ناشطي جبهة التحرير الوطني على الدولة الفرنسية، استقبله قائد الفرقة بطلب "خدماته" في ريف المدينة. وأخبر العقيد كوكبورن القادم الجديد ان استخراجه خبراً دقيقاً، اسماً أو مكاناً، في الوقت المناسب قد يحفظ حياة بشر كثر من القتل. و"طمأنه" الى أن قوى الأمن المحلية، من شرطة ودرك، لا يتوانون عن استعمال الضرب وتسليط التيار الكهربائي والخنق بالماء في إزهاق الأنفاس في أعمال التحري التي يقومون بها. فإذا ثبت للقادم ان الناشطين الذين يستجوبهم ليسوا "أبطالاً" بل "بهائم"، لم يبق حاجز يحجز بينه وبين مباشرة أفظع العنف فيهم وعليهم. ولا يتساءل الضابط المسن عن داعيه الى مباشرة مثل هذا العنف. فهو يقنع من التعليل بسرد بعض وقائع تاريخه. ففي خريف 1942 عزم الفائز الأول بالترجمة الى اللاتينية، والحائز على إجازة من جامعة بوردو في اللغتين القديمتين وفقههما، وولد مؤرخ وصحافي، عزم على ترك الدراسة الأدبية "الكلاسيكية"، والالتحاق بشارل ديغول وجهاز مخابرات فرنسا الحرة بلندن، وبالجيش الفرنسي المحارب في فيتنام "الفرنسية" بعد الحرب. وفي أثناء قيامه بأعمال المقاومة السرية - وهو هبط وراء الخطوط الألمانية بفرنسا وألمانيا، وأدى مهمات يقدَّر الناجون منها بحياتهم بأقل من ثلث المتطوعين - لم يتورَّع، على ما يقول، لا عن السرقة ولا عن القتل والعنوة والإرهاب والكذب. فرأس الفضائل، على زعمه وزعم اصحابه وأمثاله، العصبية "القومية" الفرنسية، ولا تتقدم فضيلة خلقية خدمة فرنسا. وهو لم يكد ينزل سكيكدةالجزائرية أو فيليبفيل "الفرنسية" حتى انفجر العنف فيها، وتهددَ الإدارةَ الفرنسية باجتياح المدن بعد فُشوه في الأرياف وانتشاره فيها. وتصدرت مسألة انتقال العنف الجزائري من الأرياف الى المدن سياسة جبهة التحرير الجزائرية. فما بقيت انتفاضة الاستقلال في الأرياف والجبال وسع السلطات الفرنسية قمعها، وحجبها عن الرأي العام الدولي وعن الرأي العام الفرنسي نفسه. فتسابق الجيش الفرنسي وجبهة التحرير الوطني الجزائرية على المدن، وعلى العاصمة خصوصاً. وتوسل العدوّان الى غايتيهما المتقابلتين والمتنافيتين بكل الوسائل. فأوكلت الحكومة الفرنسية برئاسة غي مولّيه كانون الثاني/يناير 1956 الى الجنرال ماسّو، على رأس الفرقة المظلية العاشرة، وغداة الاقتراع على السلطات الاستثنائية، "سلطات الشرطة" في الجزائرالمدينة الكبرى، و"استئصال الإرهاب" مهمته الأولى. وعهد ماسّو الى أوسّارِسْ بالتدخل، أي باصطياد شبكات الناشطين واستدخالها بواسطة عملاء يقودون جهاز الرصد والاستطلاع الى قلب العدو. ونجح أحد عملاء النقيب الأمني في شبكة جبهة التحرير بالجزائر، وكان العميل هذا يتولى الاتصال لياصف سعدي "والي" ولاية العاصمة، نجح في توقيف سعدي. وأخبر هذا عن علي "لابوانت"، ريّس الناشطين الميدانيين من ناقلي المتفجرات القاتلة ومخبئيها في زوايا المقاهي والمطاعم ومرابع الرقص، على جاري سنة لم تطوَ ولم تتبدل الى يومنا. وفي هذا السبيل، في سبيل استدخال الشبكات، ازدوج "العامل" الأمني والاستخباري اثنين: فكان في نهاره موظفاً إدارياً ومكتبياً، وفي ليله "شاطراً" أو "زاعراً"، يحوطه عشرون مساعداً، قسمهم قسمين أو فريقين، وحرص على الحجز بين الفريق والآخر. فكان يغِير غاراته الليلية على الناشطين الجزائريين في ضوء تقارير الاستخبار والرصد النهارية، ويعود بطرائده، ومعه فريقه، الى منازل على حدة لم تلبث ان اشتهرت وذاع صيتها الكريه. فيستجوب بالكهرباء والماء والتهشيم من يعود بهم الى "كهوف" المنازل المستترة، أي الى الدور السفلي أو سرداب المنزل. فإذا انتهى من الاستجواب، على النحو الذي كان يجري عليه الاستجواب ووصفه أحد ضحاياه الناجين منه هنري أليع وصفاً مشهوراً، استحال على النقيب العتيد نقل ضحيته إلى قضاء التحقيق أو الى سجن الشرطة ومخفرها، جراء انقلاب الضحية بين أيدي المستجوبين الى حطام. فكان "الأسلم" الإجهاز على الضحية، وإنكار أي إجراء رسمي طاولها. وعلى هذا قضى عدد لم يحصى بعد إحصاء دقيقاً وإسمياً. أما النظير الجزائري للحرب الفرنسية، عنفاً وإرهاباً وتخففاً من قيود السياسة والحق، فيحمله محمد حربي، المؤرخ منذ انقلاب بومدين على بن بلة وأنصاره وحربي منهم، على اختبار الريف الجزائري تسلط المعمرين الأوروبيين على الأهالي تسلطاً ثقيلاً. ولعل مصادرتهم على أراضيهم أثقل وجوه التسلط هذا والباعث الأقوى على الانتقام المتوحش والدامي على ما ذهب إليه مؤرخ فرنسي من أصل مغربي هو بنجامان ستورا. ويذهب الناشط السابق الى أن حرب الاستقلال فاقمت ثقل القمع على كاهل أهل الأرياف. ف"رغب" هؤلاء "في توسيع الحرب الى المدن، والانتقال الى الإرهاب المديني" من مقال محمد حربي في يومية "لوموند"، في 12 ايار/ مايو الفائت. وترتبت على هذه "الرغبة" أو "الأمنية"، حرفياً حلقات وأفعال لا راد لترتبها وتسلسلها: فالخلل في ميزان القوى وفي الوسائل، وإرهاب الدولة الفرنسية وهي حجج لا تحول ولا تزول حتَّما التوسل بالإرهاب. أي أن المناقشة الجزائرية التي بعث عليها إقرار الجنرال المتقاعد، ورأي محمد حربي قرينة عليها، لزمت التسويغ والتضليل والكناية. فأشاحت الوجه عن "طبائع" الانتفاضة الاستقلالية، على ما يجري اليوم في بقاع "عربية" أخرى. فأهل المدن الجزائريون لم يلبوا دعوة القيادة السياسية الضعيفة الدالة، والمتواضعة التجربة، والهزيلة الثقافة والأفكار، والمنقسمة على نفسها، والمتوسلة بالمناورة بالأنصار والجماهير، والسريعة الى "الأمن" الداخلي وإجراءاته القاتلة تداركاً للخلاف الى القيام على السلطة المستعمرة. ولم تتحول الانتفاضة الى ثورة شعبية وسياسية، حتى قبل القمع وعمومه. ومرد هذا، على وجه جزئي، الى أن معظم النخب الجزائرية كانت ابتدأت منذ بعض الوقت مسير الدخول في العالم الأوروبي، على رغم مصاعب هذا الدخول وسطحيته. فلم تلق الدعوة الى الانسلاخ من هذا العالم صدى عميقاً في أوساط هذه النخب، ما عدا أضعفها دالة، وأفقرها تجربة سياسية وأهزلها ثقافة وهي حال القيادات الفلسطينية "المنظمة"، وحال القيادات اللبنانية الحزب اللهية و"القومية - الاجتماعية".... ويظهر الفرق بين المناقشة الفرنسية وبين التسويغ الجزائري ويذهب جيم هواغلاند، من "الواشنطن بوست"، في صدد مناقشة أميركية مدارها على بعض وقائع الحرب الأميركية في فيتنام الى ان المجتمعات تتقصى تاريخها في ضوء قيمها الراهنة في بعث المناقشة الفرنسية موقف الجنرال دولا بولاّرديير الذي كان أوسّارِسْ في إمرته في الهند الصينية. فبولاّرديير ترك الجيش الفرنسي استنكاراً للتعذيب، وهو الجندي الكبير، في مقاومة الاحتلال الألماني ثم في الحرب الاستعمارية الفيتنامية و"رفيق" ديغول والمسيحي المؤمن. ولم يتذرع الجندي المحارب بالمعايير الخلقية، وإدانتها التعذيب وتعليلها الإدانة بحط التعذيب من كرامة صاحب التعذيب ومن إنسانية من يقع عليه معاً، وحسب. فهو ذهب الى أن التعذيب، والعنف العشوائي الفائض عن الحرب والقتال، إنما يخطئ الغاية من الحرب، ويتوسل الى بلوغ الغاية التي يسعى فيها وهي رضوخ العدو بوسائل تؤدي الى الإعلاء من شأن "عقلانية القيم" في صف العدو هذا. فالعدو المستميت، والحال هذه، يُخلِص لقيمه، ويبني أفعاله عليها، على حين تضيِّع الدولة التي تغض النظر عن التعذيب استقامة استلهامها هذه القيم. فالمنتصر، اليوم، ليس من نجح في إطفاء معركة الجزائر في 1957 أو استولى على حكمها في 1962، بل من يبعث على مناقشة شرائط دولة الحق واستتبابها مناقشة حارة، وعلى التزام هذه الشرائط. * كاتب لبناني.