تشهد الساحة اللبنانية سخونة في المواقف السياسية، نتيجة اقتراب موعد الانتخابات النيابية المزمع إجراؤها في الربيع المقبل، وصدور القرار الاتهامي في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري المتوقع في شهر آذار مارس المقبل. ويترابط هذان الموضوعان الى حد كبير، لتورط أطراف داخلية وخارجية عدة في جريمة الاغتيال، والخوف من أن يؤدي قرار الاتهام الى اغتيالات سياسية واضطرابات أمنية قد تتحول الى تفجير واسع. وإن تسليط الأضواء على الحركات الأصولية المتنقلة يخفي وراءه استسهال الاغتيالات والخضات الأمنية بحيث تلقى تبعتها على تلك الأصوليات. وقد يؤدي ذلك الى تأجيل الانتخابات النيابية أو حصولها بمقاطعة فئة كبيرة من اللبنانيين غير ملتزمة بأحزاب أو تيارات سياسية خوفاً من حصول انتكاسات أمنية في يوم الانتخاب، الأمر الذي قد يؤدي الى فوز المعارضة بالأكثرية النيابية، ما يمكّن الحكومة المنبثقة منها، من التأثير في المحكمة الدولية وعرقلة أعمالها من خلال عدم التجاوب مع متطلباتها وطلباتها، خصوصاً لناحية تمويلها للعامين المقبلين أو تسليمها المتهمين اللبنانيين. ومع أن اتفاق الدوحة أدى الى انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية وتأليف حكومة الوحدة الوطنية الحالية، إلا أن الشق الأمني منه المتعلق بعدم استعمال العنف والسلاح في الداخل من قبل الفئات المسلحة ولأغراض خاصة، لم ينفذ، وما زال موضوع وجود السلاح خارج الشرعية مدار خلاف متعمد للإبقاء عليه في يد فئة كي تستطيع أن تفرض آراءها وقراراتها على الفئة العزلاء، ما قد يؤثر في الانتخابات النيابية. كما ان هناك استحقاقات بالغة الأهمية وفاصلة عن موعد الانتخابات النيابية، منها تسلّم الإدارة الأميركية الجديدة الحكم في الشهر المقبل، والانتخابات الإسرائيلية في شباط فبراير، وانطلاق المحكمة الدولية في آذار وستكون لهذه الاستحقاقات انعكاسات على الوضع الداخلي في لبنان. بدأت دمشق تدخلها بالانتخابات النيابية برصّ صفوف حلفائها في لبنان، وإزالة الخلافات في ما بينهم وتكتيلهم في تحالف كبير، استعداداً للمنازلة الانتخابية النيابية الكبرى التي سيتقرر على نتائجها مصير لبنان، لناحية هويته ودوره في الصراع العربي - الإسرائيلي ومدى انخراطه في هذا الصراع، والصراع الإقليمي - الدولي الذي يريد فريق المعارضة أن يكون لبنان جزءاً من المحور الإقليمي، وتعمل دمشق على أن تكون الغلبة فيها لأنصارها بحيث تسيطر من خلالهم على القرار اللبناني. استهلت المعركة الانتخابية اللبنانية باستقبال رئيس التيار الوطني الحر العماد ميشال عون في دمشق استقبالاً مميزاً فاق استقبال الرئيس ميشال سليمان، فأسبغت طابعاً استثنائياً على زيارته بوضع الطائرة الرئاسية في تصرفه، وفرش السجاد الأحمر له في القصر الجمهوري، وترتيب الاستقبالات الشعبية له في دمشق وبعض المدن والبلدات السورية، وعقد ثلاثة لقاءات مع الرئيس السوري بشار الأسد. ولا بد من الإشارة الى توصيف عون لمحادثته مع الأسد انها كانت بمثابة"عملية القلب المفتوح"وطالب اللبنانيين بالاعتذار من سورية، متناسياً مواقفه ضدها وتنكيل الأجهزة الأمنية المشتركة بأنصاره ومطالبته بتوقيع العقوبات الدولية عليها لاحتلالها لبنان. ولا بد من التذكير بيده الطولى في صدور قانون محاسبة سورية عن الكونغرس الأميركي والقرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي. واللافت أيضاً مخاطبة الأسد لعون"كنت خصماً شريفاً وأنا أقدر صلابتك وأثمن مواقفك الوطنية التي تجعلك رجلاً على المستوى العربي"متناسياً أيضاً وسائل إعلامه التي كانت تصف عون بپ"الجنرال المتصهين"، عندما تمترس في القصر الجمهوري ورفض الإذعان للشرعيتين اللبنانية والدولية بتسليم الرئاسة الأولى الى الرئيس الشهيد رينيه معوض ومن بعده الى الرئيس إلياس الهراوي وشنّ"حرب التحرير"ضد القوات السورية بصفتها قوات احتلال، بعدما رفض الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد الموافقة على توليه الرئاسة اللبنانية. هدفت زيارة عون الى تحقيق أمور عدة، فهو استعان بها للتغلب على خصومه في الانتخابات النيابية، بترتيب حلفائه في قوى 8 آذار لحملهم على التخلي عن بعض الترشيحات لمقاعد نيابية مسيحية لمصلحته، حتى يكسب غالبية التمثيل المسيحي في وجه خصومه من جهة وفي وجه رئيس الجمهورية من جهة أخرى، من أجل تقييده ومنعه من الحصول على كتلة نيابية وسطية ترسي توازناً في البلد، بحيث يكون هو الزعيم المسيحي الأبرز. ويستغل عون عدم سعي رئيس الجمهورية جدياً لإرساء موقع قوي له في الساحة المسيحية وانشغاله بالزيارات الخارجية، في تعزيز اندفاعته نحو الزعامة المسيحية. ويأمل الكثيرون في لبنان بأن يكون رئيس الجمهورية أكثر حضوراً وأن يكرس معظم وقته وجهده في تكتيل اللبنانيين حول مشروع الدولة. في المقابل وفّر عون للسوريين ورقة ضغط على موقع الرئاسة الأولى، حيث يحمل رئيس الجمهورية مشروعاً يقوم على حماية الوطن وتعزيز دور الدولة ومؤسساتها الشرعية وصيانة السلم الأهلي والوحدة الوطنية وإنهاء دور لبنان كساحة مواجهة مفتوحة وإقامة علاقات قوية وصحيحة مع سورية على أساس المصارحة والمساواة والندية والاحترام المتبادل الفعلي لاستقلال كل من البلدين وسيادته. ويتنافى مشروع الرئيس اللبناني الذي تؤيده غالبية الشعب اللبناني مع الرغبات السورية بعودة لبنان الى الفلك السوري، وتوفر الزيارة أيضاً تجاوز القرارات الدولية والشكليات الرسمية من خلال تطبيع الأمر الواقع مع فرقاء لبنانيين. واللافت أيضاً من الزيارة مطالبة عون دمشق تعديل اتفاق الطائف الذي صار دستوراً والقائم على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين. وتتضمن بنوده الرئيسة حل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وتسليم أسلحتها الى الدولة، وتطبيق اللامركزية الإدارية، واستحداث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية، وانتخاب مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي، لكنه بقي حبراً على ورق نتيجة معارضة سلطة الوصاية السورية تطبيقه، لأنه حدد مدة زمنية لوجودها العسكري والأمني في لبنان. يرى عون في الاتفاق عدم التوازن بين مؤسسات الدولة، لذلك فإنه يسعى الى تأمين الأكثرية المسيحية في الانتخابات النيابية المقبلة من أجل القيام بالتصحيحات اللازمة، من أجل استعادة صلاحيات رئيس الجمهورية. وهو يبغي من وراء مطالبته بتعديل الاتفاق تجييش الشارع المسيحي قبل الانتخابات النيابية، وتسديد إضافة في مرمى الطائفة السنية، ونسي أن التعديل لن يكون في مصلحة المسيحيين لأنه سيؤدي حتماً الى المثالثة التي تساوي بين الطوائف الكبرى الثلاث: السنية والشيعية والمارونية، أو الى حرب أهلية جديدة قد تنتهي بتقسيم لبنان. ولا ندري السبب الحقيقي لموقف الجنرال من السنّة، هل يعود الى وقوفهم مع غيرهم عائقاً أمام تحقيق حلمه في الوصول الى سدة الرئاسة الأولى، أم نتيجة التحاقه بالمحور الإيراني - السوري الذي ينافس محور الاعتدال العربي على النفوذ في المنطقة؟ وهل يعد طرحه لموضوع يثير الحساسية عند السنّة وهو إعطاء موقع غير موجود في الدستور وهو نائب رئيس مجلس الوزراء، صلاحيات، قد تطيح بالمعادلة اللبنانية، تصرفاً بريئاً؟ ويهدف عون من ارتمائه في الأحضان السورية مطالبته بإبقاء السلاح بيد"حزب الله"تحقيق حلمه بتطويبه زعيماً للمسيحيين وإلغاء الزعامات المسيحية الأخرى ودور بكركي السياسي والوطني، على أمل أن تأتي الفرصة الملائمة لتحقيق حلمه في تبؤ رئاسة الجمهورية. وكان الأحرى به المطالبة بحصر السلطة الأمنية والعسكرية بيد الدولة لأنه يشكل الضمانة لاستمرار صيغة العيش المشترك والسلم الأهلي. * كاتب لبناني.