10.1 تريليونات قيمة سوق الأوراق المالية    1% انخفاضا بأسعار الفائدة خلال 2024    تستضيفه السعودية وينطلق اليوم.. وزراء الأمن السيبراني العرب يناقشون الإستراتيجية والتمارين المشتركة    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    البرهان يستقبل نائب وزير الخارجية    كاساس: دفاع اليمن صعب المباراة    قدام.. كلنا معاك يا «الأخضر»    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    إحالة ممارسين صحيين للجهات المختصة    جواز السفر السعودي.. تطورات ومراحل تاريخية    حوار «بين ثقافتين» يستعرض إبداعات سعودية عراقية    5 منعطفات مؤثرة في مسيرة «الطفل المعجزة» ذي ال 64 عاماً    التحذير من منتحلي المؤسسات الخيرية    لمن القرن ال21.. أمريكا أم الصين؟    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    استشهاد العشرات في غزة.. قوات الاحتلال تستهدف المستشفيات والمنازل    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    مترو الرياض    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    مشاهدة المباريات ضمن فعاليات شتاء طنطورة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    الأمير فيصل بن سلمان يوجه بإطلاق اسم «عبد الله النعيم» على القاعة الثقافية بمكتبة الملك فهد    جمعية المودة تُطلق استراتيجية 2030 وخطة تنفيذية تُبرز تجربة الأسرة السعودية    نائب أمير الشرقية يفتتح المبنى الجديد لبلدية القطيف ويقيم مأدبة غداء لأهالي المحافظة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    المملكة واليمن تتفقان على تأسيس 3 شركات للطاقة والاتصالات والمعارض    اليوم العالمي للغة العربية يؤكد أهمية اللغة العربية في تشكيل الهوية والثقافة العربية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    طقس بارد إلى شديد البرودة على معظم مناطق المملكة    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    المملكة ترحب بتبني الأمم المتحدة قراراً بشأن فلسطين    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    وصول طلائع الدفعة الثانية من ضيوف الملك للمدينة المنورة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"مثقفون دجالون" : مصطلحات تقنية غامضة او ... لا معنى لها
نشر في الحياة يوم 25 - 08 - 1999

نشرنا خلال الفترة الماضية القسمين الاول والثاني من القراءة المطولة لكتاب "مثقفون دجالون" الذي اثار ضجة كبرى عند صدوره في باريس اواخر السنة الماضية. وهنا القسم الثالث على ان يعقبه قسم رابع واخير الاسبوع المقبل.
الفيلسوف وعالم الاجتماع جان بودريار معروف جيداً في كتاباته عن الواقع والظاهر والوهم. وفي بعض الاحيان تبدو محاولات استخدام بودريار التعابير العلمية مجازية. على سبيل المثال انه كتب عن حرب الخليج ما يلي: "ان اكثر الامور مدعاة للغرابة ان الفرضيتين، الرؤيا النبوئية للزمن الحقيقي والحرب الخالصة مع انتصار المتصور على الحقيقي، تم ادراكهما في الوقت نفسه، في الزمكان نفسه، كل منهما في مطاردتها العنيدة للاخرى. انها اشارة لأن يصبح فيها فضاء الحدث ما فوق فضاء hyperspace ذا انكسارية متعددة، وان فضاء الحرب اصبح لا اقليدياً في آخر المطاف". بودريار: حرب الخليج لم تندلع، ص 50، التأكيد بالاصل.
يعلق ألن سوكال وجان بريكمون في قولهما: يبدو ان هناك تقليداً في استعمال المصطلحات الرياضية التقنية خارج سياقها. عند لاكان، نجد الاشكال الهندسية الشبيهة بالطارة مثل اطار السيارة والاعداد التخيلية، وعند كريستيفا، المجموعات اللانهائية، وهنا تطالعنا الفضاءات اللااقليدية. لكن ماذا تعني هذه الاستعارة؟ حقاً، كيف يبدو فضاء الحرب الاقليدي؟ لنلاحظ بالمناسبة ان فكرة "ما فوق الفضاء ذي الانكسارية المتعددة" لا وجود لها لا في الرياضيات ولا في الفيزياء، انها اجتراح بودرياري.
وكتابات بودريار مغرقة في مثل هذه الاستعارات المستقاة من الرياضيات والفيزياء. على سبيل المثال: "في فضاء التأريخ الاقليدي، ان اقصر بعد بين نقطتين هو الخط المستقيم، خط التقدم والديموقراطية. لكن هذا صحيح فقط في الفضاء الخطي للتنويرية linear المقصود بذلك الفضاء ذو البعد الواحد. وفي فضائنا اللااقليدي لنهاية القرن، يحرف الانحناء المشؤوم كل المسارات من دون خطأ. وهذا مرتبط ولا شك بكروية الزمن الذي يمكن رصده على افق نهاية القرن، مثلما تشاهد كروية الارض على الافق في نهاية النهار او بتشوه حقل الجاذبية… وبهذا الارتداد التأريخي الى اللانهاية، هذا الانحناء الزائدي المقطع hyperbolic، يتهرب القرن نفسه من نهايته". بودريار: وهم النهاية 1994.
ويقول ايضاً: "ولعلنا الى هذا بالذات نجدنا مدينين بهذا اللهو الفيزيائي: الانطباع بأن الاحداث، الجماعية او الفردية، تم رزمها في ثقب ذاكرة. ان هذا التعتيم ناجم عن حركة الارتداد هذه ولا شك، هذا الانحناء القطعي المكافيء parabolic للفضاء التأريخي". بودريار: وهم النهاية، ص 20.
ثم ان التشوش العلمي عند بودريار، او فانتازياته قادته الى اجتراح مقولات فلسفية لا مبرر لها. وهو لا يطرح تفسيراً بأي شكل من الاشكال لدعم فكرته القائلة ان العلم يصل الى فرضية "مناقضة لمنطقه". وهذا الضرب من التفكير ينعكس مرة اخرى في مقاله تحت عنوان "عدم الاستقرار الأُسّي، الاستقرار الأُسّي": "ان مشكلة الحديث عن النهاية لا سيما نهاية التأريخ هي انك ملزم بأن تتحدث عما بعد النهاية وكذلك، عن لا امكانية النهاية، في الوقت نفسه. هذه المفارقة ناجمة عن الحقيقة القائلة انه في فضاء التأريخ اللاخطي، اللااقليدي لا يمكن تحديد موضع النهاية. ان النهاية، في واقع الحال، يمكن ادراكها فقط في نظام منطقي من السببية والاستمرارية. والآن، ان الاحداث نفسها، التي، بواسطة انتاجها الاصطناعي، وظهورها المبرمج، او استباق تأثيرها - ناهيكم عن تغيّر مظهرها في الميديا - تُخمد العلاقة بين العلة والمعلول وبالتالي كل الاستمرارية التأريخية".
"ان هذا التشوه في العلل والمعلولات، هذا الاستقلال الملغز للمعلولات، هذه المعكوسية في العلة والمعلول، التي تحدث اضطراباً او نظاماً عشوائياً وضعنا الراهن بالضبط: معكوسية الواقع والمعلومات، التي تسبب الاضطراب في دنيا الاحداث وتخلق ضجة في عالم الميديا، تثير في الذهن، الى حد ما، نظرية الفوضى ولا تناسباً بين خفقة جناحي الفراشة والاعصار الذي يهب في الجانب الآخر من العالم. كما انها تذكرنا ايضاً بنظرية جاك بنفنيست المتناقضة حول ذاكرة الماء…".
"ولعل التأريخ نفسه ينبغي ان يعتبر ككيان عشوائي يضع فيه التسارع حداً للخطية linearity، ولعل الاضطراب الذي تمخض عن التسارع يحرف التأريخ عن نهايته بصورة قاطعة، مثلما يبعد الاضطراب المعلولات عن عللها". بودريار: وهم النهاية، 1994.
يعلق ألن سوكال وجان بريكمون على هذا المقتبس في قولهما: "اولاً، ان نظرية الفوضى لا تقلب بأي شكل من الاشكال العلاقة بين العلة والمعلول. حتى في الشؤون البشرية، نحن نشك كثيراً في ان يكون حدثٌ في الوقت الراهن له تأثير على حدث في الماضي!. كما ان نظرية الفوضى لا علاقة لها بفرضية جاك بنفنيست حول ذاكرة الماء. ان تجارب جماعة بنفنيست على الآثار البايولوجية للمحاليل المخففة جداً، التي كان يظن انها توفر قاعدة علمية للعلاج المثلي homeopathy، سرعان ما تم الطعن بها بعد ان نشرت على عجلة في مجلة Nature العلمية. وبعد ذلك اعلن بودريار بأن ذاكرة الماء هي "المرحلة النهائية لتغيير العالم الى مجرد معلومات". واخيراً، ان الجملة الاخيرة من نصه، لا معنى لها من وجهة النظر العلمية، مع انهامركبة من مصطلحات علمية".
ونظرية الفوضى هي فرع من الرياضيات يسعى الى تفسير الانظمة العشوائية، اي الانظمة التي يصعب التنبؤ بها لأنها تنطوي على العديد من المتغيرات بالمفهوم الرياضي او العوامل المجهولة مثل الارصاد الجوية. ان نظرية الفوضى التي تحاول التنبؤ بالسلوك المحتمل لهذه الانظمة، التي تستند الى حساب سريع لتأثير اوسع مدى من العناصر الممكنة، ظهرت في السبعينات مع تطور اجهزة الكومبيوتر. واستعملت لأول مرة في الارصاد الجوية، كما استعملت في الاقتصاد ايضاً عن قاموس Hutchinson للافكار.
مصطلحات
من بين المصطلحات التي يشير ألن سوكال وجان بريكمون الى استعمالها الملتبس عند كثير من كتاب ومفكري الموجة الجديدة كلمة Linear خطّي. يؤكد المؤلفان على ان هذه الكلمة كثيراً ما يساء استعمالها، وكذلك نقيضتها كلمة nonlinear لا خطّي. ولايضاح ذلك يقول المؤلفان ان كلمة خطي لها معنيان متميزان في الرياضيات لا ينبغي الخلط بينهما. فمن جهة يمكن الحديث عن دالة خطية linear functions، اي دالة رياضية من الدرجة الاولى، اي معادلة من الدرجة الاولى، مثل دالة س = 2س، او دالة س = -17س، الخ. هاتان دالتان خطيتان، اي من الدرجة الاولى. اما دالة س = س2، او دالة س = جيب س، فهما دالتان ليستا من الدرجة الاولى، اي غير خطيتين. وبلغة الرياضيات تجدر الاشارة الى ان معادلة الدرجة الاولى تصف حالة يكون فيها مع التبسيط "المعلول متناسباً مع العلة". ومن جهة اخرى يمكن الحديث عن نظام خطي linear order، الذي غالباً ما يسمى نظاماً اجمالياً total order. هذا يعني ان عناصر اية مجموعة مرتبة بطريقة يكون فيهالكل زوج من العناصر أ، ب الاحتمالات الآتية: ان أ اصغر من ب، وأن أ = ب، وان أ اكبر من ب.
اما الكتّاب ما بعد الحداثيين فقد اضافوا معنى جديداً الى كلمة خطي، له علاقة ما بالمعنى الثاني، لكن غالباً ما يختلط مع المعنى الاول، وذلك عند الحديث عن التفكير الخطي، من دون ان يقدموا معنى دقيقاً له، لكن المعنى العام واضح، ويقصدون به التفكير المنطقي والعقلاني للتنويرية وما يدعى بالعلم "الكلاسيكي" الذي غالباً ما يتهم بالاختزالية والرقمية المفرطة. وفي مقابل هذه الطريقة العتيقة من التفكير، يدعون الى تفكير غير خطي ما بعد حداثي. اما المعنى الدقيق للمصطلح الاخير فليس واضحاً بما فيه الكفاية، لكنه، في الظاهر، عبارة عن ميثودولوجيا علم منهج تتجاوز العقل والعقلانية عن طريق التأكيد على الحدس والادراك الذاتانيين.وغالباً ما يزعم ان ما يدعى بالعلم ما بعد الحداثي - وعلى وجه الخصوص نظرية الفوضى - يبرر ويدعم هذاالتفكير غير الخطي. لكن هذا التأكيد، يقول المؤلفان، ناجم عن الخلط بين المعاني الثلاثة لكلم خطي.
ويستدرك ألن سوكال وجان بريكمون فيقولان انهما لا يوجهان نقداً الى هؤلاء الكتّاب لاستعمالهم كلمة خطّي في الاطار الذي يشاؤونه. فالرياضيات لا تحتكر الكلمة. لكن ما ينبهان عليه هو ميل بعض الكتّاب ما بعد الحداثيين الى الخلط بين مفهومهم للكلمة والمفهوم الرياضي لها.
وفي ضوء هذه الطريقة من اساءة استعمال المصطلح، فان المرء غالباً ما يجد مؤلفين ما بعد حداثيين يعتبرون نظرية الفوضى بمثابة ثورة ضد ميكانيك نيوتن - الذي ينعت بأنه خطي - او يعتبرون ميكانيك الكم مثالاً على النظرية غير الخطية. هذا في حين ان الفكرة الخطية عند نيوتن تشتمل على معادلات غير خطية. لهذا نرى ان العديد من الامثلة على نظرية الفوضى تأتي من ميكانيك نيوتن، وبالتالي فان دراسة الفوضى تمثل في حقيقتها نهضة في ميكانيك نيوتن. وبالمقابل، يعتبر ميكانيك الكم مثالاً جوهرياً على "العلم ما بعد الحداثي"، مع ان المعادلة الاساسية لميكانيك الكم - معادلة شرودنغر Schrodinger - خطية بصورة لا تقبل النقاش.
ثم ان العلاقة بين الخطية والفوضى وحل المعادلات كثيراً ما يساء فهمها. من المعلوم ان المعادلات غير الخطية اكثر صعوبة في حلهامن المعادلات الخطية، لكن ليس على الدوام: فهناك مسائل خطية صعبة جداً،واخرى غير خطية سهلة جداً. على سبيل المثال، ان معادلات نيوتن عن مسائل تتعلق بجرمين الشمس وأحد الكواكب من مسائل العالم كبلر، هي غير خطية ومع ذلك واضحة او سهلة الحل. وخلافاً لما يعتقد كثير من الناس، ان النظام غير الخطي ليس بالضرورة عشوائياً.
وتزداد الصعوبات والاشكاليات عندما يحاول المرء تطبيق نظرية الفوضى الرياضية على حالات ملموسة في الفيزياء، او علم الاحياء، او العلوم الاجتماعية. كما ان بعض "التطبيقات" المزعومة لنظرية الفوضى - على سبيل المثال في حقل ادارة الاعمال او التحليل الادبي - تكاد تبدو مضحكة. وتجدر الاشارة ايضاً الى الفوضى الحاصلة من الجمع بين نظرية الفوضى الرياضية والحكمة الشعبية القائلة ان من شأن اسباب صغيرة ان تتمخض عن نتائج خطيرة، مثل "لو كان انف كليوباترا اصغر"، او قصة المسمار المفقود الذي ادى الى انهيار امبراطورية. فكثيراً ما نسمع عن نظرية فوضى "تطبق" على التأريخ او المجتمع، في حين ان المجتمعات البشرية انظمة معقدة تشتمل على عدد هائل من المتغيرات، لا يمكن في الوقت الراهن على الاقل التعبير عنها بمعادلات.
وغالباً ما يواجه المرء، في الكتابات الحداثية، الزعم القائل ان التطورات العلمية الحديثة لم تغير وجهة نظرنا عن العالم فحسب، بل تمخضت عنها تحولات فلسفية وابستمولوجية عميقة. وبكلمة، ان طبيعة العلم بالذات تغيرت. والامثلة التي تذكر بهذا الصدد: ميكانيك الكم، ونظرية غودل، ونظرية الفوضى. لكن المرء يجد ايضاً امثلة اخرى، كسهم الزمن، والتنظيم الذاتي، وهندسة الهشاشة اي الاشكال غير المنتظمة، والانفجار الكبير Big Bang، والعديد من النظريات الاخرى.
ومن بين الافكار التي طرحت في هذا الاطار، النص الآتي لليوتار: "الخلاصة التي بوسعنا ان نتوصل اليها من هذا البحث والكثير من البحوث التي لم يرد ذكرها هنا هي ان الدالة الخاضعة لعملية التفاضل الرياضي المستمر تفقد اهميتها كانموذج paradigm للمعرفة والتنبؤ. ان العلم ما بعد الحداثي - من خلال اهتمامه بامور مثل الاشياء التي يتعذر اتخاذ قرار بشأنها، وحدود السيطرة التامة، والتناقضات المتأتية عن المعلومات الناقصة، وهندسة الهشاشة، ونظرية الكارثة، والمفارقات الفعلية، ينظّر تطوره باعتباره غير متصل وكارثياً، وغير قابل للحل، وينطوي على مفارقات. انه يغير معنى كلمة المعرفة، في الوقت الذي يؤكد كيف ان مثل هذا التغير يحدث. انه لا يجترح المعلوم، بل المجهول. ويقدم نموذجاً من التشريع لا علاقة له بالأداء في حدوده القصوى، بل ينطوي في جوهره على تخالف يُفهم كمغالطة". ليوتار: الوضع ما بعد الحداثي.
يقول ألن سوكال وجان بريكمون: طرح ليوتار هنا ستة مواضيع رياضية وفيزيائية على الاقل في آن واحد، يمكن اعتبارها متباعدة فيما بينها من حيث المفهوم. كما انه خلط بين الدوال غير القابلة لعملية التفاضل وحتى الدوال المتقطعة في امثلة علمية مع ما يدعى بتطور "متقطع" او قائم على مبدأ "المفارقة" للعلم نفسه. لا شك في ان النظريات التي تطرق اليها ليوتار تقدم معرفة جديدة، لكنها تفعل ذلك من دون تغيير معنى الكلمة. ثم ان ما تقدمه العلوم معلوم وليس مجهولاً الا في المفهوم المبتذل حيث تثير الاكتشافات الجديدة مسائل جديدة. واخيراً، يبقى "نموذج التشريع" هو المقارنة بين النظريات والملاحظة والاختبار، وليس "التخالف الذي يُفهم كمغالطة" اياً كان معنى هذه العبارة.
دولوز وغواتاري
يعتبر جيلْ دولوز، الذي توفي قبل سنوات، واحداً من اكبر المفكرين الفرنسيين المعاصرين. له زهاء عشرين كتاباً في الفلسفة، اما بمفرده اوبالاشتراك مع العالم النفساني فيلكس غواتاري. وقال عنه ميشيل فوكو ان القرن ربما سيصبح يوماً ما قرن دولوز. ومع ذلك لم يسلم، لا هو ولا غواتاري، من انتقادات ألن سوكال وجان بريكمون، التي طالت كتاباتهما المطعمة بمصطلحات وافكار مستعارة من الفيزياء والرياضيات. ففي رأي ألن سوكال وجان بريكمون ان اهم ما تتسم به النصوص التي يستشهد بها دولوز وغواتاري هو افتقارها الى الوضوح. ويقولان: لا شك في ان المدافعين عنهما - اي عن دولوز وغواتاري - سيقولون ان هذه النصوص عميقة واننا فشلنا في فهمها كماينبغي. وعلى اية حال، اذا امعنا النظر، فاننا سنرى ان هناك تركيزاً شديداً على المصطلحات العلمية، استخدمت خارج سياقها وبلا منطق واضح، على الاقل اذا نظرنا الى هذه المصطلحات في اطارها العلمي اي معناها العلمي. ولا شك في ان من حق دولوز وغواتاري استعمال هذه المصطلحات في معان اخرى: فالعلم ليست لديه سلطة احتكار كلمات مثل "الفوضى"، او "الغاية"، او "الطاقة". لكننا، كما سنكتشف، سنجد ان كتاباتهما مليئة ايضاً بمصطلحات تقنية جداً ليست مستعملة خارج الخطابات العلمية المتخصصة، ولا يقدما لها تعاريف اخرى بديلة.
هذه النصوص تدور حول مواضيع متنوعة جداً: نظرية غودل Godel، نظرية الاعداد الاصلية cardinals ما وراء المتناهية، هندسة ريمان، ميكانيك الكم… لكن هذه الالماعات مختصرة مبتسرة وسطحية الى درجة ان القارئ غير المتخصص في هذه المواضيع لن يكون في وسعه ان يتعلم منها شيئاً ذا بال. وسيجد القارئ المتخصص نصوصها بلا معنى في الغالب، او مقبولة في احيان اخرى لكنها مبتذلة ومشوشة.
ويقول المؤلفان: اننا نعلم جيداً ان موضوع اي اختصاص دولوز وغواتاري هو الفلسفة، وليس تبسيط العلوم. فما معنى حشو الفلسفة برطانة من المواضيع العلمية التي اسيء هضمها؟ وحسب رأي ألن سوكال وجان بريكمون ان التفسير الاكثر معقولية لمحاولاتهما هذه هو ان هذين المؤلفين يتمتعان بمعرفة واسعة لكنها سطحية، يودان طرحها في كتاباتهما.
وبالفعل، لقي كتابهما "ما هي الفلسفة" رواجاً في فرنسا في 1991. وأحد اهم مواضيعه هو التمييز بين الفلسفة والعلم. فحسب رأي دولوز وغواتاري ان الفلسفة تتعامل مع "المفاهيم"، في حين يتعامل العلم مع "الدوال" functions. وفي ما يلي كيف يوضحان هذا الفرق: "الفرق الاول بين العلم والفلسفة هو موقف كل منهما من الفوضى. لا تُعرّف الفوضى من خلال لا نظاميتها بقدر ما تعرّف من خلال السرعة اللانهائية التي يتلاشى كل شكل يتشكل فيها. انها الفراغ الذي ليس هو اللاشيء بل المتصور، محتوياً على كل الجسيمات الممكنة ومستخرجاً كل الاشكال الممكنة، التي تظهر فقط لكي تختفي فجأة، من دون تماسك او مرجع، ومن دون نتيجة. الفوضى هي السرعة اللانهائية للولادة والزوال". دولوز وغواتاري: ما هي الفلسفة.
يؤكد ألن سوكال وجان بريكمون على ان كلمة "الفوضى" لم تستعمل هنا في اطارها العلمي المعروف، ويشيران في هامش الى ان دولوز وغواتاري يحيلان القارئ - في هامش - الى كتاب من تأليف بريغوجين Prigogine وستينجرز Stengers، حيث يجد المرء التفسير المذهل الآتي لنظرية الحقل الكمي: "الفراغ الكمي هو نقيض اللاشيء: وبعيداً عن ان يكون سلبياً او غير فعال، انه يحتوي بصورة كامنة على كل الجسيمات الممكنة. وبلا توقف تنبثق هذه الجسيمات من الفراغ، فقط لتختفي على الفور". ايليا بريغوجين وايزابيل ستينجرز: في الزمن والابدية، 1988.
يأخذ ألن سوكال وجان بريكمون على دولوز وغواتاري، هنا، غرامهما في حشد او ضخ المصطلحات العلمية من دون "قافية او سبب" على حد تعبيرهما، وان خطابهما يتراوح بين الهراء مثل "الدالة هي حركة بطيئة" والحقائق البديهية مثل "العلم يطور المسارعات على الدوام".
على ان ألن سوكال وجان بريكمون يعترفان بأن كتاب دولوز وغواتاري المشار اليه "ما هي الفلسفة" يشتمل ايضاً على فقرات تطرح مسائل مهمة في فلسفة العلم. على سبيل المثال: "كقاعدة عامة، ان المراقب ليس غير ملائم ولا ذاتانياً: حتى في فيزياء الكم، ان عفريت هايزنبرغ لا يعبّر عن استحالة قياس كل من سرعة الجسيم وموضعه على اساس من التدخل الذاتاني للقياس مع المقيس، لكنه يقيس بالضبط حالة موضوعية تترك الموضعين المتعلقين باثنين من جسيماته خارج حقل تحققهما، حيث يختزل عدد المتغيرات المستقلة، وتكون قيم الاحداثيات محتفظة بنفس الاحتمالية" دولوز وغواتاري: ما هي الفلسفة.
يقول ألن سوكال وجان بريكمون: ان بداية هذا النص تنطوي على ملاحظة عميقة حول تفسير ميكانيك الكم، بيد ان النهاية التي تبدأ من "تترك الموضعين المتعلقين…" خالية من المعنى تماماً.
* باحث عراقي مقيم في لندن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.