للمرة الاولى منذ نشوء الجمهورية الثانية المستندة الى اتفاق الطائف تم التعرض لسورية في مجلس النواب اللبناني المنتخب حديثاً، وتحديداً لدورها الكبير في تسيير امور لبنان، وذلك اثناء جلسات مناقشة النواب البيان الوزاري لحكومة الرئيس رفيق الحريري الثالثة تمهيدا للتصويت على الثقة فيها. فالنائب بيار عبده دكاش الآتي الى الندوة النيابية من صفوف المعارضة الراديكالية الرافضة اتفاق الطائف بشقيه الاقليمي والداخلي تناول ترابط المسارين التفاوضيين اللبناني والسوري مع اسرائيل فانتقد في صورة غير مباشرة الغياب الفعلي للبنان عن المفاوضات على رغم عدم رفضه الترابط المذكور. والنائب نجاح واكيم الذي وصل الى مجلس النواب عام 1972 من صفوف التيار العروبي الناصري وكان خلال سنوات الحرب الطويلة في الصف "الوطني" و"العروبي" واستمر فيه عام 1993 وعام 1996 من خلال الموقع السياسي نفسه، شرّح في مناقشته العنيفة للحكومة ولبيانها الوزاري ولرئيسها دور سورية في عدد من المسائل اللبنانية التي هي موضع جدل في الاوساط السياسية والشعبية، وانتقد العلاقة القائمة بين اركان في الحكم والحكومة وبعض الرموز السورية معتبراً انها تشكل نوعاً من الحماية لهم والتغطية لأعمالهم التي تلحق أبلغ الضرر بمصالح لبنان وبمصالح سورية، وفي الوقت نفسه بالعلاقات المميزة والخاصة بينهما. والنائب بطرس حرب الآتي الى مجلس النواب من صفوف مؤيدي اتفاق الطائف، علما انه ساهم في وضعه عام 1989، ومن المعترضين في الوقت نفسه على طريقة تطبيقه واجتزائه والاستنساب فيه ألقى في جلسات مناقشة البيان الوزاري كلمة "مسهبة" أجمع المراقبون على رصانتها وجرأتها انتقد فيها هيمنة سورية على القرار اللبناني وحذر من تحول دمشق الى "آستانة" ثانية. ماذا يكشف هذا التعرض لسورية في مجلس النواب اللبناني الذي حصل للمرة الاولى منذ انتهاء الحرب او الحروب التي استمرت اكثر من 16 سنة؟ انه يكشف امراً اساسيا جدا هو ان اللبنانيين يعتبرون ان سورية التي حدد المجتمع العربي والدولي دورها في لبنان منذ انتهاء الحرب فيه وتكرس في اتفاق الطائف بمساعدته على الانتقال من الحرب الى السلم الاهلي ان سورية هذه باتت جزءاً من المشكلة اللبنانية بعدما كانت جزءاً من حلّها. ولا يلغي هذه الحقيقة اقتصار الجهر بهذا الواقع على فئة معينة من اللبنانيين ذات لون سياسي وطائفي محدد. ذلك ان الفئات الاخرى منهم ذات الالوان السياسية والطائفية المذهبية المختلفة تشاركها انتقاد التحول في الدور اللبناني لسورية ولكن همساً وداخل الصالونات المقفلة، وان تكن تختلف معها على الاهداف التي يرمي انتقاد سورية الى تحقيقها. وهو يكشف ايضا عدداً من الخلفيات التي تحكمت بالانتخابات النيابية التي جرت الصيف الماضي، سواء لجهة القانون الذي أُجريت على اساسه أم لجهة النتائج التي أسفرت عنها. فالاصرار على قانون انتخاب غير عادل لا سيما لجهة تقسيم الدوائر الانتخابية وكان يرمي الى "أمرين". الاول دفع المعارضة الراديكالية الرافضة اتفاق الطائف والجمهورية الثانية التي انبثقت عنه والدور السوري المهيمن فيها الى مقاطعة الانتخابات النيابية، علما انها كانت ميالة الى ذلك، لأن مشاركتها فيها بفاعلية كانت ستؤدي اما الى دخول عدد لا بأس من ممثليها الى مجلس النواب الامر الذي يربك سياساته الموالية لسورية، واما الى تدخل لبناني - سوري رسمي يبقي هذه المقاطعة خارج المجلس "بالاقتراع"، ومن شأن ذلك جعل المجتمعين الاقليمي والدولي يشككان في سلامة العملية الانتخابية وحريتها. اما الامر الثاني فهو ايصال اكثرية نيابية ساحقة متحالفة مع سورية وجاهزة للدفاع عن دورها اللبناني أياً تكن سعة حدوده وانعكاساته على لبنان، والامران حصلا. اما الاصرار الفعلي وغير اللفظي من قبل اوساط سياسية متنوعة الاتجاهات السياسية على اشتراك المعارضة الراديكالية في الانتخابات فكان هدفه ايصال عدد من النواب الى المجلس كاف وان لم يكن كبيراً جداً لخلق مناخات جديدة داخلية تسمح بالكلام عن كل القضايا والمواضيع التي تثير اهتمام اللبنانيين وقلقهم في آن واحد، سواء كانت محلية او اقليمية، وتحديداً ذات صلة بالعلاقة اللبنانية - السورية وبالدور الواسع جداً لدمشق في لبنان. لكن هذه الامور تكشف حقيقة فعلية هي ان سورية وحلفاءها اللبنانيين لا سيما الذين في السلطة وكذلك المعارضين حاولوا من خلال الانتخابات النيابية تحقيق اهداف متناقضة على رغم ارتباطها بموضوع واحد هو دور سورية في لبنان. وفي هذا المجال كانت دمشق محقة في مساعيها الناجحة لابقاء مجلس النواب موالٍ لها. كما كانت المعارضة التي خرقت المقاطعة محقة بدورها في الدعوة الى المشاركة في الانتخابات لأن تلك هي الطريقة الوحيدة لفتح ملفات ممنوع فتحها. اما الطريقة التي عالج بها رئيسه مجلس النواب نبيه بري فتح ملف العلاقات اللبنانية - السورية من قبل عدد من النواب فدلت في وضوح على ان هذا الموضوع لا يزال فتحه او الخوض فيه من المحرمات. المصادر السياسية المطلعة تعتقد ان دمشق التي تعرف نيات اخصامها واعدائها وحلفائها في لبنان تتمسك، بسياستها اللبنانية القائمة على ابقاء العلاقات جيدة بين حلفائها اللبنانيين لا سيما الحاكمين منهم، لكن ليس الى درجة تحولهم فريقاً واحداً متماسكاً، والقائمة ايضاً على ابقاء الخلافات بينهم، لكن ليس الى درجة انفجارها، كي لا تطيح بالمنجزات التي تحققت، والقائمة اخيراً على الامساك المباشر ومن خلال السلطة بالملف الامني تلافياً لمفاجآت غير سارة. وهذا يعني ان المرحلة المقبلة في لبنان ستشهد استمرار التحالف والتناقض بين اركان الترويكا الرئاسية وبين المؤسسات الرسمية المتنوعة. ويبدو ان هذه المرحلة بدأت، فرئيس مجلس النواب نبيه بري ينتقد رئيس الجمهورية الياس الهراوي من دون ان يسميه بسبب دعوته الى اجراء تعديلات دستورية. كما ان وسائل اعلامية قريبة من سورية انتقدت كلام الهراوي اخيراً عن الزواج المدني. ورئيس الحكومة رفيق الحريري رد في الجامعة الاميركية في بيروت على معارضيه الذين يبدو ان معظمهم من داخل الحكم والسلطة، وان من دون ان يسمي احداً. وكان الرئيس الهراوي اعطى اشارة بدء هذه المرحلة في خطابه يوم الاستقلال وبعده وفي حوار مباشر على شاشة التلفزيون مع طلاب جامعيين