كان جيل دولوز يشعر أكثر فأكثر بالاختناق - أهما رئتاه المريضتان أم هو الهواء راح يندر من حوله؟ - فقرّر أن يرحل في السبعين، قبل نهاية القرن الذي سيحفظ اسمه كواحد من أكبر فلاسفته. هكذا مشى إلى نافذة شقّته الباريسيّة، وقفز في الفراغ. كأنّه بذلك يسعى إلى خلق حدث داخل الحدث، كما لاحظ زميله ورفيقه المفكّر الفرنسي جاك داريدا. كأنّه يمضي بنا إلى ما هو أبعد من حدث موته - هو من كرّس جزءاً أساسياً من نشاطه الفكري لرصد "الحدث" وتحليله - فيتجاوز الحدث ويفتح حدوده على قعر آخر، يشرّعها على اللامتناهي الأليم الذي ينطوي عليه الحدث الآخر، أي انتحاره. جيل دولوز فيلسوف يستعصي على التصنيف، وتضيق بفكره المدارس والتيارات. من محطّة إلى أخرى، ومن كتاب إلى آخر كان يمضي بحثاً عن الأسئلة نفسها: كيف السبيل إلى اختراع وسائل كفيلة بالتأمّل في الحركات والأحداث؟ كيف يمكن أن نعقل ما يتحرّك، يولّد، يهرب، يصبح، يبتكر، ينزلق، ينبثق... بدل المضيّ في تأمّل ما يبدو لنا ثابتاً، أبدياً، لا يعرف حركة ولا تحوّلاً؟ كيف نفهم أننا نتكلّم عن عالم، عن لغة، عن زمن، بينما هناك كميّة لا حصر لها من الانفعالات، والأمزجة، والجمل، واللحظات، والوضعيات المختلفة للأعضاء والكلمات... كل منها يشكّل - بحدّ ذاته - عالماً قائماً بذاته؟ كل هذه التساؤلات كانت تنبع لدى دولوز من هاجس أساسي: كيف يمكن للمرء أن يكون فيلسوفاً بعد نيتشه؟ وهو، مع ميشيل فوكو، من القلائل الذين تنطّحوا لمهمّة رفع التحدّي، والمضيّ في ابتكار الفلسفة، بعد أن بات الكثير من أسلحتها المعتمدة منذ أفلاطون وحتّى هيغل، غير صالح للاستعمال. ويبدو دولوز، من خلال العديد من مؤلفاته، مؤرخاً للفلسفة. من كتابه عن هيوم 1953 حتّى لايبزيغ 1988 مروراً بنيتشه، سبينوزا، برغسون وكانت، عمل على الغوص في الأنظمة الفلسفيّة والبنى الفكرية لاستخراج مفاصلها واضاءة محاورها الأساسية. هكذا عرّج المفكّر الراحل على النصوص التأسيسية، والمفاهيم الكبرى، وعبَر النصوص الثانويّة، وكثّف عناصر قراءته في كتابات تعطي اليوم مداخل ومفاتيح لا بدّ منها لدخول تاريخ الفلسفة. لكنّ دولوز اندسّ في هذا التاريخ، ليثير الشغب وليخلق على طريقه شيئاً من الفوضى واختلال التوازن إذ تصرّف بالنصوص على طريقته، رتّبها تبعاً لمنطقه الخاص، فسلّط عليها أضواء غير متوقّعة. من عناصر موجودة، اخترع آلة لم يعهدها أحد من قبل. كما أن دولوز هو قبل شيء مبتكر مفاهيم، وناقد متمهّل يغرف من الأعمال الابداعية الحيّة مادة أوّلية لصياغة الأفكار. فالحقيقة في نظره لا تنتظر من يكتشفها، بل هي طالعة من رغبتنا في ابداعها. لذا تنقّل بين أدب بروست أو كافكا أو ساشر - مازوخ، بين فن فرانسيس بايكون أو فردي، وكتب مع المحلّل النفسي الراحل فيليكس غواتاري بحثاً ينقض الفرويدية بعنوان "أوديب المضاد" 1975، ثم مؤلّفاً مرجعياً بعنوان "ما الفلسفة؟" 1991. في مجلّة "ماغازين ليترير" التي كرّست له عدداً خاصاً عام 1988، كتب يقدّم نفسه كالآتي: "يسافر قليلاً. لم ينتمِ يوماً إلى الحزب الشيوعي. لم يكن أبداً ظاهراتياً أو هايدغريّاً. لم يتخلّ عن ماركس. لم يطلّق أيار/ مايو 1968".