السعودية تستضيف الاجتماع الأول لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب    المياه الوطنية: خصصنا دليلًا إرشاديًا لتوثيق العدادات في موقعنا الرسمي    ارتفاع أسعار النفط إلى 73.20 دولار للبرميل    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أديب سعودي حققت روايته نجاحاً في فرنسا . داعياً إلى الاعتراف بقيمة الفرد ومعتبراً المعرفة خلاص العالم . أحمد أبو دهمان : علمني والدي أن أنظر إلى المرأة بعين القلب
نشر في الحياة يوم 10 - 07 - 2000

يعترف أحمد أبو دهمان بهزيمته الداخليّة، لأنّه لم يعش النموذج الشعري والحياتي الذي كان ابتناه لنفسه ، لكن ذلك لا يمنعه من التفاؤل بمستقبل البشريّة. وهذا الأديب السعودي الذي كتب روايته الأولى "الحزام" بالفرنسية، فحقق نجاحاً مدهشاً في باريس خلال أشهر قليلة، يعتبر أن "الفن الروائي إعادة صياغة للعالم". لذا تراه انطلق من قريته الطوباويّة البعيدة، لينسج بشاعريّة لافتة عالماً نموذجيّاً، هو في الموقع النقيض للمجتمعات الغربية الحديثة. "جئت باريس من عالم حافظ على بكارته وعلى شفافية الإنسان الأولى... وها هم قرّائي الفرنسيون يحلمون بالهجرة إلى قريتي"، يلاحظ الكاتب الذي اكتشف في اللغة الفرنسية "نزعة ذكورية عجيبة". أما المثقّفون العرب الذي يعيشون مثله في الغرب، فيعتبر أنّهم لا يعون معنى العالم العربي على الإطلاق، إذ ان "معظمهم ارتبط بثقافة غربية، ويسعى لنقلها من دون فهم تكوين مجتمعاتنا تاريخياً وانتروبولوجياً واجتماعياً".
قفز اسم الكاتب السعودي أحمد أبو دهمان دفعة واحدة إلى واجهة الشهرة الأدبية في فرنسا. فمنذ ظهور روايته الأولى "الحزام"، أواخر آذار مارس الماضي، عن "دار غاليمار" الباريسية المرموقة، أعيد اصدارها في خمس طبعات متتالية. وهكذا احتل هذا النص الأدبي الذي يعد أول عمل سعودي مكتوب باللغة الفرنسية، موقع الصدارة في قائمة مبيعات الكتب في فرنسا طوال أسابيع. يحلق أبو دهمان، من خلال نصّه الذي يقع في منطقة وسطى بين الرواية والسيرة الذاتية والنثر الشعري، في عوالم الطفولة وذكرياتها، فيعرف القارئ بقرية بني قحطان مسقط رأسه، تلك القرية التي "حافظت على بكارتها، وكينونتها الأصلية، وعلى شفافية الإنسان الأولى"، وبقيت بمنأى عن "حضارة الغرب، وجهنمية المجتمعات الاستهلاكية".
ورواية أبو دهمان، تقع على نقيض ما هو رائج في الأعمال الأدبية العربية المكتوبة بلغة موليير، حيث تسود حالة تملق إلى الغرب ونزعة دائمة إلى امتداحه وذم المجتمعات العربية، وتصويرها بنظرة فوقية تدغدغ المخيلة الغربية. فهذا التوجه لا يكاد يشذ عنه من كتاب اللغة الفرنسية العرب، سوى أمين معلوف، وربما بدرجة أقل رشيد بوجدرة. صحيح أن أبو دهمان يثمِّن الحداثة الغربية، ويشيد بعصرنة المجتمعات الأوروبية التي أعطت الفرد كامل حقوقه، مقارنة بالمجتمعات الأخرى حيث الفرد ""مجرد خلية لا حياة مستقلة لها، بمعزل الجسد القبلي الواحد"، إلا أن نظرته إلى الغرب يشوبها الكثير من التحفظ والخيبة، بسبب ما يعانيه من "تسليع" العلاقات الإنسانية. والكاتب السعودي يعيش، بالتالي، حالة من الحنين إلى قريته وحياتها الناعمة التي تدور في عالم شبه خرافي، يفتخر بأنه عالم "لا نُقودَ فيه ولا حتى سلة مهملات"! فحياة تلك القرية تسير على إيقاع الشعر والغناء، حيث "تختلط أصوات الأجداد بالأرض كسماد وغذاء للزرع، فتثمر كل هاته الخيرات الطبيعية". وهذا التداخل السحري بين الشعر والأرض، في حياة القرية، يلخصه الراوية بقوله : "نحن هنا في القرية نغني لترقص الحياة" !
والراوية هنا هو ذلك "الشاعر الذي لم يكتب ولو قصيدة واحدة" ، لأنه يعيش ويتنفس الشعر في علاقته بالأرض وبالطبيعة وبحياة القرية التي تعتبره حكيمها، وحارس عاداتها وتقاليدها، وحامل ذاكرتها وحضارتها. والقرية في الرواية تستميت في التمسك بطريقة عيشها البدوية البسيطة، وثقافتها الشفوية التي يشكل الشعر الشعبي والغناء عمادها. ويصل ذلك بناس القرية إلى حد رفض المدرسة، واعتبارها أمرا دخيلا وعدائيا. ومع ذلك لا تلبث المدرسة أن تتسرب تدريجاً إلى حياة القرية، على رغم تحفظ معظم السكان ومقاومتهم. وعبر المدرسة، تبدأ التغييرات والتحولات تطرأ على حياة القرية، حيث يضطر أبناؤها، من أجل إتمام الدراسة، إلى الاحتكاك بحياة المدينة ومتطلباتها... ومنهم الراوية - الشاعر الذي تحتل سيرة اغترابه في المدينة جزءاً مهمّاً من فصول الرواية وأحداثها. فهذا الأخير يبتعد عن مسقط رأسه، متخلياً عن عيشته الرغدة والبسيطة في آن، ليلتحق بمدينة الرياض في مرحلة أولى، ثم ليحل بباريس في مرحلة لاحقة، حاملا معه أطياف قريته وذكرياته وشاعريته السليقية التي تدفع به إلى "الصراخ - الكتابة"، للتعبير عن رفضه جهنمية المجتمعات الاستهلاكية التي تسلّع العلاقات الإنسانية وتبلِّد الأحاسيس.
والرواية بذلك مرافعة رقيقة في الدفاع عن حرارة القيم الإنسانية التي تميز المجتمعات البدوية، لكنها في الوقت نفسه تطلّع مخلص نحو "العصرنة" التي يراها المؤلف مرادفاً لتحرر الفرد من ضغط الجماعة وتبعيته لها. ولكن يبقى السؤال المؤرق : كيف السبيل إلى تحرر هذا الفرد من دون أن يؤدي ذلك إلى ضياعه وشقائه، ومن دون انقطاع حبل الصلة نهائيا بينه وبين الجماعة، بما يجعله - كما في المجتمعات الغربية - يفتقد لأية حساسية تجاه معاناة الآخرين وآلامهم ؟ في مناسبة صدور الطبعة الجديدة من "الحزام"، إلتقينا أحمد أبو دهمان.
تلقي روايتك الأولى "الحزام"، منذ صدورها رواجاً كبيراً في فرنسا، حيث صدرت منها خمس طبعات في أقل من أربعة أشهر. كيف كان تأثير هذا النجاح عليك ؟ وأي تغيير أحدثه في حياتك ؟
- لقد كانت الكتابة دوماً بالنسبة إليَّ هزيمة وصراخاً. والصراخ في عرف القبيلة عندنا هزيمة. وأنا أعترف أني انهزمت، لأنني ابتنيت لنفسي نموذجا حياتيا وشعريا، وكان يجب أن أعيشه، لا أن أكتبه لكنني وصلت إلى مرحلة من الاختناق الداخلي، وأحسست معها بالانهيار، فلم أعد أستطيع الحياة وفق نموذجي الشعري. ولذا وجدتني أكتب، أي أصرخ... أما بخصوص ما أحدثته رواية "الحزام" من تغيير في حياتي، فأعتقد أن أهم تغيير هو كون القارئ الفرنسي الذي احتضن هذا النص وأحبه، استطاع أن يحوِّل تلك الهزيمة انتصاراً. فالكثير من القراء الذين يراسلوني أو ألتقيهم أثناء حفلات توقيع الكتاب، ومنهم عدد من المحللين النفسيين المختصين بمعالجة معاناة الناس وآلامهم النفسية، صارحوني بأنهم وجدوا في الرواية سندا نفسيا، وكثيرون يقولون لي: "لقد عالجتنا"! وأنا سعيد للغاية بهذه العلاقة الحميمة التي باتت تربطني بالناس، من خلال رواية "الحزام"، إلى درجة أن كثيرين ممن قرأوا هذا النص، أحسوا هم أيضا بدورهم بهذه العلاقة الحميمة.
هل سبب هذا الاختناق بعدك عن مسقط رأسك ؟
- كلا، بل هو اختناق إنساني، بحكم كل هذه الحروب وكل هذه الجرائم التي تنقلها لنا وسائل الإعلام يومياً. ثم أنني بحكم ما أصادفه في شوارع باريس، حيث نرى كل يوم الناس وهي تموت، ونقف عاجزين عن تقديم أي سند لهم. وفي كل مرة أمر بإنسان يموت وينطفئ ببطء، وسط لامبالاة الجميع، أرى نفسي تموت هي الأخرى، وبرفقتها كل القيم الجميلة التي تكمن في داخلي كانسان. وأنا اعتبر ذلك هزيمة شخصية ومؤلمة.
لكن حالة اللامبالاة العامة حيال المعاناة الإنسانية، ليست حكرا على باريس، بل هي من سمات عصر بأكمله...
- لم تكن قريتي معزولة عن العالم تماماً، وكنا نتلقى بالفعل أخبار الحروب والمآسي التي تحدث عبر العالم. لكن حياتنا في القرية كانت من السعادة بحيث أن تلك الأخبار كانت تمر بشكل عابر، ولم نكن نتوقف عندها كثيراً. ربما لأن القرية كانت شديدة البعد عما يجري في العالم . وبسبب ذلك البعد الإعلامي والثقافي الذي كان يفصلنا عن تلك الأحداث والمآسي، لم نكن نتأثر بها كثيراً. ولكن القرية بدورها كانت لها حروبها الصغيرة ومشاكلها وتناقضاتها، مثل أي مجتمع. وأنا لا أقول أنني جئت إلى باريس من عالم معصوم عن الخطأ، بل جئتها من عالم إنساني أيضاً. لكنه عالم حافظ على بكارته وكينونته الأصلية، وعلى شفافية الإنسان الأولى. وهذا ما حاولت نقله في روايتي وإبلاغه للقارئ الفرنكفوني. واتضح لي من ردود فعل القراء أنهم وجدوا في تلك القرية كل ما يحلمون به، حتى أن الواحد منهم يتمنى لو يستطيع الهجرة إليها. وكثيرون من القراء الذين ألتقيهم يسألونني: هل هذه القرية موجودة بالفعل؟ وهي فعلاً موجودة، إذ كتبت بشكل واقعي إلى حد ما، عن مواصفات قريتي وسماتها العامة. ولكنها ليست تماما قريتي الأصلية، فالفن الروائي يتطلب منا دوما إعادة صياغة العالم.
لولا الحلم
هل بإمكان الكاتب الروائي أن يعيد صياغة العالم ؟ وبأي منظور في رأيك ؟
- يمكن للكاتب إعادة صياغة العالم من منظور شعري. ويحق للشاعر أن يحلم بعالم أكثر إنسانية وسلاما وطمأنينة. ولولا هذه القدرة على الحلم، لما أمكن لي شخصياً أن أجد القدرة على الاستمرار في العيش. و أنا على يقين من أن هذا الحلم بإمكانه أن يتحقق، وأن ما يحدث الآن، وما حدث على مدار تاريخ البشرية، سيوصلنا في النهاية إلى عالم أكثر سلام وحميمية وإنسانية. ما يحدث الآن هو نتيجة جهلنا نحن بشر، بعضنا بالبعض الآخر. فالغربي يجهل الشرقي وبالعكس. وحتى في عالمنا العربي، نجد المشرق يجهل المغرب. وحتى في داخل البلد الواحد، تجد كل قبيلة تجهل الأخرى. ولا خلاص من هذا الوضع، في نظري، إلا بالمعرفة. المعرفة لا بمعناها التقليدي، وإنما المعرفة بالمفهوم العلمي، وبمعناها التحليلي للتاريخ. وهذه المعرفة هي خير أداة باستطاعتها أن تؤسس لقناعة إنسانية مهمّة، انطلاقاً من ان للبشر لغة وقيما واحدة، وأن الإنسان في أي مكان مجبول من مادة أولية واحدة، مهما كانت اختلافات البيئة والمجتمع والثقافة.
وقد التقيت، قبل أيام، بشاب برازيلي قال لي أن أمه اشترت روايتي، وأخذتها معها إلى البرازيل، لأنها وجدت فيها كل ما تحبه في بيئتها البرازيلية. وأنا أقول أنه عندما تجد امرأة برازيلية أن "الحزام" تمثِّلها وتعبر عنه، وحين تجد في قريتي كل ما تحبه في بيئتها البرازيلية، أشعر بالفخر، ويزيدني ذلك إيمانا بأن العالم العربي يمكن أن يشكل ذاكرة للبشرية ومخزونا للقيم الإنسانية الأولى. ويسعدني أن أرى، عبر تجربة "الحزام" أن في لغتنا وثقافتنا ما يمكن أن يشارك في إنقاذ ذلك المخزون الإنساني.
نشيد الامهات
من ألهمك رواية "الحزام"؟
- طلب مني أحد الأصدقاء أن أوقع له إهداء لصديق مشترك، فكتبت أن "الحزام" بمثابة أمّنا. وبالفعل ف "الحزام" ألهمتني إياها أمي منذ طفولتي، ولا شك أنها بدورها أملتها عليها أمها، وهكذا دواليك عبر الأجيال، من أم إلى أم. ولذا فأنا أعتبر أن هذا النص هو نشيد الأمهات. عند كتابة هذا العمل، كنت أعتبره موجها بالدرجة الأولى إلى زوجتي وابنتي. وأذكر أنني قلت لزوجتي أنني أنوي تسمية الرواية "الحزام"، وكنت آنذاك لم أجد بعد اسما نهائيا للشخصية الرئيسية، فطلبت مني زوجتي معنى كلمة حزام بالعربية، وسألت هل يمكن أن تطلق كاسم لشخصية روائية. فأجبت بنعم، وعندئذ اقترحت علي تسمية الشخصية الرئيسية للرواية بهذا الاسم. وهكذا فأنا مدين لزوجتي بالكلمة العربية الوحيدة التي وردت في النص المكتوب كله باللغة الفرنسية !
يتساءل القارئ حين يفرغ من قراءة روايتك، عما إذا كان أمام سيرة ذاتية، أو رواية قائمة على التخييل تستند إلى تجربة خاصة في الحياة ؟ فالقارئ يشعر أحيانا أنك تُخضِع شخصيات الرواية لآرائك ونظرتك الخاصة للحياة ؟
- "الحزام" ليست فقط رواية، ولا هي كتاب سيرة ذاتية، وليست قصيدة. ربما هي كل ذلك معاً، أو لعلها تضم بعضا من مواصفات وخصائص كل الأصناف الفنية التي ذكرناها. وأنا أصارحك بأني لم أقرأ في حياتي إلا عددا محدوداً من الروايات العربية، لا أذكر منها سوى روايتين اثنتين: "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح ، و"شقة الحرية" للدكتور غازي القصيبي. فأنا إذا لست بقارئ رواية محترف، ولم آت للكتابة من عوالم الروائيين، ولا حتى من عالم الشعراء. بل أنني أحس بنفسي أقرب إلى عالم الباحثين، المشتغلين على التاريخ وعلم الاجتماع والأنتروبولوجيا. كما أنني وثيق الصلة بعلم النفس واللغويات. من كل هذا الإرث المعرفي، وأيضاً من الإرث الشعري الذي اكتسبته من قريتي، ثم من بيئتي في الجزيرة العربية، وبعد ذلك من قراءاتي للشعراء العرب والفرنسيين الكبار، تولدت "الحزام". ومع ذلك، بل ربما بسبب ذلك، لا أنتمي في هذا النص بشكل كامل لأي أحد أو أية مدرسة، سوى لأمي بالدرجة الأولى وللعلوم الإنسانية ثانياً.
الوطن الوحيد
لماذا اخترت الإقامة في فرنسا، وهل تعتبرها بمثابة وطن ثان، خصوصاً أنك تكتب بلغتها ؟
- لم أصل بعد إلى اختيار فرنسا كوطن ثان. وما زال وطني هو الوطن الوحيد. ولقد أشرت إلى ذلك أكثر من مرة، و كتبت قصيدة في هذا السياق تقول: "آه يا باريس لولا وطني، لمت !". فحتى وأنا مقيم هنا في باريس، لولا أني أحمل قريتي لمت منذ زمن بعيد. فالقرية التي أعتبرها أكثر إشراقا وأكثر إنسانية، تحميني من جهنم الغرب، وهي في النهاية وطني الوحيد. ومن أجمل ما قرأت عن "الحزام"، دراسة لكاتب ومحلل فرنسي، قارن قريتي بالجنة في مواجهة جهنم الغرب. إذاً لم تصبح باريس، ولا أعتقد أنها ستصبح يوما وطنا ثانيا بالنسبة إلي. في المقابل، العالم يمكنه أن يصبح يوما وطني الآخر، ذلك حلمي كما سبق أن أسلفت. ولكن بانتظار أن يرقى العالم إلى مستوى الحلم الذي أتطلع إليه، تظل أبدا قريتي والمملكة وطني الوحيد.
إذاً، ما هي مكانة فرنسا، وباريس خصوصاً، في حياتك ؟
- باريس مكان أجد فيه نفسي متكاملاً، وفيه أكتب بشجاعة وحرية، وبحذر في الآن نفسه. لأنه مهما قيل عن ديموقراطية الغرب، وعن سيادة القانون، ما زلت أشك في صدقيّة هذه الأشياء. وما يزال يراودني الشك في تطبيق مبادئ الثورة الفرنسية التي قامت على الإخاء والحرية والعدالة. فهذه القيم باتت اليوم مجرد مسميات تطلق على الشوارع. وهذه الأشياء كلها لا تلهيني عن حقيقة التكوين الفرنسي العميق الذي يزعجني أحيانا. و لكن تظل فرنسا، مهما كانت مآخذنا عليها، مكانا آمنا بالنسبة إلى المبدع والكاتب.
هل كنت ستكتب "الحزام" على هذا المنوال نفسه، لو لم تغادر قريتك ووطنك ؟
- كتبت أجمل قصائدي وأنا في المملكة. أما "الحزام"، فعلى الرغم مما أحدثه من دهشة في فرنسا، فهو لا يرقى إلى مستوى أي قصيدة كتبتها هناك، و لا يضاهي ما في تلك القصائد من عمق نابع من حب القرية والناس الذين تكونت على أيديهم، وأثروا فيَّ بشكل لا يمكن تصوره. ولقد كتبت "الحزام" نيابة عن كثير من الأصدقاء والشعراء والمبدعين هناك في وطني. أعني أنني نقلت رسالة إلى القارئ الغربي باللغة الفرنسية، نيابة عن كل من تعلمت منهم في وطني.
هناك من يصنّف روايتك في خانة الأدب "الإيكزوتيكي" الذي يجتذب القارئ الغربي إلى عوالم الشرق السحرية والغرائبية، والذي لا يمكنه أن يدهش القارئ العربي بالقدر نفسه...
- لقد كتب بعضهم ذلك بالفعل، ومن بينهم صديق لي. لكني لا أدري ماذا تعني هذه التهمة على الإطلاق، ولا يعنيني ذلك. قالت لي إحدى القارئات : إذا كان كلود ليفي شتراوس قد أوجد الانتروبولوجيا البنيوية، فأنت أوجدت الانتروبولوجيا الشعرية. وهنا نكتشف أحياناً أن من بين القراء أناسا أكثر وعيا من الصحافيين أو النقاد، وأكثر قدرة على التعبير عن النص والتعامل معه. "الحزام" نص اشتغلت عليه أكثر من عشرين سنة، فهو جهد حياة بأكملها. ولم أتعمد على الإطلاق إثارة شهية القارئ الفرنسي، ولم أبحث أصلاً عن قارئ فرنسي، بل كتبت هذا النص أساسا لابنتي وزوجتي.
المرأة أساسيّة
أنت تصور العلاقة التي تسود في القرية، موقع أحداث الرواية، بين الرجل والمرأة، وكأنها خالية تماماً من التنازع. فما مدى صدقية ذلك في أرض الواقع ؟
- من المؤكد أني انطلقت في ما كتبته من الحقائق الاجتماعية في السعودية، وفي القرية أساساً. ففي المملكة تعتبر المرأة عموماً أماً وأختاً وابنة، مع كل ما يفترضه ذلك من احترام وتبجيل. وفي تاريخ الجزيرة العربية كلها، والمملكة العربية السعودية تحديدا، المرأة كانت دوما ذاكرة الإنسان، وبالتالي فهي ذاكرة الرجل. وأما ما يقال عن المرأة في الغرب، فلا يعنيني كثيراً. يجب أن نقرأ وضع المرأة ومكانتها، عبر تاريخ ومسار الشعوب والمجتمعات.
ودعيني أصارحك بأني اكتشفت في اللغة الفرنسية نزعة ذكورية عجيبة. و كأن الرجل هو الذي صنع هذه اللغة لوحده! بينما تتميز لغتنا العربية بالمساواة، على المستوى الخطابي، بين الذكر والأنثى. فعندما تصل المرأة مثلا إلى موقع الوزير في فرنسا يسمونها "الوزير" بصيغة المذكر، بينما نسميها باللغة العربية "الوزيرة" بالتأنيث. وأعتقد أنه يجب أن تنطلق أية قراءة للمجتمعات العربية من قراءة تكوينها القبلي أساساً، ويجب ألا نصدم هذه المجتمعات، وأن نتجنب أن ننقل لها رؤى غربية جاهزة لتطبيقها عليها. لقد بذلت جهداً كبيراً لمواجهة الزملاء في الصحافة الفرنسية، ممن يجهلون كل شيء عن تركيبات مجتمعاتنا وعن ثقافاتنا، وينطلقون من قيمهم الخاصة لمحاكماتنا. وأنا ألفت نظرهم باستمرار، كما ألفت نظر بعض الديبلوماسيين وجمعيات حقوق الإنسان أيضا إلى أنه قبل إدانة الأنظمة وقبل إدانة الناس، لا بدّ من قراءة مجتمعاتنا من منظار آخر. فعندما أنظر إلى المجتمع الفرنسي، لا أنطلق من قيمي أنا، بل يجب أن أعرفه وأن أعي قيمه وافهمه على ضوئها. وفي المقابل أطالب بالمثل في التعامل الغربي تجاه مجتمعي.
أليس للمثقفين العرب بدورهم بعض المسؤولية في تكريس تلك النظرة الغربية النمطية لمجتمعاتنا ؟
- هذا صحيح للأسف، فكثيرون ممن نسميهم "مثقفين عرب"، لا يعون معنى العالم العربي على الإطلاق ! معظمهم ارتبط بثقافة غربية، ويسعى لنقلها لنا من دون قراءة طبيعة مجتمعاتنا وتكوينها، قراءة تاريخية وانتروبولوجية واجتماعية. فلمجتمعاتنا، من دون شك، شيء من التعقيد، بحيث لا يمكن أن يقرأها إلا باحث عاشق لها. بينما معظم مثقفينا، خصوصاً الذين يعيشون في الغرب، مشوَّهون هم أنفسهم إلى حد كبير، نتيجة لظروف الحياة وقسوتها، ولهجرتهم الطويلة... وأيضا نتيجة لقسوة الأنظمة في العالم العربي ومطاردتها لبعض المثقفين.
كما نجد أيضاً البعض الآخر من المثقفين العرب تعودوا أن يضخموا أنفسهم فوق اللزوم، حتى صاروا أكثر تسلطا من الأنظمة العربية نفسها. فمشكلتنا تتمثل في وجود "زعيم" داخل كل واحد منا. وهذا نابع من طبيعة تكويننا القبلي، فكل منا عبارة عن خلية في جسد ضخم، ولكن كل واحد يعتبر نفسه هو هذا الجسد الضخم. ولذا فنحن لم نعترف حتى الآن بقيمة الفرد كفرد، حتى نتخلص من تلك الزعامات الخرافية. ويجب علينا أن نؤمّن لكل فرد الفضاء اللازم لتكوين ذاته. وذلك أمر لا يمكن تحقيقه إلا في إطار قوانين ملائمة، وضمن ما يسمى بالمجتمع المدني بكل تكويناته.
وماذا عن تعدد الزوجات الذي يسهم بدوره في تلك النظرة النمطية التي يسلّطها الغرب على مجتمعاتنا ؟
- الإسلام هو المرجع الأساسي لثقافة المملكة، ولا يمكن أن يقف أحد ضد هذه المسألة التي لها أسبابها التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية. وتعدد الزوجات أمر مباح دينياً بشرط أساسي هو العدل الذي يعتبر شبه مستحيل. ولكن الخطأ هو اعتقاد الناس في الغرب أن لكل رجل عربي ثلاث زوجات أو أكثر! فأغلب الرجال مكتفون بزوجة واحدة. ولا أعرف في قريتي سوى رجل واحد له ثلاث نساء.
لا أعتبر قريتي فقيرة
مظاهر الثراء غائبة تماما عن القرية التي تجري فيها أحداث روايتك، ومع ذلك، فتلك القرية تنعم بالسعادة والراحة النفسية. فهل نفهم من نصك أن حالة الفقر تلك مصدر سعادة وطمأنينة ؟
- لا أعتبر قريتي فقيرة، فقد عشت فيها كل متع الدنيا، وأكلت فيها كل أنواع الفواكه والخضار واللحوم، وكل أنواع الحبوب. وأنا على يقين أن القرية سعيدة لأننا لا نجد فيها إنساناً واحداً جائعاً. والشيء نفسه بالنسبة إلى المملكة السعودية كلها. وأحلم أن يبقى الأمر كذلك دوماً. صحيح أن التطور الاجتماعي يمكن أن يوجد بعض "المهمَّشين"، ولكن ما تزال هنالك بنية اجتماعية تدفع الناس إلى دعم الآخرين وإنقاذهم واغاثتهم، بعكس ما يحدث في الغرب.
قلت في نص الرواية على لسان أبيك إنه من الأفضل أن ترى امرأة من أن تنظر إليها. ماذا قصدت بذلك ؟ وما الفرق بين رؤية المرأة والنظر إليها ؟
- كان أبي عاشقا، وكان من الذين يستطيعون تحمل مشقة سفر يدوم ثلاثة أو أربعة أيام لحضور حفلة راقصة ! ولقد عاش والدي الحياة بمعناها الجميل. ولذا علمني أن رؤية المرأة تكون بالقلب، في حين أن النظر إليها يكون بالعينين فقط !
لماذا تستهل روايتك بالتعريف عن نسبك إلى حد الجد السابع عشر؟
- هذه المسألة ترجع لكون "الحزام" كما أسلفت، بمثابة انتروبولوجيا شعرية. وأنا لم أعن بذلك المفاخرة بنسبي أو بقبيلتي. فأنا أفضل الانتماء إلى آدم عن الانتماء إلى قحطان. لكن الأهم بالنسبة إلى القارئ والباحث هو أن يعرف هذا الجانب في تكوين البنية القبلية، وفي تكوين ما أسميه بالعقل القبلي. وقد كتب ناقد بلجيكي أن قراءة نسب أحمد أبو دهمان في حد ذاته عبارة عن قصيدة شعرية، فالنسب هنا كان مدخلاً لتلك القصيدة الطويلة التي هي الرواية.
كتبت أيضاً في الرواية، على لسان أمك، أن القرية كانت في الأصل أغنية. وقلت أن أمك كان يكفي أن تغني لكي ترقص الحياة. فهل يمكن للمرء موضوعياً أن يفرط في التفاؤل إلى هذا الحد ؟
- أعتقد أن القرية هنا هي تورية عن الكون بأكمله، إن كنت قد انطلقت من وقائع حياتية ويومية معاشة. وعندنا في القرية، وفي المملكة إجمالا، لا يمكن أن نفعل أي شيء من أمور حياتنا من دون غناء. فلكل نشاط إنساني غناء معين. وأذكر أنه حتى عندما كنا نذهب إلى المقبرة لدفن ميت، كنا نمشي ونحن نردد نشيدا دينياً. ويكفي الإطلاع على ما تنشره الصحافة السعودية من القصائد الشعبية الكثيرة، لمعرفة درجة الإحساس لدى الإنسان السعودي، وكأن معظم الناس هناك شعراء. ثم أنني بالفعل متفائل للغاية. وما كتبته في "الحزام" كتبته بيقين مطلق، لأنني على ثقة بأن كل ما قالته أمي هو الحقيقة. وبالتالي ليس لي خيار آخر إلا هذا التفاؤل بأن تصبح الحياة، يوماً ما، حياة سلمية وكريمة لجميع البشر، من دون استثناء


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.