فرنسا ليست ايطاليا، البلد الذي يمكن ان "تسقط" فيه حكومة جراء رهان خاسر في السياسة الخارجية، لهذا السبب لم تحظ السياسة الخارجية بموقع مهم في سلم أولويات المرشحين للانتخابات الفرنسية الاخيرة. وأصبح هذا الغياب النسبي لقضايا السياسة الخارجية عن النقاش في المعركة الانتخابية الفرنسية، والتشديد على القضايا الداخلية تقليداً راسخاً منذ انتخابات العام 1965 الرئاسية. ويظل هؤلاء المرشحون متكتمين حول السياسة الخارجية التي سيكون عليهم تطبيقها في حال جرى انتخابهم. فيكتفي معظمهم بالعموميات المزخرفة ببعض المقتطفات ذات الرؤية الجيوستراتيجية. غير ان الرئيس المنتخب نيكولا ساركوزي الذي يعتبر انقلابياً وفق كل المقاييس، وربما هو يعتقد فعلاً ان انقلابيته الاجتماعية في الداخل، ستطلق من جديد"العظمة الفرنسية"في الخارج بصورة عامة، تجنب طيلة الحملة الانتخابية الخوض في تفاصيل السياسة الخارجية حول مسائل كبيرة، على الأقل، تفرضها عليه المستجدات: العلاقات مع الولاياتالمتحدة، وأزمات الشرق الأوسط، ولا سيما الصراع العربي - الاسرائيلي. قبل ان يتسلم الرئيس الفرنسي الجديد مفاتيح قصر الاليزيه، من الرئيس جاك شيراك صباح 16 أيار مايو الحاري، تتساءل الدوائر الرسمية العربية، ومعها النخب في العالم العربي عن ماهية السياسة الخارجية الفرنسية التي سينتهجها ساركوزي، وهل ستشهد انقلاباً حقيقياً لجهة تجسيد القطيعة مع السياسة الديغولية. لا شك ان كلام ساركوزي المتكرر عن القطعية مع الماضي يتضمن تغييراً أساسياً في السياسة الخارجية، على رغم ان المراقبين متفقون على ان وصول ساركوزي لرئاسة دولة كبرى في أوروبا"يعوض"واشنطن خسارة رئيس الوزراء البريطاني توني بلير الذي يترك الحكم خلال اسابيع، فإنه لا يمكن تحسس التغيير الذي ينتظر فرنسا إلا بعد فترة قصيرة من وضع آلية الحكم. لقد قام ساركوزي بزيارة للولايات المتحدة الاميركية في 12 ايلول سبتمبر الماضي، حيث صرح كي يصبح أهلاً لالتقاط صورة الى جانب الرئيس بوش، بأن فرنسا ليست"معصومة عن اللوم"في علاقتها مع واشنطن. وهو علن، بعد لقائه الرئيس جورج بوش ان فرنسا"يمكن ان تنتقد"في علاقتها مع الولاياتالمتحدة، وفهم كثيرون في فرنسا ان هذا الانتقاد يطول، خصوصاً معارضة شيراك للغزو الاميركي للعراق ولمعالجة واشنطن لمشكلات الاحتلال. بيد انه أدرك، بسرعة كبيرة، ضخامة الخطأ الذي ارتكبه بظهوره العلني الى جانب رئيس الولاياتالمتحدة، حيث بدا مؤيداً لسياساته. إذ سبق للولايات المتحدة ان ساهمت في هزيمة رئيس الحكومة الاسباني، خوسيه ماريا أثنار، في انتخابات آذار مارس 2004، وتسببت برحيل رئيس الحكومة في بريطانيا توني بلير. وكان لافتاً وصف المعلقين في الصحف الاميركية ساركوزي ب"صديق"الولاياتالمتحدة، فيما توقعت موسكو"تطوراً ديناميكياً"في العلاقات الفرنسية - الأميركية. "تعجرف"هذا المصطلح المستخدم في جهتي المحيط الأطلسي، من قبل خصوم الموقف الفرنسي حينها من العراق، قد لفظه أيضاً ساركوزي في العدد نفسه من صحيفة"المحافظين الجدد"في فرنسا:"إنني لا أريد فرنسا متعجرفة". غير ان ساركوزي اجتهد لاحقاً لتصحيح صورته المؤيدة لأميركا، عن طريق مطالبة"أصدقائنا الأميركيين"بترك فرنسا وأوروبا"لحريتهما"، والمجاهرة بأن"الصداقة لا تعني الخضوع"خطابه في 28 شباط/ فبراير 2007. علماً ان الرئيس الفرنسي المنتخب، أوضح ان هذه الصداقة المتينة لا تعني التبعية وغياب الاختلاف بالرأي. من الصعب جداً تسمية الرئيس المنتخب"محافظاً جديداً"على طريقة"المحافظين الجدد"الأميركيين، لأن اختلافات عدة تفصله عنهم، ولأن فرنسا لا يمكن ان تنتج"صورة طبق الاصل"ل"المحافظين الجدد"، الذين ظهروا في الولاياتالمتحدة، ووجدوا ضالتهم في الرئيس جورج بوش. على رغم ان فرنسا ليست الولاياتالمتحدة وساركوزي ليس بوش، فإن البعض يحاول ان يعيد نسخ التجربة الأميركية. لقد تشكل تيار"المحافظين الجدد"في فرنسا من مجموعة من الكتاب الذين عرفوا في السبعينات بالفلاسفة الجدد، حينما التفوا من حول جان بول سارتر، بعد ان غير موقفه من القضية الفلسطينية، وأصبح اقرب الى اسرائيل، ومن هؤلاء على وجه الخصوص برنار هنري ليفي وآلان فنكلكروت واندرية غلوكسمان، وانضم اليهم في السنوات اللاحقة صف من الصحافيين والخبراء في الشؤون السياسية مثل الكسندر أدلر وجاك تانيرو وبيار اندريه تاجييف الذي برز خلال السنوات الاخيرة على نحو فاقع، من خلال طروحاته الداعمة لاسرائيل على نحو استفزازي، وذلك من نمط"الفرنسيون المعادون للصهيونية اكثر تطرفاً من الاسلاميين"و"معاداة السامية ومناهضة الصهيونية في كفة واحدة". ومارس هؤلاء التضليل الاعلامي سنة 2000 عبر عملية تلاعب ضخمة بالرأي العام الفرنسي، وقد نشر تاجييف وفنكلكروت سلسلة من المقالات، تتبنى الطرح الاسرائيلي القائل ان عرفات رفض في كامب ديفيد عرض اسرائيل السخي بإقامة دولة فلسطينية على 97 في المئة من أراضي ال1967، وان توقيع"اتفاق اوسلو"ما هو إلا للتغطية على هدفه الفعلي، وهو عودة اللاجئين وتدمير اسرائيل. استحق هؤلاء تسمية"الصهاينة الجدد"التي اطلقت عليهم في أكثر من مناسبة، وسماهم البعض الآخر"المبشرين الجمهوريين"، وينطبق ذلك اكثر ما ينطبق على فنكلكروت، الذي يعتبر الابرز من بين هذه المجموعة. وقد زاد من بروزه في العامين الأخيرين قربه الفكري من ساركوزي، فهو وقف في خريف سنة 2005 ليؤيد موقفه من الأحداث التي شهدتها الضواحي الفرنسية، ويحمل المسؤولية عنها الشبان ذوي الاصول العربية والافريقية والاسلام. وقد كانت شرائح واسعة من الرأي العام في حينه قد استهجنت تصريحات ساركوزي، التي اشعلت النار حين وصف هؤلاء الشبان ب"الحثالات". واعتبر ساركوزي ان فنكلكروت"شرف المثقف الفرنسي"بتصريحاته، وإذا كان البعض ينتقده فلأنه يقول أشياء صادقة. هذا"المثقف الصادق"لطالما افتخر بأنه قاد ما أطلق عليه معارضة معارضي الحرب على العراق، وسبق له ان وقع على بيان يدين ما سماه"العنصرية التي تطال البيض"، وهو الذي يعتبر ان المثقف العربي لا يمكن ان يكون ديموقراطياً، إلا إذا تخلى نهائياً عن المطالبة بحق العودة للشعب الفلسطيني. ومهما يكن من أمر، فإن ساركوزي هو أقرب الى رونالد ريغان ومارغريت ثاتشر في حماسة لأحداث"ثورة ليبرالية"تقود الى تخفيض الضرائب عن الأغنياء والشركات الكبرى، وإطلاق قوى السوق الليبرالي من عقالها، وتعديل قوانين العمل، وقلب النظام الاجتماعي الذي أسسته فرنسا منذ قرنين، والذي استند برمته الى الدور الريادي للدولة في الاقتصاد والإدارة والمجتمع رأساً على عقب. أما العلاقة مع اسرائيل، فقد أشاع فوز نيكولا ساركوزي برئاسة فرنسا أجواء من الارتياح في اسرائيل على المستويين السياسي والاعلامي، بحيث أجمع المسؤولون الاسرائيليون في الحكومة والمعارضة، على وصفه ب"الصديق"، وهذا ما عكسته الصحف الاسرائيلية ايضاً التي اعتبرت ان وصول المرشح اليميني الى الاليزيه"ثورة فرنسية"تصب في مصلحة الدولة العبرية. رئيس وزراء اسرائيل ايهود اولمرت، أعرب في رسالة تهنئة الى الرئيس الفرنسي المنتخب، عن ثقته بأن العلاقات بين اسرائيل وفرنسا ستزداد متانة في عهد نيكولا ساركوزي، وأضاف:"لدي قناعة بأن التعاون بيننا سيكون مثمراً وأننا سنتمكن معاً من دفع النشاط الديبلوماسي والسلام في منطقتنا"، واصفاً فرنسا بأنها واحدة من أهم الدول وأكثرها تأثيراً في أوروبا والعالم على السواء. وأشار بيان لرئاسة الوزراء الإسرائيلية إلى أن ساركوزي أبلغ أولمرت بأنه"صديق لإسرائيل ويمكن لإسرائيل دائماً الاعتماد على صداقتي". وعلى رغم أنه من السابق لأوانه التكهن بنوع التحول في"السياسة العربية"لفرنسا في عهد الرئيس الجديد نيكولا ساركوزي، فإن هذا الأخير حين كان وزيراً للداخلية استدعى السفراء العرب في باريس ليقول لهم إنه صديق إسرائيل، ولم يتغير موقفه. لكن تشابك المصالح العربية - الفرنسية التي يجب أن تعبر عنها السياسة الخارجية الفرنسية، إضافة إلى استمرار ضغط القضية الفلسطينية على السياسات الأوروبية عامة، ولا سيما الفرنسية منها، حتى وان تراجع التأييد الدولي لها، كما كان في السابق، جراء اندفاع معظم البلدان العربية نحو التطبيع مع إسرائيل واقامة سلام معها، لا يزالان يمنعان انزلاقاً كبيراً نحو تقارب استراتيجي فرنسي مع إسرائيل. الرئيس ساركوزي سيكون مثل سابقيه محكوماً بسقف التقليد الخاص للديبلوماسية الفرنسية، كما كان قبله فاليري جيسكار ديستان وفرانسوا ميتران، اللذان عرفا لحظة انتخابهما بالانتماء إلى الأطلسية مع بعد الديغولية وبالتأييد المفرط لإسرائيل، واللذان سرعان ما وجدا نفسيهما في إطار إرث ديغول، لم يحيدا عنه في سياساتهما الخارجية. ينبغي عدم المبالغة في قدرة الرئيس الفرنسي على صوغ سياسات خارجية وطنية بمفرده. وفي الواقع، وعلى رغم الصلات التاريخية القوية التي تربط فرنسا بالعالم العربي، والتي تضاربت خلالها المصالح الفرنسية مع مصالح الدول الكبرى المنافسة لها، وبخاصة بريطانياوالولاياتالمتحدة، إلا أن قيام إسرائيل منذ 1948 صبغ العلاقات الفرنسية - العربية بصبغة خاصة. لقد وقعت فرنسا مع بريطانياوالولاياتالمتحدة على البيان الثلاثي في سنة 1950، الذي تلتزم الدول الثلاث بمقتضاه بحماية أمن إسرائيل ووجودها. كما أرست الجمهورية الرابعة في عهد حكم الاشتراكيين غي موليه علاقات وطيدة وحيوية مع إسرائيل. فكانت فرنسا هي المصدر الأساسي للسلاح لإسرائيل، كما ساعدت بقوة برنامج الأبحاث النووية الإسرائيلي، حيث تم بناء ول مفاعل نووي إسرائيل في ديمونة في صحراء النقب بمساعة فرنسية أساسية. ووصل التحالف الفرنسي - الإسرائيلي الى مداه بمؤامرة العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، التي كانت محصلة كبرى لعاملين رئيسيين: الأول مساعدة مصر عبدالناصر للثورة الجزائري التي أصبحت تمثل مصدر توتر شديد في العلاقات الفرنسية - العربية. والثاني، العداء المشترك الفرنسي - الإسرائيلي لحركة القومية العربية الصاعدة بزعامة عبدالناصر. واستمرت السياسة الفرنسية ترجح كفة التقارب مع إسرائيل على كفة التقارب مع العالم العربي إلى أن جاءت الجمهورية الخامسة في العام 1958 بزعامة الجنرال ديغول، التي جسدت قطيعة حقيقية مع سياسة فرنسا في الشرق الأدنى. ولقد أعطت الحرب العربية - الإسرائيلية الرابعة في حزيران يونيو 1967 الفرصة التاريخية كي تفصح السياسة الديغولية عن وجهها الجديد في المنطقة العربية لجهة تأكيد هدف أساسي لسياسة ديغول ألا وهو استقلالية تفكيره وقراره وسياسته العملية التي كان يمارسها تجاه الولاياتالمتحدة وإسرائيل على حد سواء، وخدمة المصالح الفرنسية في المنطقة العربية التجارة + النفط. وقد تبلورت"السياسة العربية لفرنسا"التي قادها الجنرال ديغول على أرضية خدمة المصالح القومية الفرنسية كما يدركها هو، والتخلص من قيود السياسات الداخلية لفرنسا المؤيدة لإسرائيل، لجهة قيام فرنسا بدور مستقل في عملية البحث عن تسوية، جنباً الى جنب مع القوتين الأعظم الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي. إن سمة تلك الفترة المتجسدة بالصدمة النفسية الإسرائيلية من السياسة الفرنسية - سواء كانت مصطعنة أم حقيقية - منذ عام 1967، خدمت سياسة الرفض الإسرائيلية لكل المبادرات والمساعي الحميدة الفرنسية خلال السنوات الأخيرة. وعلى النقيض من ذلك، فإن الدول العربية تفرح عندما يصل الورثة السياسيون المفترضون للجنرال ديغول الى السلطة في فرنسا. وهذا ما حصل عندما تولى جورج بومبيدو السلطة عام 1969، حيث وطد علاقات فرنسا مع العالم العربي، ولا سيما مع المملكة العربية السعودية والعراق وليبيا التي كان قد استولى فيها العقيد القذافي على السلطة حديثاً. وعندما جاء اليسار الاشتراكي بزعامة الرئيس ميتران الى السلطة في أيار مايو 1981، ثارت التساؤلات والتوقعات حول مسار السياسة الخارجية الفرنسية بصفة عامة، وفي المنطقة العربية بصفة خاصة، ذلك لأن ميتران كان معروفاً بصداقته الوطيدة مع إسرائيل وبانتقاداته الدائمة للسياسات الفرنسية المساندة للعرب فقط. وكان ميتران أحد وزراء الجمهورية الرابعة التي أرست نمطاً جيداً وحيوياً من العلاقات مع إسرائيل. وعلى رغم تحفظ ميتران في التعامل مع القيادة العراقية، إلا أنه ساند بقوة النظام العراقية في حرب الخليج الأولى ضد إيران، نظراً إلى موقف ميتران المتشدد من خطر تصدير الثورة الإسلامية الإيرانية الى العالم العربي، وخطر العدوى الاصولية التي يمكن أن تمس فرنسا بالذات. وإبان أزمة الخليج الثانية، كان ميتران الرئيس الوحيد من بين الرؤساء الغربيين الذي حاول - من دون جدوى - اقناع الرئيس صدام حسين بالانسحاب بعد غزو القوات العراقية للكويت. * كاتب تونسي