زار الروائي والشاعر السعودي المقيم في فرنسا أحمد أبو دهمان، مدينتي جدة والرياض، بدعوة من القنصلية اللبنانية. أبو دهمان بات معروفاً مع صدور كتابه"الحزام"باللغة الفرنسية قبل خمس سنوات عن دار"غاليمار"، وهو الكتاب الذي جلب له شهرة، وترجم إلى 8 لغات. واللافت أن الكاتب لم يصدر أي كتاب بعد"الحزام". هنا حوار معه. أي أثر ترك فيك"الحزام"وما رافقه من احتفاء؟ -"الحزام"لم يكن جهد سنة أو سنتين، بل كان امتداداً لعشرات السنين، يبتدئ من طفولتي وينتهي في بدايات الخمسينات أو دخولي في الستينات. وعلى هامش هذا العمر، كان هناك عمر الجزيرة العربية، كان هناك بحث مضن في تاريخ الجزيرة العربية، الجزيرة المتنوعة والمتعددة. و"الحزام"يحمل هذه التعددية بصدق، هذا التنوع وكل ما استطعت من معرفة"انثروبولوجية"، ومعرفة تاريخية ولُغوية وفنية وأدبية ونقدية. استطعت في"الحزام"، سواء النص الفرنسي أم العربي، أن أرسم هذا العمر الطويل، ليس عمري فقط، إنما عمر الجزيرة العربية، وكنتُ على يقين، وإن كان في هذا بعض المبالغة، لكن أمام ازدراء الآخرين، وأمام ما نسوقه من صور بائسة، كنتُ أتباهى بهذه الجزيرة العربية. وقد استقبل"الحزام"كما كنتُ أتمنى، والأجمل في هذا الاستقبال، هو أن القارئ الفرنسي والقراء في اللغات الأخرى، اكتشفوا أن ما فيه ليس سوى جزء يسير، إذ لستُ مستعجلاً لأنثر كل ما لدي. أي أثر ترك فيك"الحزام"وما رافقه من احتفاء؟ لكن، لِمَ لَمْ تستفد من هذا الاستقبال بإصدار أعمال أخرى؟ - هناك أمور كثيرة أخرى حالت دون أن أصدر عمليَّ الثاني والثالث، بتلك السرعة التي يتعامل بها بعض الكُتاب ممن يصدرون كتبهم عن دار"غاليمار"، أنا الكاتب الوحيد الذي لم يخضع لهذا الشرط عند"غاليمار"، التي تشترط أن يقدم الكاتب عملاً كل سنتين. أنا رفضتُ هذا الشرط، ليس لأنني لا أستطيع أن أكتب، ولكن رعب التجربة والنجاح اللذين قابلا"الحزام"، ألقيا عليَّ بظلال كبيرة من الحذر ومن الحرص، في أن أواجه القارئ مجدداً بعمل لا يختلف أو لا يرقى إلى"الحزام". هل لديك أعمال الآن قيد الكتابة؟ - لديّ عمل اشتغل عليه الآن، وهو امتداد لپ"الحزام"، وعنوانه قد يثير تساؤلات، بخاصة عند أصحاب النيات السيئة، وهو:"عندما كنتُ سعودياً"، وقد وضعت"سعودياً"بين قوسين، وأروي فيه بقية ما لم أروه في"الحزام". وكم هو مرعب أن تُعامَل سعودياً حتى من الأصدقاء العرب. كان من المفترض أن أدفع دائماً، كان يُنتظر مني أن أدفع فقط، لأنني أحمل هذه الجنسية، حتى لو لم يكن في جيبي شيء. وهناك عمل آخر أشتغل عليه أيضاً وهو عمل مغرٍ على المواصلة، خصوصاً بالنسبة إلى السن التي بلغتها. في هذا العمل أروي حكاية حب، مسرحها باريس. من هذه الحكاية سأروي للعالم كيف نحب في الجزيرة العربية. سأعود إلى ليلى والمجنون، والى كل قصص الحب التي لم يعرفها أحد في الجزيرة. في"الحزام"تنحاز إلى الإنسان البسيط وإلى القرية وعوالمها؟ - انحزتُ إلى الإنسان باعتباره القيمة الأساسية، وهذا ما تعلمته من المؤرخ الفرنسي بروديل، وهو المؤسس لما يعرف بالتاريخ العلمي الحديث، وكان اشتغل على تاريخ الجزيرة العربية واشتغل أيضاً على تاريخ المتوسط، وكانت القيمة الأساسية بالنسبة إليه هو الإنسان المتوسطي، هذا الرجل كتب أطروحته وهو في السجون النازية، أطروحة من ألف صفحة أو أكثر، من دون الرجوع إلى أي مرجع... انحزتُ إلى الإنسان البسيط في بداياته في حياته في ملابسه، في شعره في غنائيته، إضافة إلى هذا الإرث الهائل من الشعر، في الجزيرة العربية، كنتُ على يقين أن كل هذه الثروات النفطية، كانت كلها محصلة لما ألقي من قصائد في هذا الفضاء، بما بثه إنسان الجزيرة العربية من شعر، من تعب من سفر. جميل أن نحمل هذا الإنسان وأن نقدمه إلى العالم. هل واجهت سؤال اللغة، وهل كنت تملك خيار اللغة التي تكتب بها كتابك، أم أن الأمر محسوم سلفاً؟ وكيف ترى الى اللغة العربية كلغة كتابة لنصوص ذات طابع وأجواء معينة؟ - بالنسبة إليّ الكتابة هي أجمل لحظات الحياة وأرقاها، ولا أُسأل بأي لغة أعيش هذه اللحظة، اللغة أداة. صحيح أن"الحزام"كُتبت باللغة الفرنسية، فكانت متعتي في تلك الأيام أن أقول لزوجتي الفرنسية وابنتي التي لم تكن قبل"الحزام"تتحدث العربية من أنا، من أهلي وما هي بلادي. كانت هدية إلى زوجتي وابنتي، وكانت في مثابة وصية، كنتُ أخشى أن أموت قبل أن تعرف ابنتي من أنا. العربية مقيدة، اللغة لا يمكن فصلها عن بقية الأنشطة الاجتماعية الأخرى، اللغة كائن حي يتعرض لما نتعرض له نحن، من قمع ومن إرهاب، من رقابة، من إذلال. وما كان لي أن أكتب"الحزام"بغير الفرنسية لأن الفرنسية حية وأنا كنتُ أكتب قرية حية. قلت مرة إنك نادم على قصة"خيط"، التي نشرتها إحدى المجلات في الوطن العربي، لأنك كتبتها باللغة العربية؟ - لأنني لو كتبتها بالفرنسية لكانت حظيت باستقبال كبير. أذكر في مشاركتي في احتفالية ذكرى كاتب مسلسلات"تان تان"، وكنتُ الكاتب العربي الوحيد المشارك، بنص عنوانه:"ربيع الصحراء"، هذا النص حظي بإعجاب يصل إلى مرتبة التقديس، من قراء"تان تان"وهم يعدون بالملايين على امتداد العالم، وحصل أن اتصل بي الفيلسوف الفرنسي، ميشال سير، وقال لي:"لم أقرأ مثل هذا النص، أنت عظيم أنت عظيم عاش أبو دهمان"، مثل هذا التعليق يحلم به كثير من الكُتاب، فلو أنني كتبت النص الذي نشر في إحدى المجلات العربية، باللغة الفرنسية، لكنتُ حظيت بمهاتفة من ميشال سير، لكن هذا النص دُفِنَ مع ما يُدفن يومياً من إبداعات عربية. هل تعتقد بأنك نجوتَ من التهم التي تكال عادة للكُتاب العرب الذين يكتبون باللغة الفرنسية، كتقديم المجتمع العربي من زوايا معينة، تلك الزوايا التي يقبل عليها القارئ الفرنسي أو الغربي في شكل عام؟ - هذه التهم نجوتُ منها تماماً، لأنني لم آتِ إلى الفرنسية مذعناً، إنما جئتُ اختياراً، وبلادي لم تكن مستنقعاً لأي استعمار. اخترت فرنسا لما فيها من إخاء ومن حرية. ذهبت إلى فرنسا اختياراً ل"بول إيلوار وآراغون وأرثور رامبو"، لكبار الشعراء والروائيين. وظللت أتعامل مع فرنسا العظيمة والنبيلة. ولذا الكثير من الفرنسيين قالوا لي إنني شرفت اللغة الفرنسية بهذا النص. تُعِدُّ أطروحة عن القصة في السعودية... هل أنجزتَها وماذا تتناول في خطوطها العامة؟ - أطروحتي في البداية، كانت وما زالت، عن القصة القصيرة في المملكة، والمملكة في القصة القصيرة. فبعد أن أنجزت رسالة الماجستير في قراءة للمجتمع القروي في قصص"الخبز والصمت"لمحمد علوان، انتقلت إلى الاشتغال على بحث للدكتوراه بإشراف المفكر محمد أركون، واخترت أيضاً محمد علوان، وعبدالعزيز مشري، وعبدالله السالمي في"مكعبات الرطوبة"، وشريفة الشملان في"منتهى الهدوء". لم تكن قراءة فنية بالمعنى النقدي، إنما العمل مع أركون كان يتطلب قراءة شاملة ومتعددة، قراءة تاريخية ونفسية ولغوية و"انثروبولوجية"وجمالية. وبالتالي واجهتني أسئلة، مثل: من أين أبدأ القراءة؟ كان علي أن أبدأ قبل الإسلام، لأن بعض النصوص يحيلني إلى ما قبل الإسلام، وبعضها، يحيلني إلى فترات من تاريخ الجزيرة العربية لم يكتبها أحد، وكان عليَّ أن أبحث عنها، ولحسن الحظ كنت أجدها في مكتبات باريس... والآن أركز على شروط القراءة والكتابة... هل تضررت من الإرهاب في فرنسا؟ - نعم تضررت، بخاصة أن"الحزام"صدر في الفترة نفسها، التي حصلت فيها تلك الأحداث المؤلمة. كنت بين التباهي بنجاح كتابي، وبين الدفاع عن هذا الوطن. هل تعتبر نفسك كاتباً"فرنكوفونياً"؟ وما رأيك ب"الفرنكوفونية"في ضوء ما ردده بعض الأدباء أخيراً في معرض باريس الدولي للكتاب؟ - كنتُ مدعواً إلى معرض باريس للكتاب، وقلتُ إنني لست فرنسياً ولا"فرنكوفونيا"، أنا عربي، وأؤمن بهذا التمازج بدلاً من"الفرنكوفونية"، التي أصبحت مُهانة، وكان إلى جانبي سيدة متخصصة في الأدب"الفرنكوفوني"، ودانت وزارة التربية الفرنسية التي لا تعرف من الأدب"الفرانكفوني"، سوى قصيدة لسنغور في المناهج الفرنسية، تصحبها لوحة لبيكاسو اسمها"المرأة السوداء". أنا لم أكن"فرنكوفونياً"على أي صعيد. ومستعد للدفاع عن آراغون وفرنسا الشاعرة، لكنني لستُ مستعداً للدفاع عن"الفرنكوفونية"على أية حال. هل تعنيك القضايا التي يهتم بها الأدباء المهاجرون الذين يكتبون باللغة الفرنسية، كقضية المهاجرين مثلاً؟ - كان موقفي بصفتي كاتباً وصحافياً واضحاً، للكتاب هناك سلطة. عندما كان وزير الداخلية الفرنسي يصف أبناء المهاجرين العرب والمهاجرين الأفارقة، وهم فرنسيون اليوم، بالأوباش والتافهين، تصدينا له جميعاً من اليسار واليمين، من كل الانتماءات الإنسانية والثقافية، وأصدرنا أكثر من بيان، ودِنَّا هذه التصريحات، وتراجعت السلطات الفرنسية في الفترة الأخيرة. وزير الداخلية الفرنسي دعا أخيراً إلى ما يسميه الهجرة المختارة، بدلاً من الهجرة الإجبارية، الهجرة المنتخبة، هجرة النخب إلى فرنسا. كان لي لقاء مع كثير من المقربين من هذا الرجل، وقلت بالحرف الواحد، إن هذه السياسة تذكرني بسياسة شاوشيسكو، عندما كان يحكم رومانيا، هذا الرجل اختار من رومانيا نخبها بينما أباد كل المتخلفين عقلياً أو كل المتخلفين في نظره. ما فعله ساركوزي هو ما فعله شاوشيسكو. هذه المقولة أدهشت الكثير من المقربين من وزارة الداخلية الفرنسي، لكنني كنت أقولها بشجاعة، وطمأنينة، لأن وزير الداخلية الفرنسي لا يستطيع أن يؤذيني، تخيَّل. هل تستطيع أن تقول شيئاً من هذا القبيل لوزير داخلية في العالم الثالث، يستحيل. في إمكاني بصفتي كاتباً عربياً مقيماً هناك، أن أتصدى لرئيس الجمهورية، لوزير الداخلية، لرئيس الوزراء وهو صديق لكثير من المثقفين العرب، بحكم علاقته بالشاعر أدونيس. ولكن نظل أيضاً مسؤولين عرباً عما يحدث لنا هناك. هناك بعض صور التخلف التي نحملها معنا، والتي لم نستطع أبداً التخلص منها، وهي سلوكيات لا تتماشى مع القيم الديموقراطية والقيم الإنسانية... هل تقرأ الرواية السعودية؟ وكيف تراها؟ - نحن مجتمع شعري، شفوي. والانتقال إلى الكتابة، الانتقال إلى السرد، هو الانتقال إلى مرحلة جديدة في حياتنا وفي تكويننا. الرواية ما زالت عملاً هشاً، وفي بداياته. {