الدعوة التي اطلقها كل من رئيسي مجلس النواب والحكومة حسين الحسيني وعمر كرامي لإجراء الإنتخابات النيابية في مطلع هذا الصيف، وفور عودتهما من دمشق حيث شاركا في القمة اللبنانية - السورية الى جانب رئيس الجمهورية الياس الهراوي، هل تعني ان الأمور تسير باتجاه تحضير الأجواء لاجراء الإنتخابات النيابية، وهي الأولى منذ اندلاع الحرب اللبنانية، وان "الناخبين الكبار" اعطوا "الضوء الأخضر" بما يساعد على تذليل الإعتراضات القائمة من قبل "الناخبين المحليين"؟ الملفت في هذه الدعوة انها جاءت بعد ان استحصلت حكومة الثلاثين على "درع التثبيت" من دمشق. فيما كانت الأحاديث تدور على ضرورة احداث صدمة سياسية يمكن ان تعيد للحياة السياسية اعتبارها ورونقها وتأتي عن طريق احداث تبديل وزاري يراد منه ابراز اهتمام الحكم في التصدي للأزمات الإقتصادية والإجتماعية الخانقة. اما وان الرؤساء الثلاثة اقتنعوا، وبعضهم "على زعل"، بأن لا مجال في الوقت الحاضر لإجراء تبديل وزاري اقله تطعيم الحكومة الكرامية بعناصر جديدة، فإنهم اخذوا على عاتقهم تفعيل الوضع الوزاري، بالتوافق بين السلطتين الإجرائية والتشريعية على برنامج سياسي يتناول بالدرجة الأولى تنفيذ ما تبقى من اتفاق الطائف.. ويتضمن البرنامج السياسي تصحيح اوضاع الإدارة العامة التي تعاني من شرور الفوضى والفساد، وجمع السلاح الخفيف واجراء الإنتخابات النيابية واعادة تنظيم الإعلام المرئي والمسموع، انطلاقاً من اعتقاد القيادة السورية، أن المشكلة لم تكن على الإطلاق في الأداء الحكومي، وانما في الخلل الذي يسيطر على العلاقات القائمة بين الرؤساء الثلاثة والذي بات يتسبب بانعدام التضامن والإنسجام بين مجلس النواب والحكومة. من هنا فإن الرؤساء عادوا من دمشق وفي ذهنهم ان الإعداد لشن خطة هجومية، يبقى الطريق الأفضل للدفاع عن السلطات بوجه منتقديها. وجاء التركيز على ضرورة اجراء الإنتخابات النيابية على عجل، وكأنه يهدف الى فتح ملف آخر من شأنه ان يصرف الأنظار عن استمرار محاكمة الحكومة على تقصيرها في تصديها للأزمات المتراكمة، ويرمي في السوق السياسية ورقة جديدة، تمهد الطريق امام تجاذب بسبب التباين في المواقف والشروط حيال اجراء الإنتخابات النيابية. ويبقى السؤال المطروح: هل ستنجز الإنتخابات النيابية في موعدها المحدد في مطلع الصيف المقبل، وهل بمقدور الحكومة ان تتجاوز الإشكالات الفنية والسياسية التي لا تزال تعترض اتمامها، خصوصاً في ضوء حصول تطور في الموقفين الأميركي والفرنسي، جعلهما اقرب الى الدعوة لإجراء الإنتخابات من الدعوات التي لا تحبذ انجازها في الوقت الحاضر؟ يعتقد احد الوزراء البارزين ممن سبق لهم وخاضوا تجربة الإنتخابات أن هناك امكانية في تجاوز الشروط الفنية المتعلقة بإعداد لوائح الشطب وتنقيحها. بدءاً بتصحيح الأسماء والتأكد من الوفيات ووضع اليد على اعمال التزوير التي طاولت معظم لوائح الشطب بسبب الشلل الذي اصاب دوائر الأحوال الشخصية من جراء الحرب وحال دون قيامها بمهامها وفق الأصول القانونية. ويضيف ان الشروط الفنية لن تقف حجر عثرة بوجه امكانية اجراء الإنتخابات على خلاف الشروط السياسية المتعددة التي يتحدث عنها الغرب بإستمرار، وأقلها توفير الحرية للناخبين بعيداً عن كل اشكال الضغط. ويعترف احد الوزراء، بحصول تطور في الموقف الأميركي - الفرنسي الذي انتقل من رافض لإجراء الإنتخابات النيابية في المطلق الى مؤيد بشروط، وان ما صدر عن لسان مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط ادوارد جيرجيان، ومن ثم على لسان الناطق بإسم الخارجية الفرنسية دانيال برنار يفهم وكأن واشنطنوباريس تؤيدان اجراء الإنتخابات ولكن بشروط. ومع ان الموقف الأميركي من اجراء الإنتخابات كان قد سبق الموقف الفرنسي، فإن الدوائر اللبنانية المختصة ترى في الموقف الفرنسي محاولة لتوضيح وتصويب الموقف الذي كان تحدث عنه سفير فرنسا في بيروت دانيال هوسون بقوله ان بلاده تؤيد اجراء الإنتخابات، وانما تشترط خروج كل الجيوش الأجنبية من لبنان. وهناك من يقول أن السفير هوسون - الذي غادر بيروت الى باريس لتمضية عطلته السنوية - لم يكن في اجواء حقيقة الموقف الفرنسي التفاوضي، وانه اكتفى بالتعبير عن الموقف المبدئي في المطلق الذي يعارض اجراء الإنتخابات قبل خروج كل الجيوش الأجنبية من لبنان. ماذا عن "الشروط" الأميركية - الفرنسية وهل يمكن لكل من الطرفين القيام بدور الوسيط بغية التخفيف من المعارضة المسيحية لإجراء الإنتخابات التي يتحدث عنها بطريقة مباشرة مجلس المطارنة الموارنة الذي كان اشار بصراحة الى وجود مخاوف حيال اجراء الإنتخابات في ظل وجود "جيوش اجنبية" فوق الأراضي اللبنانية وعدم ايجاد حل لمشكلة عودة المهجرين؟ يبدو ان الجهد الأول والأخير للبطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير - على حد قول وزير مسيحي - يهدف الى تحضير الأجواء امام عقد مصالحة بين الكنيسة المارونية ، و"الشارع المسيحي" الذي يقوده العماد ميشال عون اللاجىء حالياً في فرنسا لا سيما بعد توجيه اتهام الى الكنيسة بانها "انحازت الى جانب خصومه، الذين تواطأوا عليه وانقادوا وراء اتفاق الطائف" كمدخل لإزاحته وابعاده عن وزارة الدفاع وقصر بعبدا. ونجح البطريرك صفير الى حد كبير في تحقيق فك اشتباك من دون ان يؤدي ذلك الى قيام احلاف جديدة في الشارع المسيحي، على رغم الجهود التي باشرت بها لجنة المساعي الحميدة المؤلفة من رموز مسيحية موالية لكل من الرئيس السابق الشيخ امين الجميل، العماد ميشال عون و"القوات اللبنانية" والعميد ريمون اده، والتي لم تتمكن حتى الساعة من جر المتحاربين في الطائفة المارونية الى اتفاق لوقف اطلاق النار بالمعنى السياسي. وهناك من يفسر الخطب الأسبوعية للبطريرك صفير وكأنها محاولة لاستعادة المرجعية التي فقدتها البطريركية بسبب الحرب بين العماد عون و"القوات"، بعد ان تعرض البطريرك صفير لانتقادات من التيار العوني، اقلها أنه يوالي "القوات" على حساب الجنرال عون. الا ان الحديث عن امكانية احياء احلاف سياسية جديدة يبقى من السابق لأوانه، وهو ينتظر حقيقة موقفي واشنطنوباريس اللتين تجريان حالياً مفاوضات مع دمشق، يبدو انها لا زالت في منتصف الطريق، وان كانت اطلقت اشارات سياسية اعتبرها حلفاء سورية في لبنان بأنها مقبولة، وان هناك بوادر امام تطوير التفاهم الذي يجب ان يتناول المرحلة المقبلة بكل مشاكلها وازماتها. وتعتبر عدم معارضة واشنطنوباريس لإجراء انتخابات نيابية بمثابة اول اشارة سياسية ايجابية، بحجة ان اجراء الإنتخابات، بصرف النظر عن كل الظروف المحيطة بلبنان، تبقى افضل من الإبقاء على الحياة السياسية اللبنانية الراهنة التي تستمد قوتها من مجلس نيابي يتألف من معينين وممدد لهم. حتى ان واشنطن ترى ان النتائج المرجوة من الإنتخابات ستكون في مطلق الأحوال افضل من التركيبة التي يتشكل منها المجلس النيابي الحالي، لاعتقادها انها ستعيد الروح الى اللعبة السياسية، بدخول رموز سياسية جديدة قد لا تكون مع اتفاق الطائف على بياض لكنها قادرة على ممارسة الرقابة الديموقراطية التي تحول دون الإنجراف في المواقف. وفي هذا الصدد يقول قطب سياسي ان الشروط الأميركية - الفرنسية لا تتناول الجانب الفني والتقني المطلوب توفيره لإجراء الإنتخابات وإنما الشق السياسي الذي يأخذ بالإعتبار ولادة مجلس نيابي جديد يجمع تحت سقفه بين الموالين والمعارضين. ويؤكد القطب السياسي، ان الموقف الأميركي من اجراء الإنتخابات يشكل نسخة طبق الأصل عن الموقف الأميركي تجاه ابرام معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق بين لبنان وسورية، حيث راهن عدد من الأطراف على اهمية المعارضة الأميركية للمعاهدة بين البلدين، لكن سرعان ما تبين لهم ان لواشنطن نظرة مختلفة عن النظرة التي اعتمدوها في رفضهم للمعاهدة، اذ ان واشنطن اذا كانت تحبذ التعاون بين بيروتودمشق، الا انها لا تؤيد السيطرة السورية على القرار اللبناني. ويرى القطب السياسي اياه أن واشنطن تقف الى جانب تنفيذ اتفاق الطائف بكل بنوده، لاعتقادها ان بعض هذه البنود تعطي لسورية مالها في لبنان، على ان تقوم في وقت لاحق بتنفيذ التزاماتها حيال لبنان. ويعتقد القطب السياسي ان واشنطن تلتزم التريث في اصدار الحكم النهائي على مسار تطبيق اتفاق الطائف لشعورها بأن لبنان يعطي لسورية ما لها، على ان يستعد في وقت لاحق لمطالبتها بما عليها، بدءاً بإعادة الإنتشار في اواخر ايلول سبتمبر المقبل. لذلك فإن واشنطن لا تمانع بإجراء الإنتخابات النيابية، وتتعاطى مع لبنان على انه غرفة من زجاج، لا يمكن للمداخلات او الضغوط ان تؤثر على مجرى العملية الإنتخابية، وهي تحاول منذ الآن التفاهم على ما تقصده بالشروط الخاصة بتوفير الحرية للناخبين وتأتي في مقدمتها: - ضرورة تشكيل حكومة جديدة مصغرة تتولى الإشراف على اجراء الإنتخابات. - عدم ضرورة احضار مراقبين دوليين لمراقبة سير العملية الإنتخابية، والاستعاضة عن ذلك، بوجود المئات من المراسلين الأجانب او الوفود التي يتزامن وصولها الى بيروت مع بدء العملية الإنتخابية. - تأييد التوصل الى ائتلاف سياسي واسع يمكن ان تترجم نتائجه بتمثيل كل التيارات السياسية في المجلس النيابي المنتخب. بحيث يحول ذلك دون اطلاق دعوات لمقاطعة الإنتخابات، اي ان واشنطن لا تجد من موانع للتعاون مع "التيار العوني". - منع قيام احلاف طائفية لشعورها بأن هذه الأحلاف، تمهد امام العودة بالوضع السياسي الى الوراء. - كيفية توزيع المقاعد النيابية المحدثة على المسيحيين والمسلمين من خلال رفع العدد من 108 نواب الى 128، وربما الى اكثر، بناء على اصرار رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي الوزير وليد جنبلاط على رفض مساواته بالطائفة الكاثوليكية بحجة انه لا يجوز ربط تمثيل طائفة بأخرى.