الراجحي: رالي حائل نقطة انطلاقتي للمنصات العالمية    كندا تحذر: الرسوم الجمركية تدفع أمريكا لشراء النفط الفنزويلي    تقييم جديد لشاغلي الوظائف التعليمية بالمملكة من 5 درجات    مغادرة الطائرة السعودية ال 16 لإغاثة السوريين    رياح نشطة مثيرة للأتربة والغبار على تبوك والمدينة ومكة    الخليج يعزز هجومه بالنمساوي «مورغ»    «سلمان للإغاثة»: تدشين مشروع أمان لرعاية الأيتام في حلب    فانتازيا المسلم بين سحرية التراث ورفض النخبة    هل سمعت يوماً عن شاي الكمبوتشا؟    دهون خفيّة تهدد بالموت.. احذرها!    للبدء في سبتمبر.. روسيا تطلق لقاحاً مضاداً للسرطان يُصنع فردياً    رابطة العالم الإسلامي تعزي في ضحايا حادثة اصطدام الطائرتين في واشنطن    "الدهام" و"فيريرا" يكملان قائمة تحدي الخيالة الدولي بكأس السعودية 2025    القاتل الثرثار!    وفاة ناصر الصالح    العنزي يحصل على درجة الدكتوراة    هل تنجح قرارات ترمب الحالية رغم المعارضات    منتدى مستقبل العقار    اقتناص الفرص    «الأونروا» لا تزال تعمل في غزة والضفة الغربية رغم الحظر الإسرائيلي    الغامدي ينضم الى صفوف نيوم على سبيل الاعارة    دمبلينغ ينتصر على دا كريزي في "Power Slap" ويهيمن على الوزن الثقيل جداً    مدرب الفتح قوميز: القادسية فريق قوي وعلينا التركيز لتحقيق أداء مميز    في دوري روشن: القادسية.. أرقام مميزة في الدور الأول    قوة التأثير    قوة صناعية ومنصة عالمية    خاصرة عين زبيدة    حوكمة لوائح اختيار رؤساء الأندية    نيابة عن أمير قطر.. محمد آل ثاني يقدم العزاء في وفاة محمد بن فهد    التراث الذي يحكمنا    لماذا صعد اليمين المتطرف بكل العالم..!    السفراء وتعزيز علاقات الشعوب    «الروبوتات» والأرحام الاصطناعية.. بين الواقع والخطر!    إحباط تهريب 2.9 كجم "حشيش" و1945 قرصًا خاضعًا لتنظيم التداول الطبي في تبوك    مصحف «تبيان للصم» وسامي المغلوث يفوزان بجائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام    «الأونروا» تعلن نقل موظفيها خارج القدس المحتلة بسبب قرارات إسرائيل    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على الأميرة وطفاء بنت محمد آل عبدالرحمن آل سعود    شراكات جديدة بين هيئة العلا ومؤسسات إيطالية رائدة    تجمع القصيم الصحي يفوز بأربع جوائز في ملتقى نموذج الرعاية الصحية السعودي 2025    "مفوض الإفتاء بمنطقة حائل":يلقي عدة محاضرات ولقاءات لمنسوبي وزارة الدفاع    مستشفى خميس مشيط للولادة والأطفال يُنظّم مبادرة " تمكين المرض"    وزارة الشؤون الإسلامية تقيم يومًا مفتوحًا للمستضافين في برنامج ضيوف خادم الحرمين الشريفين للعمرة    "التقاضي الإلكتروني" يختصر عمر القضايا ويرفع كفاءة المحاكم    الديوان الملكي: وفاة الأميرة وطفاء بنت محمد آل عبدالرحمن آل سعود    المفتي للطلاب: احذروا الخوض في منصات التواصل وتسلحوا بالعلم    تعزيز العلاقات البرلمانية مع اليابان    مدن ومجتمعات صديقة للبيئة    في إجتماع "المؤتمر الدولي" .. وزير الموارد البشرية: المملكة تسعى لتصبح مركزا رئيسياً لاستشراف مستقبل أسواق العمل    عشر سنبلات خضر زاهيات    أهم الوجهات الاستكشافية    وسط حضور فنانين وإعلاميين .. الصيرفي يحتفل بزواج نجله عبدالعزيز    البهكلي والغامدي يزفان "مصعب" لعش الزوجية    مختبر تاريخنا الوطني    أمير حائل يناقش خطط القيادات الأمنية    حسام بن سعود يستعرض مشروعات المندق    «السياحة الثقافية».. عندما تصبح الفنون جواز السفر    خطورة الاستهانة بالقليل    الإرجاف فِكْر بغيض    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفلسفة الفرنسية المعاصرة : من المدرسة الاجتماعية الى تجديد الظاهراتية
نشر في الحياة يوم 09 - 06 - 1999

عرف الفكر المعاصر في فرنسا ابتداءً من بداية هذا القرن ازدهاراً مذهلاً للتيارات الفلسفية لم تشهد له مثيلاً في تاريخها. وإذ تقف الإنسانية على عتبة الألف الثالث للميلاد وقبل أن تبدأ بإبداع غدها يتهافت مثقفوها على اعادة النظر في انجازات هذا العصر على الصعيدين الفكري والفلسفي علّهم يجدون فيها منعطفاً ينفذ بهم الى المطلاّت الجديدة.
الفلسفة الفرنسية المعاصرة التي ظهرت بفعل المجابهة والمخاطبة والتأمل في الفلسفة الغربية الحديثة خصوصاً المثالية الألمانية المتمثلة بهيغل، حوت عناصر استمرار هذه الفلسفة مع جهدٍ واضح للتمايز عنها وتخطيها.
ويتفق مؤرخو الفلسفة على أن بداية القرن العشرين تشكل إسدالاً للستار على مرحلة تاريخية طويلة من نهج فكري وفلسفي انتظم تحت لواء العقل والذاتية. هذا التحول الجذري "في الحياة الفكرية أتى ليقابل تغيرات على الصعد العلمية والتقنية والإجتماعية كوّنت أزمات جديدة طرحت بثقلها على إنسان القرن العشرين. وساهم المذهب الفينومينولوجي الظاهراتي الى حدٍّ بعيد في قطع الجسور مع اتجاهات القرن التاسع عشر، وفي بناء الفلسفة الراهنة التي بدأت من قضايا مغايرة تماماً لتلك التي أدت الى ظهور الاتجاه الناشئ عن أزمة العلوم الطبيعية والرياضية. فولدت فلسفات شعرت أن من واجبها النهوض للدفاع عن حقوق الحياة والانسان والقيم الروحية الجديدة.
ففي الربع الأول من هذا القرن عرفت فرنسا نشاطاً فلسفياً مكثفاً كُشِفت من خِلاله أسماء عددٍ من المفكرين الكبار والطاقات المبدعة، ما مكننا من اعتبار هذه الحقبة من أخصب مراحل الحضارة الغربية الحديثة، إنتاجاً فلسفياً. فهي مرحلة انتقال من فكرٍ الى فكر ومرحلة عرض مفاهيم وتصورات جديدة ساهمت في صوغها المدرسة الاجتماعية الفرنسية مع اميل دوركهايم وليفي يبروهل والاتجاه التوماوي نسبة الى توما الاكويني مع كتابات جاك مارتيان. والتمع في هذه الأثناء نجم هنري برغسون الذي أثّر تأثيراً عظيماً في الفكر الأوروبي بعامة، وأصبح المدار الحقيقي لكل نقاشٍ فلسفي، جامعاً حوله عقولاً نيّرة كموريس بلونديل وليون برنشفيك. ويعتبر برغسون من أهم ممثلي فلسفة الحياة وأكثرهم جِدة وأصالة. وتعتبر فلسفته كذلك امتداداً للحركة الفلسفية الفرنسية ذات التوجه الروحاني الإرادي والشخصاني الذي افتتحه مين دو بيران وأصله فيليكس رافيسون ولاشلبيه واميل بوترو، أستاذ برغسون.
ففي رسالته في "المعطيات المباشرة للوعي" عرض برغسون نظريته في المعرفة. ثم في "المادة والذاكرة" نظريته في علم النفس، وميتافيزيقاه المؤسسة على البيولوجيا التأملية في كتابه "التصور الخلاّق". أما في كتابه الأخير "منبعا الأخلاق والدين" الذي صدر سنة 1933 عرض برغسون لنظريته في الأخلاق والفلسفة الدينية. ولاقت هذه العناوين جميعها نجاحاً منقطع النظير إذ أنها عرضت لفلسفة جديدة قابلت أعمق الاحتياجات الروحية للعصر في لغةٍ أدبيةٍ آخاذة ذات جمالٍ مبدع جعلته يستحق عن جدارة جائزة نوبل للآداب عام 1927.
هذا في الربع الأول من هذا القرن، أما في الخمسينات وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية فأصبحت الفلسفة الوجودية حديث الفرنسيين، على رغم أن كتاب جان - بول سارتر "الوجود والعدم" الذي أصدره سنة 1943 شديد الصعوبة إلا أنه لاقى نجاحاً واسعاً في أوساط الجماهير. فسارتر صنع لنفسه جمهوراً كبيراً بفضل ما كتبه من روايات ومسرحيات. ولكن هذه الشعبية نفسها ولّدت ألواناً من سوء الفهم والتأوىل إزاء الفلسفة الوجودية التي لاقت اهتماماً بالغاً من عددٍ من المفكرين الفرنسيين.
ويمكن أن نشير في هذا السياق الى سيمون دو بوفوار رفيقة سارتر وموريس ميرلو - بونتي وهو واحد من أهم عقول الفلسفة الفرنسية في منتصف القرن العشرين وعمانوئيل ليفيناس وبول ريكور في بدايات فكره. وأرادوا جميعهم صياغة فكرٍ فلسفي يتحرك على كل مستويات الحياة ويُجمع على أن الإنسان وعيٌ وإرادة وذات خالقة للمعنى ومبدعة للدلالات في زمنٍ كثُرت فيه التأويلات الناشئة عن الفردية.
وتجدر الإشارة الى أن هذه الفلسفات التي توسعت في تساؤلِها لتشمل مجالات الأدب والسياسة صدرت كلها عن قِراءات للفكر الألماني بعامة وللفلسفة الهيغيلية بخاصة كما نقلها الى فرنسا الكسندر كوجيف، وعن شروحات للفنومنولوجيا المتمثلة بهوسرل وهايدغر وهي ظاهرة في تأويلات جان بوفريه... وبرزت كذلك آثار الماركسية النقدية في فكر كورنيليوس كاستور ياديس وكلود لوفور ولعبت دوراً بارزاً في المرحلة اللاحقة.
ومن السِمات المشتركة لفلسفة الوجود، أولاً، التجربة الحية المعيشة التي تسمى تجربة وجودية، وهي تختلف من فيلسوف الى آخر. ففي حالة سارتر تأخذ هذه التجربة شكل الغثيان المقيت. من هنا ارتباطها بالطابع الشخصي. ثانياً أن الموضوع الرئيسي للبحث الفلسفي عند الوجوديين هو ما يسمى الوجود وهم يتصورونه على نحو فاعل دينامي، فلا يكون الوجود إنما يخلق نفسه بنفسه، يصير في الحرية. فالوجود غير مكتمل وهو يتماشى مع الزمن والإنسان في ماهية ذاتية خالصة منفتحة على الآخر والعالم.
كان سارتر أكثر الفلاسفة الوجوديين معرفة في فرنسا، فشهرته تعود الى رواياته ومسرحياته المكتوبة كتابةً بارعة وكذلك الى كتابه "الوجودية مذهب إنساني". ويبدو أن فلسفة سارتر مبنية على نحو منطقي صارم وهي تعبير عن يأس الإنسان الأوروبي بعامة والفرنسي بخاصة في فترة ما بعد الحرب. وهي تدور حول مشكلات لاهوتيه، لكنها تتخذ وجهة الحادية. ويتبدى لدارس هذا الفكر ان سارتر يسير على إثر هايدغر ولكنه ليس مجرد تابع لهذا الفيلسوف الألماني. وأعلن هايدغر نفسه وعن حق أنه غير مسؤول على أي نحو عن المذهب السارتري. ثم ان سارتر يقيم الخطوط الرئيسية لمذهبه مستوحياً المنهج الفينومنولوجي بحسب هوسرل ومذهبه ينطلق من تحليل للوجود ليطبق أهم المبادىء المستخرجة من ذلك التحليل على نظرية الإنسان. فيرى سارتر أن كل ما يوجد يوجد على ما هو عليه فعلاً. وان ما يمكن أن يقال عن الوجود هو أنه موجود في ذاته وهو عارض وغير قابل للتفسير إذ أنه يسبق الماهية.
ويميز سارتر في العالم الموجود "في - ذاته" والممتلىء الجامد وهو الموجود الإنساني الذي يتميز بثلاث انجذابات: الميل نحو العدم والآخر والوجود. أما الإنجذاب الأول فإنه الوعي والحرية والانجذاب الثاني فهو العلاقة مع الآخر. من هنا الحديث عن الإمكان والقيمة والإله. فليس في الأخلاق إلا ناموس واحد: "اختر نفسك بنفسك" وهو متبعّ دوماً لأن الإنسان محكوم عليه بالحرية. وتفترض فلسفة سارتر في النهاية سؤالاً يدور حول غاية الوجود الإنساني ومشروعه الأساس. يقول سارتر أن الموجود لأجل - ذاته لا ينهد إلا الى الوجود. فهو يتوق الى أن يصير موجوداً في - ذاته ولأجل - ذاته...
وإذا كانت الاستحالة شرط الوجود في الفكر السارتري، فإن غابرييل مارسيل وهو من أول الوجوديين الفرنسيين من حيث الزمان، يَقبِل بنوعٍ آخر من التعالي الرأسي. فقد انطلق هذا الفيلسوف من فكرةٍ تقول أنه لكي نجيب على التساؤلات الخاصة بوجود الإله، يجب علينا قبل كل شيء تحديد مفهوم الوجود ذاته. وأدت به دراساته الى اقامة فلسفية "عينية" ثم تحول الى الكاثوليكية وهو يعتبر اليوم في فرنسا أحد الممثلين الرئيسيين للوجودية المؤمنة.
ينتمي كل من الوجود الموضوعي والكينونة الإنسانية في رأي مارسيل الى جهات في الوجود مختلفة تمام الاختلاف. وما ينبهنا بوضوح الى هذا الاختلاف هو الجسد. ذلك أنه لا يمكنني أن أصف العلاقة بين جسدي وبيني على أساس أنها علاقة وجود أو تملّك: انني جسدي ولكني مع ذلك لا أستطيع أن أعتبر أنني وهو شيء واحد. وأدى تفكيره في هذه المسألة الى أن يميز بين المشكلة والسرّ. أما المشكلة فإنها تتعلق بشيء موجود بذاته خارجاً عني، وأستطيع أن أنظر اليه نظرة موضوعية كمشاهد خارجي بينما السرّ هو في "أن أكون أنا نفسي منخرطاً فيه"، ويرى غابرييل مارسيل من دون غلو في التحليل أن الأسرار وحدها هي التي تهم الفلسفة. لذلك وجب على الفلسفة أن تكون متعدية على الموضوعية وشخصية درامية تراجيدية.
في هذا التفجّر الفلسفي كله تتعرف فرنسا الى متعاطٍ في شؤون الفكر فريد ما زال يثير فضول الباحثين وشكلت كتاباته حدثاً بارزاً في هذا القرن. انه جورج باتاي "رجل المستحيل"، المشدود دوماً الى الأفكار الجديدة. فجورج باتاي يُعدّ بالتأكيد فيلسوفاً مهماً في تاريخ الفكر الفرنسي المعاصر، خصوصاً داخل ذلك التيار الذي استلهم طروحاته من أقطاب الميتافيزيقا. قرأ هيغل والمركيز دوساد ونيتشه وهو مُنظّر "الجزء الملعون" في الإنسان الذي ارتبط فكره بالأنتروبولوجيا والأنطولوجيا والسياسة والأدب. فثلاثيته "الخلاصة اللا - لاهوتية" تعبر عن منعطفٍ فكري جديد وامكان رؤية فلسفية مغايرة تابعها من بعده موريس بلانشو وبيار كلو سوفسكي.
يتضح من كتابات باتاي أن بوناً شاسعاً يفصله عن الوجوديين والسورياليين وارتبط اسمه بعدد من أقطاب التيارين.
لن نستفيض في الحديث عن فكر باتاي فغرضنا الكلام على أهم التيارات الفلسفية التي تركت بصماتها على القرن العشرين، لذا نتابع عرضنا بالإشارة الى الأطروحة الفلسفية الحديثة نسبياً وانسكبت علينا فكراً، بدأت تظهر معالمه خلال الستينات داخل التيار الفلسفي الماركسي المعاصر وتبلورت مع لويس ألتوسير، أحد منظريه البارزين ويُعدّ بحق من أقطاب الفكر الكِبار بالنسبة الى جيل 1968. اقترح التوسير قراءة جديدة لمؤلفات ماركس من أجل اكتشاف فكره الأصيل وتنقيته مما تسرب اليه من الفكر البورجوازي أو الفلسفة المثالية. وهو في هذا السياق يستلهم من دون شك من دعوة جاك لاكان للعودة الى فرويد.
ونعرف اليوم عن هذه المحاولة أنه، بقدر ما كانت جريئة وخصبة، بقدر ما أثارت نتائجها وخلاصاتها نقاشات حادة عند المهتمين بالفكر الماركسي، وفي أوساط ما كان يعرف في السبعينات بالفلاسفة الجدد، عنيت برنارد هنري ليفي وأندريه غلوكسان. واهتم ألتوسير في مؤلفاته بصياغة تفسير جديد للماركسية تركز على مجموعة من الأطروحات، لعل أهمها على الإطلاق مفهوم القطيعة الابستمولوجية الذي استعاره من فكر باشلار وهو يهدف الى تحديد الخط الفاصل في فكر ماركس، بين المرحلة العلمية التي ابتدأت بتأسيس المادية التاريخية والإشكالية الإيديولوجية في مرحلة الشباب.
إزاء هذا كله يستوقف الباحث في تاريخ الفكر الفرنسي المعاصر ظهور مجموعة مميزة وأصيلة من الدراسات في الإنسان، مثل الظواهر اللغوية والنفسية والاجتماعية والثقافية من وجهة نظر بنيوية، وتجسدت بامتياز في نتاج كلود ليفي - ستروس وعرفت باسم الأنتروبولوجيا البنيوية.
هذا الفرع المعرفي الجديد فرض نفسه على الحقل العلمي المعاصر وجذب اليه الأنظار بفضل طريقته القائمة على تطبيق المنهج اللساني البنيوي في دراسة ظواهر اجتماعية وثقافية. وتميز ليفي - ستروس بروح البحث العلمي الموضوعي مع التوق الواضح الى التأمل والتنظير على رغم تشديده على أن فكره يتمحور فقط حول تجديد مناهج العلوم الإنسانية. إلا أنه أثار نقاشاً عميقاً في موضوعات فلسفية كطبيعة العقل والسلوك العام للإنسان ومكانته في العالم وداخل المجتمع. فالأنتروبولوجيا البنيوية كما قدمها ليفي - ستروس والألسنية كما قال بها اميل بانفنيست Benveniste وبحوث جورج دوميزيل في علم الخرافات بالإضافة الى النظريات في التاريخ الحديث كما ظهرت في كتابات لوسيان فافر وفرناند بروديل وجورج دوبي وبيار فيدال - ناكيه، طرحت كلها اشكاليات أساسية استنطقت الفكر الفلسفي وتمخضت عن انتفاضة فكرية بلغت ذروتها في الفلسفات التي عاشت حال قطيعة مع الخطاب الفلسفي التقليدي القائم على العقل والذاتية وأعلنت اعتناقها منهج التفكيك والتقويض كما في كتابات جاك ديريدا ولانتعاش حركة تجديد فكر نيتشه مع جيل دولوز الذي حاول الخروج من البنيوية وأفقها الابيستمولوجي عبر البحث عن عنصر انطولوجي كياني يكون في أساس فلسفة إيجابية، تخرج من نطاق الجدل وتحافظ في الوقت عينه على الارتباط بالواقع.
"فالاختلاف والتكرار" و"منطق المعنى" و"الأوديب المضاد" تشكل عناوين مهمة لمسار الفكر الفلسفي في فرنسا في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وبالإمكان القول أن فكر ميشال فوكو احتل مركز الصدارة في هذه الحقبة، خصوصاً داخل ذلك التيار الذي أضحى يعرف بتيار فلسفة موت الإنسان.
كانت هذه الفلسفة، في ما يمكن اعتباره المرحلة الأولى للمشروع الفكري عند فوكو، وهو عبارة عن نقدٍ يتوجه الى مفهوم الإنسان ذاته من أجل استئصال جذوره في الثقافة وفي المعرفة ومن أجل إضفاء الطابع الظرفي على حدث ظهوره ونشأته وللإعلان في نهاية الأمر ان ساعة موته دنت.
ويعتبر كتاب فوكو "الكلمات والأشياء" من أشهر أدبيات الفكر البنيوي حيث نقرأ "إن الإنسان اختراع حديث العهد، صورة لا يتجاوز عمرها مئتي سنة" انه مجرد انعطاف في معرفتنا، وسيختفي عندما تتخذ المعرفة شكلاً آخر جديداً". وقد مرّ فكر فوكو في تحولات عدة، ابتداء من مؤلفاته الأولى "تاريخ الجنون" و"الكلمات والأشياء" و"أركيولوجيا المعرفة" الى "تاريخ الجنس" وهو آخر أعماله المنشورة. واهتم كثير من النقاد بهذا القسم من دراساته ورأوا فيه بداية مرحلة جديدة ومتميزة عن سابقاتها.
وتُعتبر نظرية التحليل النفسي كذلك مصدراً آخر تُحيل اليه فلسفة موت الإنسان الرائجة في فرنسا. فقد ساهمت هذه النظرية بالتأكيد في زعزعة المفهوم التقليدي السائد عن الإنسان، فتسارع الاهتمام بها وظهرت محاولات عدة لاستثمارها في تأسيس خطاب فلسفي جديد يشكل ثورة مضادة وقطيعة كبرى مع التراث الفكري التقليدي.
ونذكر ان القراءة الجديدة للنصوص الفرويدية التي أنجزت على ضوء المنهج اللساني البنيوي من قِبل جاك لاكان أكدّت ان المركز الحقيقي للكائن البشري لم يعد تماماً في المجال الذي كان يعيّنه له التقليد الفلسفي، بل أنه يتعين في القوانين اللاشعورية التي تنظم لعبة تعاقب الخطابات والأقنعة الزائفة التي تؤول اليها حياة الإنسان النفسية.
يبقى أن نشير الى أهمية كتابات رولان بارت في الخطاب العاطفي، حيث الخلاص من خلال الإيروسية بلغ حدوده القصوى في مجتمع يعيد البحث بالجنس وبالمشاعر الإنسانية. ونشير كذلك الى كتابات جوليا كريستيلفا وغي دوبور ومعالجته للمجتمع المشهدي وريمون آرون التي تمحورت حول الأدب والسياسة في مخاطبتها الفعل الفلسفي.
أما في ما يتعلق بالمدرسة الابيستمولوجية الفرنسية وفلسفة العلوم فإن أعمال غاستون باشلار والكسندر كويري وجورج كانغيلهم تستحق الإجلال والتقدير. فقد بحث باشلار في تكوين الروح العلمية وفي المخيال الانساني شاقاً الحُجب الكثيرة التي تعترض العلوم الحديثة... وتنامت كذلك فلسفة الدين مع الدراسات الإسلامية الاستشراقية، كما ظهرت في أعمال لويس ماسينيون وهنري كوربان وكريستيان جامبيه أو حوار عمانوئيل ليفيناس مع التراث اليهودي وإعادة الاعتبار للفكر المسيحي ولآباء الكنيسة مع الفيلسوف الكاثوليكي ميشال هنري، قارىء الماركسية والمنضوي تحت لواء الفينومينولوجيا في تجددٍ ظاهر. هذا التجديد يظهر أيضاً في الاتجاه الظواهري كما نقرأه في كتابات جان - لوك ماريون وفي الفكر الاستيطيقي الراهن الذي ما زال ينمو بازدهار واضح.
الى جانب هذه التجارب الفلسفية المميزة، تجدر الإشارة الى ظهور أسماء عدة تسهم على طريقتها في اغناء الفكر الفلسفي الفرنسي كميشال سير ودومينيك لوكور ولوك فيري وآلان فينيكلكروت وآلان باديو وأندريه كونت - سبونفيل... وان تضاربت الآراء في شأن القيمة الفعلية لكتاباتهم على صعيد الإبداع وممارسة التفكير الفلسفي.
هذه الكتابات الفلسفية جميعها تلعب دوراً أساسياً في تجديد الفضاء الثقافي عبر الإفصاح عن رؤى الحق وتعابيره المختلفة في وجهات نظر تطرح بثقلها على الإنسان المعاصر.
يبقى أن نشير الى أن الفلسفة في انعطافها نحو الألفية الثالثة، وان خرجت من دائرتها الأكاديمية لتدخل باب المقاهي الفرنسية، ما زالت تواجه التحدي الأعظم وهي مدعوة الى المساهمة في تقدم الإنسانية من خلال التزامها القضايا الأهم. عنيت قضايا الإنسان والعصر والعالم.
* أستاذة جامعية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.