يزور المسؤلون العرب العاصمة الفرنسية باريس لوداع الرئيس الفرنسي جاك شيراك، الذي سيترك الرئاسة للرئيس المنتخب الجديد في الشهر المقبل. ومن المعروف أن شيراك تربطه علاقات شخصية مع الكثير من الزعماء العرب، بسبب دوره السياسي الذي لعبه منذ أكثر من ربع قرن، فقد عمل وزيراً للمرة الأولى في عهد الرئيس الفرنسي السابق جورج بومبيدو عام 1973، وترأس الحكومة الفرنسية في عهدي الرئيسين فاليري جيسكار ديستان وفرانسوا ميتران، وعمل رئيسا لبلدية باريس وأخيرا رئيسا للجمهورية منذ عام 1995. وقاد شيراك حزب"التجمع من اجل الجمهورية"الذي تأسس عام 1967، من أجل الدفاع عن مبادئ الجنرال شارل ديغول، مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة، وجدد بنية الحزب، بعد أن انقلب على بارونات القيادات التقليدية للديغوليين، أمثال جاك شابان دلماس وموريس كوف دي مورفيل. وانتهج شيراك سياسة ديغول نفسها في التقارب مع الدول العربية، وتفهم قضاياها خصوصاً القضية الفلسطينية. ولهذا اعتبر حزبه من أكثر الأحزاب الفرنسية تفهماً للقضايا العربية. ونال الصراع العربي - الإسرائيلي حيزاً كبيراً في سياسة شيراك الخارجية، فقد تابع موقف الجنرال ديغول نفسه الذي بدأه عشية حرب 1967، من سياسة التقارب إلى تفهم للموقف العربي من الصراع العربي - الإسرائيلي. واعتبر نفسه صديقاً للعرب، حتى عندما كان رئيسا للحكومة في عهد الرئيس جيسكار ديستان، وسهّل عملية بيع مفاعل نووي للعراق والذي دمرته إسرائيل عام 1981، وأقام صداقات مع رؤساء الدول العربية، والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات. وبقيت صورته خلال زيارته للقدس العربية، عندما حدثت مشادة بينه وبين عناصر من الشرطة الإسرائيلية أمام عدسات التلفزيون الدولية، عالقة في أذهان الفرنسيين والعرب. وكادت تلك الحادثة أن تؤدي إلى أزمة ديبلوماسية بين فرنسا وإسرائيل، وذلك عندما أصر على التجول في القدس القديمة، ومصافحة الفلسطينيين، على الرغم من معارضة رجال الشرطة الإسرائيليين له. وهي الصورة التي استفاد منها في الانتخابات الرئاسية الأخيرة عند الناخبين العرب. ويتلخص موقف شيراك من القضية الفلسطينية بالنقاط التالية: - قيام دولة فلسطينية مستقلة، مع حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. - تحقيق الأمن لإسرائيل. - حل قضية القدس بشكل يرضي جميع الأطراف، وحل عادل ومقبول لقضية اللاجئين. - مبدأ الأرض مقابل السلام. - انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية إلى حدود الرابع من حزيران يونيو 1967. - حق جميع دول المنطقة بممارسة سيادتها على كامل أراضيها. وصارح شيراك الإسرائيليين عند زيارته لإسرائيل، ومخاطبته لهم في معهد"التخنيون"في حيفا، عندما ربط بين أمن إسرائيل وقيام الدولة فلسطينية. كما كان أول مسؤول أجنبي يتحدث إلى الفلسطينيين داخل مؤسساتهم، حيث خاطب أعضاء المجلس التشريعي في رام الله، ودعا إلى ضرورة قيام دولة فلسطينية ديموقراطية ومستقلة. وأقام احتفالاً كبيراً في باريس لوداع جثمان الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات يليق برؤساء الدول. وقيل إن الصوت العربي في فرنسا ساهم في إنجاح شيراك بإعادة انتخابه رئيسا عام 2002، ضد مرشح الحزب الاشتراكي ليونيل جوسبان ومرشح اليمين المتطرف جان ماري لوبن. وحظيت فرنسا في عهد شيراك بامتيازات كثيرة في الدول العربية، بسبب العلاقات القوية التي جمعته مع القادة العرب، بعكس السياسة التي قادها الحزب الاشتراكي، بطل العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، مع بريطانيا وإسرائيل. وعلى رغم التغيير الذي سار عليه الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران في تعامله مع القضايا العربية، إلا أن أحدا لم ينس ما حدث لمرشح الحزب جوسبان، في انتخابات الرئاسة الماضية، عند زيارته لجامعة بيرزيت الفلسطينية قبل الانتخابات بقليل، ووصفه"حزب الله"اللبناني بأنه منظمة إرهابية، مما جعل طلبة الجامعة يهاجمونه بالحجارة. وظهر جوسبان منذ ذلك الوقت بمظهر الصديق لإسرائيل والمعادي للعرب، مما حدا بأحد الطلبة الى وصفه بأنه"صهيوني". ولهذا اعترف بعض النشطاء العرب في فرنسا بأن الصوت العربي هو الذي أدى إلى خسارة جوسبان في الجولة الأولى، وأنهم كانوا السبب في حشد القوى خلف شيراك، وذلك بسبب موقف مرشح الحزب الاشتراكي في جامعة بيرزيت. وقال محمد الأطرش، رئيس حزب مسلمي فرنسا، إن"العرب رشقوا جوسبان بالأصوات كما فعل طلبة جامعة بيرزيت عندما رشقوه بالحجارة". أمام صورة شيراك وهو يصرخ في وجه رجال الشرطة الإسرائيليين ويهددهم بالعودة إلى بلاده، إذا منعوه من جولته في وسط القدس العربية ومصافحته للفلسطينيين، وصورة جوسبان، وهو يركب سيارته بسرعة محاطا بالحرس، هاربا من حجارة الفلسطينيين في جامعة بيرزيت، اختار الناخب العربي في فرنسا المرشح شيراك. ولهذا اعتبرت إسرائيل شيراك معاديا لها، واتهمه ارييل شارون، رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق، بأن فرنسا في عهده تعتبر من أكثر الدول الأوروبية مناهضة للسامية، وبالتخاذل في مواجهة الهجمات التي تعرضت لها بعض المعابد اليهودية في المدن الفرنسية، وبعدم اتخاذ إجراءات أكثر ردعا لوقف مثل تلك الأعمال التي وصفها بأنها مناهضة للسامية كما دعا وزير الداخلية الإسرائيلي إيلي يشاعي من حزب شاس، يهود فرنسا إلى"حزم حقائبهم والهجرة إلى إسرائيل"بعد نجاح جان ماري لوبن في انتخابات الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة الفرنسية عام 2002، مقابل مساعدات مالية يحصلون عليها عند وصولهم. وأوهمهم بأن استمرار وجودهم في فرنسا أصبح خطرا عليهم علما أن إسرائيل لا تستطيع ابتزاز الفرنسيين بعقدة الذنب تجاه اليهود، كما تفعل مع ألمانيا منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. وحاول شارون استغلال يهود فرنسا، للضغط على الحكومة الفرنسية ودفع اليهود الى الهجرة إلى إسرائيل، بحجة وجود حملة مناهضة لهم في فرنسا. إلا أنهم لم يلبوا دعوته تلك بالهجرة، بل كتب العديد من المفكرين والصحافيين اليهود الفرنسيين مقالات يرفضون فيها هذا العرض الذي اعتبروه محاولة من شارون للزج بهم في الحرب ضد الفلسطينيين. ولكن المنظمات الصهيونية المؤيدة لإسرائيل دعت إلى التظاهر تأييدا لها. علما أن العنصرية وبالأخص تلك المناهضة للسامية، تعتبر في القانون الفرنسي جريمة يعاقب عليها القانون فمنذ عام 1972 دفعت منظمة"ليكرا"إلى التصويت على قانون يجرم معاداة السامية بحيث أن كل من يشكك في الهولوكوست أو عدد الضحايا اليهود يقع تحت طائلة القانون وحسب القانون فإن الضحية يمكن ان يطالب بالتعويضات. ومنذ عام 1990 نجحت"ليكرا"في الحصول على حق المنظمات اليهودية كذلك في المطالبة بالحق المدني الى جانب الضحية ثم أن يكون من حقها وحدها رفع دعوى ضد الجناة. لذلك فإن تهمة مناهضة السامية ليست مجرد اتهام يلقى جزافا في فرنسا بل هي تهمة يمكن ان يعاقب مرتكبها بالسجن. وفي ضوء الانتخابات الفرنسية واحتدام المعركة الانتخابية بين وزير الداخلية الفرنسي اليميني نيكولا ساركوزي مرشح حزب"التجمع من اجل الجمهورية"، وسيغولين رويال مرشحة الحزب الاشتراكي الفرنسي، ومشاركة حوالي 40 مليون فرنسي من أصل 60 مليوناً، يتوزعون على الكاثوليك ويمثلون حوالي 82 في المئة من المواطنين الفرنسيين، والمسلمين البالغ عددهم حوالي ستة ملايين، بينهم خمسة ملايين من العرب المهاجرين في معظمهم من الجزائر والمغرب وتونس، والبروتستانت حوالي مليون، واليهود 700 ألف، بات من الطبيعي التساؤل عما إذا كانت تلك السياسة الفرنسية التي سار عليها شيراك سوف تستمر بعد الانتخابات الرئاسية، خاصة بعد أن دافع كل من ساركوزي ورويال عن إسرائيل وسياستها في الشرق الأوسط الى جانب مواقف ساركوزي القديمة والمعروفة ضد المهاجرين العرب في فرنسا. ومع أنه ينتمي إلى الحزب نفسه الذي أنشأه شيراك، إلا أنه كان على خلاف معه في السنوات الماضية، إلى حد اتهامه بالعمل ضده في حملته الانتخابية. وكذلك الأمر بالنسبة لمرشحة الحزب الاشتراكي، المعروف عنه تأييده المطلق لإسرائيل. على الدول العربية الحريصة على صداقة فرنسا أن تعي جيدا أن السياسة الفرنسية لن تكون بعد الانتخابات الرئاسية كما كانت في السنوات الماضية. تلك السياسة التي دفعت بعض المسؤولين والقادة العرب إلى التوجه الى العاصمة الفرنسية من أجل وداع الرئيس شيراك. فالساكن الجديد في قصر الإليزيه لن يكون كما كان الذي سيغادره، لا في مواقفه السياسية ولا في قدرته على انتقاد إسرائيل على مواقفها مع الفلسطينيين ولبنان، ولا انتقاد الاحتلال الأميركي للعراق. وسيكون أقرب إلى رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، لأنه قد يكون من المعجبين بتلك السياسة التي سار عليها. * أستاذ العلوم السياسية بجامعة اليرموك الأردنية