مدير عام جمعية كبدك ..الخير بتنامي ومجدنا يسير مع الدول العظمى    المركز الإحصائي الخليجي يشيد بمنجزات السعودية بمناسبة اليوم الوطني ال 94    ضبط منشأة مخالفة أطلقت أسماء شخصيات اعتبارية سعودية وخليجية على عطور    استشهاد أربعة فلسطينيين في قصف للاحتلال الإسرائيلي على مدينة دير البلح    ملك الأردن يهنئ خادم الحرمين الشريفين بمناسبة اليوم الوطني ال 94    مركز الملك سلمان للإغاثة يوزع 840 سلة غذائية في ولاية كسلا بجمهورية السودان    القيادة الكويتية تهنئ خادم الحرمين بمناسبة اليوم الوطني ال (94) للمملكة    الأرقام ترجح كفة ميتروفيتش على رونالدو    فيصل بن سلطان: المملكة نجحت في صناعة نهضة فريدة في مختلف الأصعدة    من أعلام جازان.. الشيخ الدكتور "سليمان بن علي بن محمد الفيفي    تأهب إسرائيلي .. هل حانت «ساعة الصفر»؟    السعودية تشارك في جلسة الآمال الرقمية ضمن مؤتمر قمة المستقبل    إيران: 51 قتيلاً ضحايا انفجار منجم الفحم    "فلكية جدة": اليوم "الاعتدال الخريفي 2024" .. فلكياً    البديوي يؤكد أهمية دور المجتمع الدولي في دعم الأمم المتحدة لتنفيذ قراراتها الأممية    "الأرصاد" استمرار هطول الأمطار على جازان وعسير والباحة ومكة    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على هذال بن سعيدان    الموت يغيب مطوف الملوك والزعماء جميل جلال    أخضر تحت 20 عام يبدأ التصفيات الآسيوية بالفوز على فلسطين    رايكوفيتش: كنا في غفوة في الشوط الاول وسنعود سريعاً للإنتصارات    في كأس الملك.. الوحدة والأخدود يواجهان الفيصلي والعربي    ولي العهد يواسي ملك البحرين في وفاة خالد آل خليفة    مئوية السعودية تقترب.. قيادة أوفت بما وعدت.. وشعب قَبِل تحديات التحديث    صناديق التحوط تتوقع أكثر السيناريوهات انخفاضاً للديزل والبنزين    279,000 وظيفة مباشرة يخلقها «الطيران» في 2030    وزير الخارجية يبحث مع نظيره الجزائري الأوضاع في غزة    وداعاً فصل الصيف.. أهلا بالخريف    «التعليم»: منع بيع 30 صنفاً غذائياً في المقاصف المدرسية    "سمات".. نافذة على إبداع الطلاب الموهوبين وإنجازاتهم العالمية على شاشة السعودية    دام عزك يا وطن    بأكبر جدارية لتقدير المعلمين.. جدة تستعد لدخول موسوعة غينيس    ريال مدريد يسحق إسبانيول برباعية ويقترب من صدارة الدوري الإسباني    "قلبي" تشارك في المؤتمر العالمي للقلب    فريق طبي بمستشفى الملك فهد بجازان ينجح في إعادة السمع لطفل    اكتشاف فصيلة دم جديدة بعد 50 عاماً من الغموض    لا تتهاون.. الإمساك مؤشر خطير للأزمات القلبية    "الداخلية" تحتفي باليوم الوطني 94 بفعالية "عز وطن3"    يوم مجيد لوطن جميل    مركز الملك سلمان: 300 وحدة سكنية لمتضرري الزلزال في سوريا    ضبط 22716 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    أحلامنا مشروع وطن    "الداخلية" توضح محظورات استخدام العلم    مسيرة أمجاد التاريخ    صور مبتكرة ترسم لوحات تفرد هوية الوطن    الملك سلمان.. سادن السعودية العظيم..!    خمسة أيام تفصل عشاق الثقافة والقراء عنه بالرياض.. معرض الكتاب.. نسخة متجددة تواكب مستجدات صناعة النشر    تشجيع المواهب الواعدة على الابتكار.. إعلان الفائزين في تحدي صناعة الأفلام    مجمع الملك سلمان العالمي ينظم مؤتمر"حوسبة العربية"    «متحالفون من أجل إنقاذ السودان» تطالب بحماية المدنيين ووقف الهجمات في الفاشر    مصادر الأخبار    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. تنظيم المسابقة المحلية على جائزة الملك سلمان    فأر يجبر طائرة على الهبوط    حل لغز الصوت القادم من أعمق خندق بالمحيطات    إقامة فعالية "عز الوطن 3"    الابتكار يدعم الاقتصاد    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالفيحاء في جدة يستأصل بنجاح ورماً ضاغطاً على النخاع الشوكي    أبناؤنا يربونا    خطيب المسجد النبوي: مستخدمو «التواصل الاجتماعي» يخدعون الناس ويأكلون أموالهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أوهام من الخمسينات تقابلها حقائق جديدة ومصالح عربية متعاظمة . يهود فرنسا : النفوذ كبير ... لكن مصالح الدولة أكبر
نشر في الحياة يوم 13 - 11 - 2000

هل تسيطر الطائفة اليهودية على الدولة في فرنسا وتتحكم في سياستها الخارجية؟ هل يسيطر اليهود على الحكم في الولايات المتحدة ويوجهون الرأي العام فيها، الوجهة التي يريدون؟ هل يسيطر اليهود على الغرب عموماً ويتحكمون فيه؟ هذه الأسئلة قد لا تحتاج الى اجابات بنظر القسم الأعظم من قطاعات الرأي العام العربي الذي يعتقد الى درجة اليقين بأن الطوائف اليهودية في الغرب تتمتع بقدرات خارقة وتوظف الدول الكبرى بما يخدم مصالح اسرائيل.
وتصب سياسة الولايات المتحدة الخارجية، خصوصاً في فترة الانتخابات، الماء في طاحونة المؤمنين بهذا الرأي، فالكونغرس الأميركي يتحدى العالم بأسره ويؤكد أن الرئيس ياسر عرفات هو الظالم في الانتفاضة الأخيرة وأن اسرائيل هي المظلومة، أما رئيس الوزراء الفرنسي ليونيل جوسبان فلا يبتعد عن الكونغرس كثيراً حين يقول ان عمليات المقاومة ضد الجنود الاسرائيليين في جنوب لبنان "ارهابية وتستحق الادانة".
ولعل قناعة الرأي العام العربي في شأن سيطرة اليهود على الغرب، تستند ايضاً الى التاريخ، ومنه بصورة خاصة الجزء المتصل بنشوء اسرائيل إذ أن الدولة العبرية قامت على "وعد بلفور" البريطاني وأصبحت محمية بالمفاعل النووي الفرنسي، وامتلكت مخالب عسكرية واقتصادية بواسطة الولايات المتحدة التي زودت اسرائيل مظلة واقية في الأمم المتحدة والعالم. وهكذا يبدو ان هذه الدولة المدللة والمحمية، وصلت الى حالتها تلك بفعل التأثير اليهودي والسيطرة اليهودية على الغرب. وتزداد قناعة الشارع العربي بواقع اسرائيل عندما يرى أنها تستخدم الحماية الشاملة الغربية لارتكاب كل أنواع الجرائم والانتهاكات ضد العرب، وبصورة خاصة الفلسطينيين. ولعل ما يحدث هذه الأيام في فلسطين دليل آخر على التصور العربي والاسلامي المتين لسيطرة اليهود على الغرب وعلاقة الغرب باسرائيل.
والراهن ان هذا التصور لا يحتاج بنظر الشارع العربي الى اعادة تفكير وليس مرشحاً للفحص والاختبار والتمعن في الفروقات والاستثناءات، طالما أن الآلة الحربية الاسرائيلية والسياسات الصهيونية الوحشية تحتل كل مساحة التفكير بهذه القضية. لكن على رغم ذلك كله لا بد من تحديد دقيق لعلاقة الطوائف والجاليات اليهودية بالدول الغربية التي تعيش في كنفها. ولعل فرنسا تعتبر مثالاً مختلفاً الى حد كبير عن ذلك التصور، وبالتالي دليلاً على وجوب النظر الى هذه القضية باعصاب باردة وبالكثير من العقلانية والتروي.
علاقات معقدة
مرت علاقة الجالية اليهودية بالدولة الفرنسية بثلاث مراحل ارتبطت بأحداث فاصلة في التاريخ الفرنسي. المرحلة الأولى بدأت العام 1791، بعد عامين من اندلاع الثورة البورجوازية، وتم الاعتراف بمساواة اليهود مع غيرهم من الفرنسيين. وكانوا قبل ذلك رعايا من الدرجات الدنيا بالقياس الى الكاثوليك. وأضحى بوسعهم الانخراط في الوظائف والجيوش كغيرهم. فالثورة ضربت الكنيسة واعتمدت العلمانية ووضعت أسساً جديدة لعلاقات الفرنسيين بالدولة وحملت الحرية والمساواة لليهود الذين تضاعف عددهم من 45 ألفاً في 1810 الى 90 ألفاً في 1870. واحتلوا مناصب رفيعة في القرن التاسع عشر وانخرطوا في القطاعات الاقتصادية والثقافية والسياسية وأيدوا العلمانية التي منحتهم المساواة والحرية من دون أن تحرمهم ممارسة معتقداتهم الدينية.
بدأت المرحلة الثانية نهاية القرن التاسع عشر مع قضية الفريد درايفوس الضابط اليهودي في هيئة الأركان الفرنسية الذي اتهم بالتخابر مع الألمان ثم تبين بعد سنوات انه بريء من التهمة واستعاد اعتباره ومرتبته العسكرية وشارك في الحرب العالمية الأولى.
وإذا كان الفرنسيون قد انقسموا حول براءة اليهود أو عمالتهم للأجنبي، فإن هذا الانقسام يعني أن فرنسا تغيرت ولم تعد كما في السابق تقف صفاً واحداً ضد اليهود واليهودية. أما إعادة الاعتبار لدرايفوس فتظهر انتصاراً كبيراً ونهائياً لدعاة المساواة في المواطنية من جهة، وللتيار اليهودي الاندماجي في المجتمع الفرنسي الذي كان طاغياً على الجالية اليهودية في ذلك الحين. وما يلفت الى هذه المرحلة ان تيودور هرتزل منظر الصهيونية الأول وصاحب كتاب "الوطن اليهودي"، وكان مراسلاً صحافياً سويسرياً في باريس لدى اندلاع قضية درايفوس، يقول عن اليهود الفرنسيين انهم مندمجون وقوميون فرنسيون ولا يعوّل عليهم لدعم المشروع الصهيوني. علماً بأن درايفوس نفسه رفض استقبال بعثة صهيونية واعتبر نفسه فرنسياً خالصاً.
وإذا كانت موجة "العداء للسامية" التي انفجرت مع قضية درايفوس وتراجعت مطلع القرن الحالي قد الحقت أذى كبيراً بعلاقتهم بالدولة الفرنسية، فإن الجمهورية الثالثة شهدت اقبالاً كثيفاً من اليهود الذين وصلوا الى مناصب رفيعة وأبرز هؤلاء ليون يلوم الذي يعد من رجالات هذه الجمهورية، وكذا الأمر بالنسبة لبيار منديس فرانس.
نشوء اسرائيل
شدت المرحلة الثالثة عودة اليهود من الاندماج التام الى الطوائفية لسببين. يتمثل الأول بهجرة عائلات يهودية من أوروبا الشرقية الى فرنسا في فترة ما بين الحربين وجلهما من المتعصبين لدينهم والمنغلقين طائفياً. ويكمن السبب الثاني في نظام فيش الفرنسي الذي نشأ بعد هزيمة فرنسا في الحرب العالمية الثانية وكان يتبّع سياسة مؤيدة للنازية، تشمل الموقف المعادي لليهودية. وفي هذه المرحلة اكتشف اليهود الفرنسيين انه لا طائل من الاندماج التام، وأنهم سيظلون معرّضين للتمييز وغير مكتملي المواطنية في الأزمات الكبرى وهدفاً للعداء للسامية.
فعادوا للتمسك بطائفتهم وانخرطوا بحماس في تأييد مشروع الدولة الصهيونية. ويروي بن غوريون ان فرنسا كانت مرشحة للامتناع عن التصويت على نشوء هذه الدولة في 1947 بسبب مستعمراتها العربية خصوصاً في شمال افريقيا وخوفاً من انتفاضة تلك المستعمرات، غير أن رئيس الوزراء ليون يلوم، وهو يهودي الأصل، قرر أن تقترع فرنسا لمصلحة قيام اسرائيل بدلاً من الامتناع عن التصويت وكان هذا الصوت في غاية الأهمية بالنسبة الى الدولة العبرية في مرحلة نشوئها.
ويروي موريس بابون الذي أدين أخيراً بملاحقة اليهود الفرنسيين إبان الحرب العالمية الثانية وارسالهم الى معسكرات الاعتقال النازية، انه كان محافظاً لجزيرة كورسيكا في 1947 وأشرف شخصياً على ارسال شحنات من الأسلحة للدولة العبرية الناشئة وأظهر محاميه وثائق تثبت ذلك. وإذا كان بابون قد كشف هذا السر لدواع متصلة بمحاكمته فإن كثيرين غيره تحدثوا في مذكراتهم عن الدعم العسكري الفرنسي للدولة العبرية في الأربعينات والخمسينات بما في ذلك تزويدها مفاعلاً نووياً في 1957 نظير مشاركتها الى جانب فرنسا وبريطانيا في غزو السويس في 1956. والثابت ان اليهود الفرنسيين لعبوا دوراً حاسماً في تأييد اسرائيل خلال عهد الجمهورية الرابعة 1944 - 1958 ووفروا لها حماية وزودوها التكنولوجيا الحربية الضرورية لتفوقها على جيرانها العرب.
أصحاب رسالة؟
يعيش اليهود في فرنسا اليوم حال من الاندماج غير الكامل ويصرّون على تميزهم داخل المجتمع الفرنسي. ويؤكد الحاخام الأكبر جوزف سيتروك وهو من أصل تونسي هذه الحقيقة، موضحاً ان اليهود في فرنسا لا يكفي تعريفهم بأنهم الناجون من معسكرات الاعتقال النازية فهم "أصحاب رسالة ويحرصون على بقاء مرجعياتهم ودوامها". وتلعب اسرائيل دوراً محورياً في حياتهم اليومية وفي تحديد مواقفهم داخل فرنسا ومنها، وتحتفظ عائلات يهودية كبيرة بأقارب يقيمون في اسرائيل ويدافعون عنها.
وإذا كان اليهود الفرنسيون لا يفرطون بالدولة العبرية فانهم ينقسمون الى تيارات حين يتصل الأمر بسبل الدفاع عن هذه الدولة إذ أن اليهود الغربيين الاشكيناز عموماً لا يوافقون على كل السياسات الاسرائيلية وبعضهم يعتبر نفسه فرنسياً قبل أي اعتبار آخر، وقلة منهم تحرص على الابتعاد عن الجرائم التي ترتكبها اسرائيل ويوجهون النقد العلني اليها، فيما يلتف اليهود الشرقيون السفارديم، خصوصاً يهود شمال افريقيا، حول الدولة العبرية ويرفعون الصوت عالياً تأييداً لها، ظالمة ومظلومة. وهم يسيطرون اليوم على غالبية المؤسسات التمثيلية والدينية اليهودية وهم الأكثر تديناً والأكثر تماسكاً ويميلون الى سياسات "الليكود" الاسرائيلي لذا يتمتع شارون ونتانياهو بشعبية كبيرة في صفوفهم.
تماسك وتناقضات
وعلى رغم خلافاتهم ودرجة تدينهم وقربهم من الدولة العبرية وأصولهم العرقية المتعددة يحرص يهود فرنسا على عدم تفجير تناقضاتهم وانقساماتهم وعلى عدم توسيعها، لكنهم لا يفلحون دائماً في هذا المسعى. فالعداء للسامية واليمين المتطرف يوحدهم كالجسم المرصوص، لكن السياسات التي انتهجها بنيامين نتانياهو جعلتهم ينقسمون علناً ويعبّرون عن هذه الانقسامات في وسائل الإعلام. وإذا كانوا يتظاهرون بقوة عندما تتعرض معابدهم للاعتداء وتدنس مقابرهم، فهم في المقابل لا يتفقون على ضرورة التكتل الطائفي والعلمانية والزواج المختلط. ولوحظ ذلك بوضوح خلال "الانتفاضة الأخيرة"، ففي حين كان المتشددون يتظاهرون دفاعاً عن اسرائيل 7-10 آلاف متظاهر من أصل 300 ألف يهودي في باريس وضواحيها، كان عدد من المثقفين اليهود ينشرون مقالاً جماعياً في صحيفة "لوموند" يؤكدون فيه ان دولة اسرائيل تنطق باسمهم بوصفهم يهوداً كما تنطق باسم اليهود في العالم لكنهم لا يتحركون بوصفهم يهوداً، فهم علمانيون ويحرصون على التنصل من جرائم الدولة العبرية.
يساعد ما سبق على القول إن الجالية اليهودية في فرنسا ليست مكونة من أصول واحدة ولا تخترقها معتقدات واحدة وليست كلها متدينة وتختلف في درجة اندماجها ونوعية هذا الاندماج في المجتمع الفرنسي، وهي تجمع على دعم وبقاء اسرائيل، لكنها لا تؤيد كل السياسات الاسرائيلية. وتدين بعض الشخصيات اليهودية بصوت مرتفع سياسة الاستيطان وتعنت الاسرائيليين وغطرستهم، كما هي حال المستشرق المعروف مكسيم رودنسون الذي يعتبر نفسه فرنسياً خالصاً وعلمانياً ويصنفه اليهود المتشددون في خانة العداء للصهيونية.
ويمكن القول إن الطائفة اليهودية الفرنسية تشبه في تكوينها الطوائف الأخرى وأنها ليست متراصة كما تبدو من الخارج. فهل تسيطر هذه الطائفة على الدولة الفرنسية وتتحكم بسياساتها تجاه الشرق الأوسط؟
تستدعي الاجابة عن هذا السؤال معرفة المواقع التي يحتلها اليهود في المجتمع الفرنسي لتحديد ما إذا كان بوسعهم التحكم بسياسات هذا البلد خصوصاً تجاه الشرق الأوسط؟ لا بد من الاشارة الى أن حجم الطائفة اليهودية لا يتعدى 800 ألف نسمة في فرنسا من أصل 65 مليون فرنسي، وهذا الحجم مؤثر في الانتخابات لكنه ليس حاسماً. فالقسم الأكبر من اليهود يقترع وفق الاعتبارات الطائفية لكنه لا يستطيع قلب المعادلات الانتخابية الفرنسية. وقد شاع في 1980 اعتقاد راسخ بأن الصوت اليهودي لم يفلح في حمل الرئيس السابق فرانسوا ميتران الى قصر الاليزيه في معاركه الانتخابية السابقة مثلما لم يلعب دوراً في ترجيح كفة ليونيل جوسبان على جاك شيراك في رئاسيات العام 1995 على رغم ابتعاد غالبية اليهود عن التيار الديغولي وحساسيتهم تجاه الجنرال الراحل. وهذا يعني أن الصوت اليهودي مؤثر ولكن ليس في كل الظروف والمناسبات ومعادلات القوى.
أما في الانتخابات النيابية والبلدية والأوروبية وغيرها فإن هذا الصوت يضعف كثيراً تشتت اليهود وتوزعهم على مناطق فرنسية مختلفة وبالتالي عدم قدرتهم على تركيز أصواتهم.
غير أن ضآلة الحجم يقابلها حضور نوعي مميز ومؤثر للغاية في القطاعات الفرنسية المختلفة، حيث تبرز شخصيات يهودية فعالة للغاية. ويتركز الحضور اليهودي في المجالات النخبوية أكثر من غيرها، ففي الغناء يبرز بلا منازع نجوم كبار من بينهم جوني هاليداي وابنه دافيد، وانريكو ماسياس وباتريك برويل، وجان جاك غولدمان. ويتمتع هؤلاء بشعبية كبيرة ويحتشد في حفلاتهم مئات الآلاف من المستمعين. ويبرز في الجوانب المسرحية ميشال بوجناح وغي بيدوس وايلي كاكو وغيرهم. وفي السينما بيار عرديدتي وروجيه حانين وكلود بيري وغيرهم.
ويبرز في الثقافة والفكر والابداع كتّاب ومثقفون كبار شأن كلود ليفي ستراوس وألان فنكلكروت واندريه غلوكسمان وبرنار هنري ليفي ومارك هالثير ومكسيم رودنسون وبيار فيدال ناكيه وغيرهم. وتحضر في وسائل الاعلام اسماء لامعة ومؤثرة مثل جان دانييل وجان بيار القباش وبول عمار وآن سنكلير والكسندر آدلر.
اعتبارات عاطفية وشعورية
وفي السياسة تحضر شخصيات من أصول يهودية لعبت وتلعب أدواراً مهمة شأن روبير بادنتير وسيمون فيل وبرنار كوشنير وكلود الليغر وروبير هو وليون شوارزنبرغ وجاك آتالي وليونيل ستورلي ودانيال كوهن بندت وبيار لولوش. وتلعب شخصيات من أصول يهودية أدواراً مهمة في المحاماة والقضاء والتربية والتعليم وحقوق الانسان والمنظمات غير الحكومية والهيئات النقابية والشركات الكبيرة العامة والخاصة والسلك الديبلوماسي وقطاع المصارف والمال والبورصة كما في التجارة والفنادق والمطاعم وتجارة المفرق.
ويعكس هذا الحضور المتنوع اندماجاً عميقاً ومديداً في المجتمع والدولة الفرنسيين ويتيح فرصاً واسعة للدفاع عن الدولة العبرية ومساعدتها، لكنه لا يعني أن الطائفة اليهودية تسيطر على الدولة الفرنسية وتتحكم في سياستها، لأسباب عدة منها:
- ان سياسة الدولة الفرنسية ترسم وفق مصالح واعتبارات قومية فرنسية وأوروبية وعالمية وليس وفق اعتبارات طائفية وشعورية وعاطفية.
- ان الطائفة اليهودية ليست منظمة بطريقة محكمة البناء وبالتالي لا يمكنها استدعاء أبنائها وحشدهم في معاركها دفاعاً عن كل السياسات الاسرائيلية. فعلى رغم حضور الآلاف لحفلات باتريك برويل وانريكو ماسياس وميشال بوجناح فإن هؤلاء لم يتمكنوا من استدراج محبي فنهم الى التظاهرة الأخيرة دفاعاً عن اسرائيل التي ضمت 7-10 آلاف متظاهر على رغم ان الدعوة للتظاهر كانت موجهة من كل مؤسسات الطائفة اليهودية في فرنسا. وهذا يعني ان مثقفي الطائفة لم يفلحوا أيضاً في استدراج مئات الآلاف من ابنائها وليس فقط الفرنسيين من أصول أخرى.
- ان المجتمع الفرنسي ليس مبنياً على أسس طائفية ولا تحكمه المعايير الدينية ويهتدي بالأفكار والقيم العلمانية ويتأثر باعتبارات السلام وحقوق الانسان والعقلانية وهو محكم الذاكرة الوطنية والقومية والأوروبية وبالتالي فهو ليس مكوناً من فئات ساذجة يمكن التحكم بها وقيادتها بالاتجاه الذي ترغب فيه هذه الطائفة أو تلك.
- يدرك الفرنسيون ان خروج بلادهم من عملية السلام في الشرق الأوسط تم باصرار اسرائيلي - أميركي مشترك وهذا الأمر لا يتيح هامشاً كبيراً للمناورة أمام مؤيدي اسرائيل في فرنسا.
- يدرك الفرنسيون أن مصالح بلادهم تتركز في العالم العربي أكثر من اسرائيل وهذا الادراك يترسخ يوماً بعد يوم ولا يتيح مجالاً واسعاً للتحرك أمام المتعاطفين بلا شروط مع الدولة العبرية.
- لم تعد صورة العربي في فرنسا كتلك التي كانت سائدة في الخمسينات والستينات عندما كانت باريس منخرطة في حرب الجزائر وتخوض مجابهات مع عرب شمال افريقيا. فقد كفّ العربي الآن عن أن يكون عدواً للفرنسي وبالتالي هدفاً لتحالف فرنسي - اسرائيلي غير مشروط. ولم تعد فرنسا خصماً عنيداً للناصرية التي كانت تشعل الحماس العربي ضد الاستعمار. كما انها لم تعد مجالاً لعمليات ارهابية وافدة من الشرق الأوسط، بل صارت تسعى الى شراكة مع عدد من الدول العربية، وتنتهج سياسات متناسبة مع مصالحها والمعطيات الجديدة التي تحكم علاقاتها الشرق الأوسطية. وإذا كان هذا التغيير قد طرأ بعد حرب حزيران يونيو 1967 مع الجنرال ديغول فإن سياسة فرنسا الشرق الأوسطية ظلت محكومة بالتصور الديغولي طوال الفترة السابقة وحتى اليوم، الأمر الذي يفسر اصرار اسرائيل على استبعاد أي دور فرنسي في مفاوضات الشرق الأوسط، وبالتالي اقصاء هذا البلد عن أزمات المنطقة للمرة الأولى منذ عهد الملك فرانسوا الأول.
- تغيرت صورة فرنسا في العالم العربي، فهي ساعدت العراق في حربه ضد ايران، وانقذت ياسر عرفات مرتين من بيروت وطرابلس وحملته بواخرها الى مصر وتونس، واستقبله في الاليزيه 1986 للمرة الأولى الرئيس فرانسوا ميتران صديق اسرائيل. كما انها زودت العراق أول مفاعل نووي يمتلكه العرب 1974، وساعدت اليمن في استرداد جزيرة حنيش وأيدت وحدته. وهي تبني اليوم ميناء للشعب الفلسطيني في غزة وتشترك مع المصريين في المبادرات الدولية والاقليمية وتعاونت مع نظام الدكتور حسن الترابي في القبض على كارلوس. وتعقد صفقات أسلحة مع دول الخليج ويزور زعماء الدول العربية فرنسا بوتيرة متسارعة. كل هذه التغيرات جعلت صورة فرنسا في نظر الرأي العام العربي صورة دولة مختلفة تماماً عن صورتها الاستعمارية في الخمسينات والستينات وبالتالي لم تعد فرنسا اليوم تستسهل انتهاج سياسات مناهضة للعرب كما كانت الحال من قبل.
- بات وجود أكثر من 4 ملايين مسلم وعربي في فرنسا يلعب دوراً في كبح جماح الدعوات المناهضة للعرب في هذا البلد، خصوصاً أن الجيل الثاني والثالث من هؤلاء بدأ يندمج في المجتمع الفرنسي ويلعب دوراً في الحياة العامة. وباتت فرنسا مجبرة على أخذ هذا المعطى الجديد بعين الاعتبار وصارت تخشى من أن تمتد مفاعيل الصراع العربي - الاسرائيلي الى داخل أراضيها وأصبحت بالتالي أقل عرضة للاستجابة للسياسات الاسرائيلية كما كانت الحال في الخمسينات والستينات.
لهذه الأسباب مجتمعة يصعب القول إن الطائفة اليهودية تتحكم بالسياسة الفرنسية تجاه الشرق الأوسط. سوى ان التغييرات المذكورة لم تضع حداً لبعض التصورات الراسخة في العالم العربي والتصنيفات المستمدة من فترة الحرب الباردة. ومن بينها الاعتقاد الثابت بأن الحزب الاشتراكي الفرنسي واليسار عموماً مؤيد لاسرائيل، فيما التيار الديغولي واليمين الفرنسي منحاز للعرب. وغالباً ما ينطلق هذا التصنيف من كثرة اليهود وتأثيرهم في هذا التيار وضعفهم وقلة تأثيرهم في التيار الآخر. ولعل بعض الأحداث التي طرأت أخيراً زادت هذا الاعتقاد رسوخاً وثباتاً، ومن بينها زيارة جوسبان الأخيرة لاسرائيل، ووصف عمليات حزب الله ضد الجنود الاسرائيليين بأنها "ارهابية". ومن قبل حديث رولان دوما وزير الخارجية السابق عن سياسة فرنسا العربية بوصفها وهماً خالصاً، الى جانب ارتفاع أصوات اشتراكية بين الحين والاخر ضد العرب وقضاياهم.
اليسار لليهود واليمين للعرب
والثابت أن هذا التصنيف ليس مجرداً تماماً من أي أساس لكنه ينطوي على مغالطات كبيرة. فإذا كان صحيحاً ان الحزب الاشتراكي الفرنسي يضم عدداً كبيراً من النخب اليهودية ورؤساء الوزارات في فرنسا خلال ولايتي ميتران كان معظمهم متزوجاً من يهوديات ميشال روكار وليونيل جوسبان ولوران فابيوس، وإذا كان ميتران نفسه عديلاً للممثل اليهودي الشهير روجيه حانين وصديقاً شهيراً لاسرائيل، وإذا كان ذلك كله يغري بالقول بانحياز اشتراكي ويساري الى الدولة العبرية فإن المواقف السياسية الفرنسية خلال العهود الاشتراكية تتيح ملاحظة فروقات عدة، وبالتالي تستدعي الابتعاد عن التعميم. ففي مقابل مواقف جوسبان في اسرائيل، يلاحظ أن جان بيار شوفينمان وزير الداخلية السابق وهو متزوج من يهودية، مؤيد بقوة للعرب. ويحتل عربي منصب نائب الرئيس في حزبه. ويلاحظ ايضاً أن وزير الخارجية السابق كلود شيسون كان يثير حفيظة مواطنيه لكثرة دفاعه عن العرب ويلاحظ أيضاً ان فرانسوا ميتران هو أول رئيس فرنسي يزور سورية منذ استقلالها وأول رئيس دولة غربية يلتقي عرفات وأول رئيس فرنسي يزور اليمن ويفتح آفاق التعاون العسكري الواسع مع العراق قبل وخلال حربه مع ايران الى حد ارسال طائرات حربية لحماية الاجواء العراقية. وأول رئيس فرنسي يزور اسرائيل ويطالب في الكنيست الاسرائيلي بحقوق الشعب الفلسطيني. وتصف اسرائيل وزارة الخارجية الفرنسية بأنها "الحضن المؤيد على الدوام للعرب".
وفي السياق نفسه تقترب مواقف "الخضر" الى حد التماهي مع المواقف الفلسطينية. وعلى رغم كونه يهودياً، فإن روبير هو الأمين العام للحزب الشيوعي الفرنسي يدافع بقوة عن الاستقلال الفلسطيني والدولة الفلسطينية. وكذلك الأمر بالنسبة الى التيار "التروتسكي".
وفي المقابل، وحتى العام 1993، كان الرئيس شيراك بعيداً عن منظمة التحرير الفلسطينية وتعمد الابتعاد عن لقاء عرفات في 1989 في باريس. وكان يرى ان حل المشكلة الفلسطينية يتم عبر الأردن وهو أول رئيس فرنسي يعترف بمسؤولية بلاده عما تعرض له اليهود خلال الحرب العالمية الثانية. وفي عهد حكومتيه الأولى 1995 وأثناء رئاسته للحكومة 1986 - 1988 عقدت اتفاقات مهمة للتعاون العسكري بين فرنسا واسرائيل. وتؤيد شخصيات سياسية يمينية اسرائيل، شأن فرانسوا ليوتار وزير الدفاع الفرنسي السابق وآلان مادلان أحد أبرز مؤيدي حملة شيراك في الانتخابات الرئاسية 1995، لكن على رغم ذلك كله أصبح شيراك النصير الأول لعرفات بعد اتفاقات "أوسلو" وأظهرت زيارته للقدس في 1995 مقدار تأييده للفلسطينيين وصار صديقاً حميماً لشخصيات عربية كثيرة منها رفيق الحريري رئيس الوزراء اللبناني وحسني مبارك والملك الراحل الحسن الثاني وخليفته محمد السادس وهو يدعو اليوم لتركيز أسس ثابتة لسياسة خارجية فرنسية عربية في الاقتصاد والسياسة والثقافة وغيرها.
ولعل التفسير الأقرب الى الواقع، لهذا التقلب في المواقف يميناً ويساراً تجاه العرب وقضاياهم وتجاه اسرائيل يكمن أولاً في ظرفيتها وقربها وبعدها عن الاستحقاقات الانتخابية الفرنسية، وفي التغيرات التي حصلت في الشرق الأوسط، وفي بعد أو قرب المسؤولين المعنيين من السلطة وحقائقها، مما يعني أن التصنيف الزاعم بقرب اليسار من اسرائيل وقرب اليمين من العرب يستدعي نظرة جديدة ومختلفة ومراقبة الظروف والمناخات التي تتحرك في ظلها مواقف اليمين واليسار تجاه اسرائيل والعالم العربي.
هكذا يبدو، وخلافاً للتصور الراسخ عن سيطرة الطائفة اليهودية على سياسات فرنسا الخارجية، ان هذه الطائفة تحتفظ بنفوذ كبير في هذا البلد وبوسائل تأثير في غاية الأهمية لكنها على رغم ذلك ليست قادرة على التحكم بالسياسة الخارجية لفرنسا التي تظل محكومة بمصالحها وهي مكثفة في العالم العربي، أما العواطف وعبارات المجاملة وصيغ الترحيب تجاه هذا الطرف أو ذاك فلا يتوقف عندها الا اولئك الذين يعتقدون بشكل ساذج بأن سياسات الدول تنطلق من قلوب قادتها وليس من خزائنها!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.