في هذه الحلقة الثالثة والأخيرة يعترف محمود درويش بأنّه "أقل الناس قراءة للشعر"، لذا ينصح الشعراء ب "أن يخفّفوا من قراءة الشعر". ويتساءل: "هل الوطن جميل أم مخيف ام مطمئن؟" معتبراً أن الفلسطينيين لم يقولوا تجربتهم التراجيدية، وبوسعهم الآن أن يفعلوا أفضل مما مضى. فالمعركة هدأت والمعسكرات في امتحان آخر، يستطيع الشعر أثناءه أن يصغي اكثر إلى نفسه وادواته، وأن يراجع خطابه. ويكشف الشاعر بعض طقوسه لدخول الحالة الشعرية بحثاً عن جسد القصيدة وقوامها، كما يتناول تقنيات الكتابة التي يعتبرها "عملية احباط وخوف دائم". بالنسبة إلى الشعر الفلسطيني اليوم. هل يستوحي مقاربات جديدة من "موت العالم" الذي أشرت إليه في الحلقة السابقة؟ - بدأ الشعر الفلسطيني يدرك، منذ عقد وأكثر، أن عليه ان يؤنسن موضوعه، أي أن ينتقل من الموضوع إلى الذات. وثمة بوادر كثيرة وشعراء كثر وصلوا بالتجربة الشخصية والتاريخية إلى التثبت من صدقية الخيار الذاتي، لا بمعنى الانغلاق على النفس والتعامي عن الواقع، بل بمعنى الوقوف في نقطة الالتقاء بين الداخل والخارج. فطموح أي شاعر ان يجتاز العتبة بين داخله وخارجه، لم نكن بحاجة الى كل هذه الهزائم لنفهم ما هو الشعر. الشعر الآن يحتكم إلى معايير مستقلة عن الاعتبارات الخارجية، ويستند إلى معاييره وشعريته نفسها. وكان على الشعراء أن يتنسموا ذلك حتى في زمن انتصار الخطاب، حين كان الكل ينعم مطمئناً راضياً في ظل سيادة الخطاب. الخطابة أو الخطاب؟ - الخطاب. الحياة تعلمنا والواقع يعلمنا والهزيمة في ما يبدو تعلمنا، أكثر من الانتصار الوهمي. صوت الجماعة الزاحفة نحو أي شيء يضيّع خصوصيات الأفراد. ولا بد الآن من أن يبرز صوت الذات الفردية الفلسطينية المليئة بتجارب انكسارات وازدواجية وانفصامات داخلية، يمكنها ان تشكل مادة غنية جداً للشعر، اذا توافر وقت للتأمل الشعري. وهذا وارد اليوم اكثر من السابق. اعني ان اللهاث خفّ في لغتنا الشعرية. الآن يمسك الفلسطيني بحلمه ليرى إلى أي حد يصح، إلى أي حد يشبه اصله، إلى أي حد تشبه صورة الحلم أصلها. هذه مادة شعرية بلا شك. هل الوطن جميل أم مخيف ام مطمئن؟ لم يقل الفلسطينيون تجربتهم التراجيدية وبوسعهم الآن أن يقولوها افضل مما فعلوا من قبل. لأن المعركة هدأت والمعسكرات، معسكرات الجيوش والجيوش المضادة، في امتحان آخر، يستطيع الشعر اثناءه ان يصغي اكثر إلى نفسه وادواته، وأن يراجع أدواته وخطابه. أنا أؤبن الكثير من قصائدي التي لم تكن لها شرعية جمالية سوى اتكائها على الموضوع. يخامرني احساس بأن الشاعر الفلسطيني سيرجع إلى نفسه، والتراجيديا الفلسطينية ستجد تعبيرها الارقى. بالمشهد نفسه الذي كان في الخارج وعاد الآن؟ - واقعنا محمول، واقعنا لا يستقر في مكان محدد. أعني ان واقع الحالة الفلسطينية محمول على الاكتاف او في اللغة أو في الاحساس أو الوعي. فنحن جميعاً داخل المشهد وخارجه. لدينا الآن فرصة لنطل على أنفسنا ولندقّق في صورتنا عن انفسنا. هذه الاطلالة فرصة أخرى لتأمل الاعماق. أعني أن علينا أن نتأمل في صورتنا عن الماضي والحاضر. كيف كنا قبل 40 عاماً؟ كيف كنا في بيروت وفي تونس وفي البحر؟ كيف كنا في المخيلة الشعرية وكيف كنا في اللغة العربية؟ هناك الكثير من التجارب المطلوب تعميقها أو مراجعتها. كيف كنا في الشعر العربي؟ - كيف كنا في الشعر العربي. كيف كنا، إلى أي حد كنا عرباً، وما هي صورة عروبتنا الخاصة؟... صورة الآخر عنا؟ - نعم، والعلاقة بل الارتطام بالآخر الذي كوّنا عنه صورة نمطية. هل سيفضي هذا إلى اختراق، كما قلت في جلسة سابقة، واعتذار عن سوء فهم، أم انه سيشكل نوعاً آخر من الوعي بالصراع؟ وماذا عن فكرتنا عن الهوية: هل سيتسع البعد العربي فيها أم سيضيق؟ وبين الهوية الوطنية والهوية الجمالية، هل سنجد أفقاً ثانياً أم انغلاقاً وطنياً اضافياً؟ هذه مرحلة تجريبية مفتوحة تماماً. وأياً كان الامر، فثمة شيء أساسي: ستطبق على شعرنا معايير الشعر. لن تحمينا... أية رافعة... - نعم، لن تحمينا أية رافعة. ولا الشهداء، أياً كان عددهم، سيتمكنون من أن يحملوا عنا عبء قصيدة مكسورة. قلت في الجلسة الماضية انك تستعد، او تعد نفسك، لعمل ملحمي. ما معنى أنك تعد نفسك؟ - أنا من الذين يدققون في مصادرهم التاريخية عندما أكتب قصيدة في التاريخ. عندما كتبت "أحد عشر كوكباً"، وهي قصيدة غير طويلة، قرأت قرابة 50 كتاباً عن الاندلس. ولما كتبت "الهندي الأحمر" قرأت حوالي 20 كتاباً عن تاريخ الهنود الحمر وأدبهم، وقرأت نصوصهم الادبية وخطبهم. أقوم بهذه الدراسة لأن المعلومات ضرورية للشعر. هذا كلام لا يجد قبولاً، لكن المعلومات فعلاً ضرورية للشعر. لا بد من معرفة نوع الملابس وأسماء الامكنة وانواع النباتات، كما تفعل حين تعد فيلماً عن حقبة تاريخية. لا بد لك عندئذ من ان تدرس اشكال الحياة والبيئة والادوات وانواع السلاح والعربات في تلك الحقبة. واذا خطر لي ان استوحي تاريخ المغول في بلادنا فلا بد لي من أن أطّلع اطلاعاً وافياً على الحقبة التاريخية تلك. قلما اقرأ الشعر هل قراءة الشعر جزء من هذا الاعداد؟ - لا. أنا بالمناسبة أقل الناس قراءة للشعر. اذا اكثرت من قراءة الشعر سرعان ما أصاب بتخمة ونفور من الشعور عموماً. إذا جاز لي ان انصح الشعراء، فأنا أوصيهم بأن يخففوا من قراءة الشعر. خير لهم أن يقرأوا أشياء أخرى. فثمة خطر من أن يشبه شعرهم ما يقرأونه، ولا يستطيع شيء أن يحمينا من هذا الاغراء، من التقليد اللاواعي. ما دمنا في حديث القراءة، ماذا تقرأ عادة؟ ماذا تحب أن تقرأ؟ - أنا أقرأ كثيراً في التاريخ. أقرأ فكراً وأقرأ في السياسة وأقرأ روايات. تكلمت عن دراسة تسبق القصيدة، عن تمهيد وتأثيث كامل لكل فضاء القصيدة، فضاء العمل قبل ان يكون قصيدة، ديكوراته ومكانه وتفاصيله. كيف يمكن القصيدة مع هذا ان تكون قدحاً في المجهول او لحظة من اللاوعي أو إلهاماً؟ - هذا سؤال مشروع. لكنني أتكلم عما قبل الكتابة. إذا أحضرت مراجعي وقرأتها، فهذا لا يعني ان القصيدة بدأت تكتب نفسها. هناك مرحلة أخرى قبل أن تنطلق شرارتها. أنا أضع نفسي من البدء في اطار تصور نظري وهيكلي للمشروع الشعري. لكننا إلى الآن لم نصل الى الشعر. لم نصل إلى عملية الكتابة. فهذه ذات شروط اخرى تنطبق على هذا العمل كما تنطبق على سواه، سواء كان اغنية او قطعة او قصيدة طويلة. أنا أتكلم عن تقميش معرفي ونظري ومرجعي للعمل قبل كتابته. فقد يتطلب هذا جهد سنين، سنتين او ثلاث من الاعداد والمراجع، ثم لا يسفر الجهد عن شيء في الزمن المباشر، ولا نكتب القصيدة الاّ بعد عشر سنين مثلاً. أنا أحتاج، بأيّة حال، الى الاطلاع على بيئة القصيدة التي أنوي كتابتها وزمنها. من أين تبدأ القصيدة؟ من فكرة، من كلمة، من جرس؟ - القصيدة لا بد لها ان تكون حاملاً لمحيط فكرة، لا لفكرة، لمجال حالة او لمنطقة شعور. لكن هذا كله يحتاج إلى محول داخلي. يعرف كل شاعر كيف تتفتح اللحظة الشعرية عنده. وأنا أيضاً لي عادات ألفتها مع الزمن، قد يكون منطلق القصيدة فكرة أو حالة او حدثاً، قد يكون سؤالاً ميتافيزيقياً، وقد يكون حدثاً في الشارع. فالقصيدة أشبه بغيوم لها أشكال يجب ان تتحول إلى صور، والصور تتكون عندما تجد ايقاعها. انا أبدأ دائماً من ايقاع، عندما تجد الفكرة أو الصورة او الحادثة ايقاعها، هكذا أشعر بأن في وسعي أن أعمل. عندما تجد ايقاعها تجد جملتها، اذا جاز التعبير؟ - لا، ايقاعها الموسيقي. الايقاع الموسيقي يحتاج أيضاً إلى جهد، ذلك انني أتلبّس حالة يغدو فيها ممكناً تصور القصيدة بشكلها البصري. هكذا أرى جسدها، قوامها. هذا القوام يحتاج إلى نغمة، والنغمة تحدث تعديلاً على القوام. اذا كانت النغمة خفيفة فلا بد من ان يكون القوام خفيفاً، وأن يناسب جسد القصيدة نغمتها. ثمة تفاعل وتأثير متبادلان داخل بنية القصيدة. ولكن لا شيء يحصل قبل ان تبدأ الرنة. لا بد من انفعال أيضاً... - لا بد طبعاً من انفعال لتتحول الفكرة إلى صورة. أيهما أسبق الفكرة أم الانفعال؟ - لا بد من ان تبدأ القصيدة من ايقاع. ولكن بالنسبة إلى أسبقية الفكرة على الانفعال، أو العكس، لا أظنّ أنّ هناك قاعدة ثابتة. يسبق الانفعال مرة، وتسبق الفكرة مرة، لكن الفكرة ينبغي أن تنفعل. نعم، ينبغي أن تنفعل الفكرة أيضاً. لكن الفكرة في القصيدة أمر غامض. الفكرة موجودة في الايقاع على نحو ما، موجودة في الصوت نفسه بطريقة غامضة. - هذه العناصر متداخلة. لا يحدد الشكل وزن القصيدة، ولا الوزن يحدد الموضوع. هذه جميعها تتبادل التأثير، ولا بد من تفاعل ما، ليتخذ كل منها شكله وصورته. إنّها عملية مركبة. الفكرة هي ايضاً ايقاع وصور؟ - مهما تكلمنا فلكل شاعر تجربته. لو قُيّض للشعراء جميعاً أن يقدّموا شهاداتهم عن لحظة الكتابة، لاختلفت هذه الشهادات في ما بينها اختلافاً مدهشاً. فولادة القصيدة تبقى عصية على أي ناقد، أو على أيّة معرفة. عادات الكتابة لنتكلم على عاداتك الكتابية. على أي ورق تكتب؟ بأي قلم؟ في أي وقت؟ - لي عاداتي، عادات تكاد تكون طقوساً. أنا، لسبب أو لآخر، أتوجس من الليل، أعني انني أتجنب العمل في الليل. لا أعرف لماذا أخشى أن يمر الوقت على غير طائل. لذا أفضل الكتابة صباحاً. فور يقظتك؟ - بين لحظة استيقاظي، وقدرتي على أن أنبس صباح الخير، تمرّ ساعة ونصف ساعة. صباحي كئيب. بطيء؟ - صباحي بطيء جداً. لكني أكتب كل يوم. إذا كان عندي مشروع للعمل، أنجزه يوماً بيوم. عوّدت نفسي على انضباط صارم. أُمضي ساعات عدّة، من العاشرة صباحاً إلى الثانية بعد الظهر أحياناً، في انتظار هذا الشيء الغامض الذي نسميه وحياً. وقد يأتي الوحي وأنا لست هناك، أو أمضي ثلاث وأربع ساعات فلا يأتي. لكنها عادات التزمها. أكتب بحبر سائل. والورق؟ - اكتب على ورق غير مسطر. ورق أبيض منفصل. حجم الورقة؟ - هو الحجم العادي. ملمسه؟ - سميك قليلاً والحبر سائل حتماً. لون الحبر؟ - الحبر اسود. ليست لديّ مقتنيات بشكل عام، لا أقتني في حياتي سوى الاقلام. عندي مجموعة كبيرة من أقلام الحبر. وأنا أتطيّر من بعض الاقلام. أحس أحياناً بأن قلماً معيّناً لا يمكنه أن يكتب الشعر. وإذا شطبت على الورقة؟ - أعيد النسخ. الكثير من أصحابي النقاد يرغبون في الحصول على مسوداتي، وأقول لهم ألا يتعبوا لأنني لا أترك مسودات. أعيد النسخ دائماً ولا أترك مسودة. هل تسمع موسيقى أثناء الكتابة؟ - أسمع موسيقى وأسرق منها. أسرق معاني الموسيقى. عندي قصائد كثيرة عنها: الكمنجات مثلاً او الغيتارات. أسمع موسيقى خالصة بلا غناء، وأروح أركب لها كلاماً معيناً. أي اعطيها دلالات والفاظاً. أنا أسرق من الموسيقى. تكتب وتسمع موسيقى في الوقت نفسه؟ - نعم. تكتب في غرفة مقفلة أم أن اختيار المكان لا يهمّ؟ - أفضل غرفة مقفلة وضيقة. بشباك مفتوح ومطل؟ - مفتوح، وأفضلّ أن يطلّ على شجرة. هل تتوقف عند نهاية مقطع وتستأنف الكتابة في اليوم التالي من حيث انتهيت؟ - أحياناً أعمل في نص وأصل إلى شيء، ثم يغيم رأسي فأترك الكتابة. لكنني أصحو من النوم باكراً، كأن نداء غامضاً نبهني، فأقوم وأجد نفسي حتى قبل أن أشرب قهوتي أو أثناء شربها، أصل الايقاع الذي انقطع. عندها أحس بسعادة غير عادية وأعرف أن لديّ عملاً اليوم، لدي ما أنجزه. أحياناً أستيقظ فلا أستطيع شيئاً. عندئذ أحس بنكد كامل وإحباط. الكتابة الشعرية كما تعلم وأنت شاعر، عملية احباط وخوف دائم. لكنك تكتب شيئاً في بعض الأحيان، فتجد نفسك تقول "الله" مطروباً، كأنه ليس لك. كأن غيرك كتبه. هذا الشعر الاجمل؟ - هذا حكمي أيضاً على نصي. أكتبه وأخبئه في الدرج شهوراً ثم أعود اليه، فإذا وجدت فيه ما يشبهني أعتبر أنني لم أعمل شيئاً. أما إذا أحسست بأن شخصاً آخر كتبه بالنيابة عني، إذا قرأته كأنه شعر آخر، أحس بأني عملت شيئاً. أحياناً أطرب لمقطع كتبته فأقوم وأتمشّى في البيت وأنا أردده مغموراً برضى كامل عن النفس. أهنىء نفسي: "برافو عليك" وأكافئها بمطعم جيد، أو أدعو أصدقاء إلى العشاء وأقيم احتفالاً. فهذه لحظات نادرة، نادرة. المرحلة البيروتية تكلمت على السنين العشر الاخيرة. هل تحسّ بأن شاعريتك كانت في أفضل حالاتها خلال العقد الأخير؟ - لو شئت أن أجمع مختارات من شعري، او أن اكون ناقد شعري، لاعتبرت انني اقتربت من الشعر أكثر بعد خروجي من بيروت. وأنا، بخلاف ما هو رائج، أعتبر أن المرحلة البيروتية في شعري ملتبسة، بسبب ضغط الحرب الاهلية أولاً، وبسبب الشعور بألم، بعاطفة، ولا أقول بواجب فحسب، أن ترثي أصدقاء يموتون بين يديك. ليس الواجب الوطني هو الذي يدعوك إلى ذلك، لكن الانفعال أيضاً وأنت دائماً منفعل، في درجة خطرة من العاطفة. ليس أخطر على الشعر من هبوط العاطفة او ارتفاعها. الكتابة الشعرية تتطلب درجة حرارة لا تتجاوز العشرين. البرد والغليان يقتلان الشعر، وبيروت كانت في درجة الغليان، غليان المشاعر والرؤية. كانت محل حيرة. ألا تترجم "المحاولة رقم 7" هذه الحيرة؟ - كانت حيرة. حيرة في الخيار الشعري. فذلك هو المنعطف، العتبة بين شعري القديم والجديد. المرحلة الوسطى التي تمت فيها عملية الخيار. اعتبر ان أحسن مرحلة في شعري هي فترة السنوات ال 12 الاخيرة. بين مجموعاتك تبدو "تلك صورتها وهذا انتحار العاشق" عملاً بالغ الاهمية على المستوى الفني والجمالي والبنائي، لم يحظَ بلفتة نقدية كافية. وأنت لم تستأنف المشروع الذي بدأته مع تلك التجربة. - حياتنا في بيروت حالت دون تطور هذا المشروع الشعري. هذه بالفعل من أهم قصائدي وكان يمكنها ان تشكل خياراً جمالياً، لكن انفجار الحرب الاهلية أدّى إلى التمزق. تمزّق الوعي؟ - لا ليس الوعي. بقي الوعي متماسكاً. تمزق او تشظي حياتنا. ذلك منعني من الانتباه إلى أن هذا المشروع مفتوح على مسار آخر. لم يلتفت النقد إلى هذا العمل، لأن النقد في بيروت لا ينتبه إلى شيء. لا ينتبه إلى شيء أبداً. بيروت ناد ثقافي ممتاز. ناد شعري عربي مفتوح. لكن وجود ناد لا يعني وجود نوعية. وأنا أعتقد بأن بيروت لم تنتبه إلى أحد، لا إليّ ولا إلى غيري. بيروت لم تنتبه إلى نفسها. أنت أيضاً لم تنتبه! - أظن أنني اول من سمى بيروت في الشعر، قبل اللبنانيين. لم يكتب أحد عن بيروت قصيدة، كأنها موضوع مستعص على الكتابة. كانت لديّ وقاحة الكتابة عن بيروت قبل شعرائها. كنت دائماً وقحاً في كتابتي عن المدن. عندما كتبت عن القاهرة والنيل حذرني أمل دنقل، قال: "لا تكتب من دون كلفة عن موضوعات كهذه. كيف تقول إن النيل ينسى؟ ما من مصري يحتمل أن يوصف النيل هكذا، أن ينسب إليه النسيان". حين أعيش في مدينة أجد من حقي أن أكتب عنها من دون كلفة، ومن دون مراعاة شروط الضيافة. وأحسّ بأن مراعاة شروط الضيافة ليست أمراً ضرورياً، وليس الاعتذار ضرورياً أيضاً. ولكن حين سقطنا في حبكة اقليميات وعصبيات وصراعات مجنونة، صرت أعتذر عما كتبته عن بيروت أو القاهرة أو الشام. يقول كل أهل بيروت بأي حق تكتب عنها. ذلك تبادل حماقات اذا كتبت عن باريس، لا يسألك فرنسي عما كتبت. واذا شتمت نيويورك لا يغضب منك أي أميركي. شعراء كثر، بينهم لوركا، شتموا نيويورك ولم يغضب أحد. حتى الشعراء الاميركان. غيسنبرغ مثلاً شتم نيويورك. - لوركا كتب ديواناً كاملاً ضد نيويورك وضد نفسه، فهذا الديوان بالمناسبة ضد لوركا، فهو من رديئه. لو جاز اسقاط شيء من مجموعته الكاملة لاستحق اسقاطه. أعود إلى "تلك صورتها وهذا انتحار العاشق" لاقول ان ثمة شروطاً موضوعية لم تفسح لهذا المشروع أن يتطور. لكنك لم تجدد لاحقاً هذا الاختيار؟ - ليست هذه الفرصة الوحيدة التي ضاعت. كان في وسعي أن أوفر على نفسي "واجبات" كثيرة، ربما كنت في غنى عنها. لكن ذلك الوضع كانت له ايجابياته على رغم كل شيء. هذه "الواجبات" أبقت بيني وبين القارىء ثقة متصلة، لذا قَبِل تمردي على صيغي وقبل تجريبي الجديد، لأنني سلفته كما سلّفني. سدّدت ديوني إلى القرّاء تماماً، ذلك سهّل كثيراً عليّ. عندما تناولنا "لماذا تركت الحصان وحيداً" تحدّثت عن سيرة فردية، أليس هذا الكتاب سيرة شعرية أيضاً؟ - نعم. ذلك تقويم جديد للعمل، هو فعلاً سيرة شعرية. وهذا لم يفهمه بعضهم لذا أدرجت في المجموعة قصيدة ك "شهادة برتولت بريخت" المكتوبة بلغة الستينات، ومن هنا تقفية القصيدة عن أبي فراس الحمداني، وكذلك "تدريبات على قيثارة اسبانية" التي تسجل لحظة تعرفي الى غارسيا لوركا وسيرتي مع شعر لوركا. تجد إذاً هذا المستوى من السيرة الشعرية الذي يرافق السيرة الذاتية، لقد عدت إلى ماضي ذاتي، ماضيّ في الكتابة، ذاتي الشعرية. هناك ألفاظ تتردد كثيراً في قصائدك، كلفظة "اسم" مثلاً. هل تجد سبباً لهذه العودة الدائمة إليها؟ - بدأت انسانية الانسان منذ تعلم الاسماء، فهذه احالة على أول المعرفة وأول اكتشاف الانسان لذاته على المستوى الانساني العام. أما على مستوى السيرة الشخصية أو الجماعية فثمة اسم بلادي، اسم المكان، اسم تاريخ هذا المكان وثقافته. أسماء أحس بأنني مطالب بالدفاع عنها. هذا إذاً يتعلق بالمعرفة الانسانية كما يتعلق بدفاعاتي عن هويتي الثقافية والوجودية. في قصائد الديوان نقرأ: "سنختار سوفوكل قبل امرىء القيس"، هذه عبارة لها معنى ويثيرنا معناها. ما المقصود بها؟ - القصيدة التي اقتطفت منها هذه العبارة تتحرك اولاً في اجواء كنعانية. ثم تنتقل إلى اختلاط الذات بالآخر على هذه الارض. وتسعى بتسامح وكرم إلى اجراء موازنة في علاقة الأنا بالآخر، وتوسيع الهوية الثقافية، حتى الشعرية منها، إلى ما هو أبعد من الذات العربية. سوفوكل كما هو معروف سبق امرأ القيس. وأنا من الذين تشغفهم فكرة ان يكون الشعر الانساني نشيداً واحداً يتقلب على كتابته شعراء كثيرون. سوفوكل كما تعلم أجرى تعديلاً على التراجيديا الاغريقية، خفف فيه من صرامة تدخل الآلهة في المصير الانساني. الشعر واحد بلا هوية وبلا لغة سوى الشعر، ولا مانع عندي بالتالي من اختيار سوفوكل على امرىء القيس. لا أقصد بذلك محاكمة امرىء القيس، لانه اختار قيصر وهذا موجود في نصوص اخرى. لكنني في النسب الشعري لا أجد مانعاً من أن أكون من سلالة سوفوكل. فهمت غير ذلك. وجدت رابطاً بين امرىء القيس والوقوف على الاطلال، وصلة بين سوفوكل والتراجيديا. فالاول في مرحلة الغناء مرحلة النوستالجيا وتتبع الاثر، والثاني في مرحلة الامتثال للمصير التراجيدي. وتفضيل سوفوكل تفضيل هذا الامتثال. - أتمنّى أن أكون قصدت ذلك. قد أكون قصدته في لاوعيي. تعرف اننا لا نفهم كل ما يتسرب منا. لكني اقبل هذا التفسير، لو كنت عرفته من قبل لتبنيته. من هو الجمهور؟ أنت شاعر ذو جماهيرية واسعة، وهي لا ترهقك كثيراً ولا تجرك إلى مساومات قاتلة. ألست تشعر مع ذلك بقلق من هذه الجماهيرية؟ ألا يبدو معبراً أن بعض أشهر قصائدك، ك "عابرون في كلام عابر" مثلاً، لا تعتبرها أنت شعراً؟ ألست تخاف من شيء كالذي جرى في أمسية جرش التي حضرتها أخيراً، عندما وجدنا مصفقين كثراً لشاعر كجمال بخيت؟ - أزمتي في وقت مطالبة بعض قرائي وبعض جماهير شعري، بأن أثبت في مكاني، في نصي الذي وجدوا فيه تعبيراً عنهم. عندما خرجت من هذا النص كان هناك خطر بأن أفقد قرائي، لكنني اخترت ما رأيته صالحاً لشعري ومناسباً لاعتباراتي الفنية وكان خياري صائباً، بل عكس احتراماً لقرائي، اذ ليس من حقنا ان نتكلم بخفة عن الجمهور. الجمهور حقاً من شرائح ومستويات ثقافية واجتماعية مختلفة، لكنه عندما يذهب إلى أمسية، عندما يمسك القارئ كتاباً، او يقرأ نصاً، فهو يعرف ماذا يفعل والى أين يذهب. تطور النص الشعري هو في الوقت ذاته تطوير للذائقة الشعرية. فلنعترف بتواضع أن للشعر جمهوراً ذا حساسية وذائقة ومعرفة قد لا نملكها نحن، بأي حق نضع أنفسنا أعلى من الجمهور! ومن هو الجمهور؟ هو نحن وغيرنا. ثمة ما نسميه جماهيرية، وأنا أجد حيث اذهب كتلة بشرية تأتي لسماعي، وبيننا إلفة وعادات وتوقعات متبادلة. أنت حضرتَ أمسيتي في عمان، ولم تلاحظ مشكلة لا في الاصغاء ولا التوقع ولا الاستجابة. كل ذلك تم بلا خلل. تجاوزت خطر القطيعة مع الجمهور، تجاوزته من دون أضرار فادحة. بالعكس أنا أجد في هذه الاستجابة تشجيعاً لي كي أذهب في مغامرتي إلى أبعد حدود. هناك مصداقية وطنية ومصداقية أخلاقية ومصداقية شعرية. ذلك لا يساعدني شخصياً فحسب لكنه يخدم الحقبة الشعرية التي أعاصرها، أي إنه يعني الشعراء الآخرين. أنا لا أكتسح من كاسحات الجليد لسفينتي وحدها بل لسفينة الشعر العربي الحديث كله. أطلب من الشعراء الذين يشتمون الجمهور أن يعرفوا أن هذا الجمهور سيساعدهم على نحو ما على مواصلة مغامرتهم. أعتقد بأنني تجاوزت هذا الخطر. وفي تجربتي الطويلة مررت ببدايات عدّة. ديواني الاوّل "أوراق الزيتون" وجد قبولاً لدى صدوره، لكنني عندما كتبت "عاشق من فلسطين" طالبني النقد الماركسي الرسمي بالعودة إلى ماضيّ. أي ماض ولم يكن لي سوى كتاب واحد! عند كل ديوان جديد أجد نقاداً يطالبونني بالعودة إلى ديوان مضى. انتقلت في ديواني الثاني من الريف إلى المدينة، فقيل لي ارجع إلى الفلاحة. انا اتعرض من زمان لهذا التأنيب، لكن الشعر انتصر مع ذلك في تجربتي التي عمرها ثلاثون سنة، ولم أفقد حب الناس واحترامهم. ما من حدود لتطور ذائقة الناس الشعرية، والمسؤول عن هبوطها هم الشعراء. حين نتكلم عن فساد في الذائقة الشعرية العامة فالمسؤول هو النص الشعري. مستوى الوعي الشعري لا يكوّنه سوى الشعراء أنفسهم. ألا يمكننا أن نلقي جزءاً من المسؤولية على المناهج المدرسية وسائر التقاليد الجماعية؟ - هذه لا تقرأها الناس ولا تعتد بها. في رأيي ان الذي يحيي الشعر هم الشعراء، والشعراء هم من يقتلونه. والعلاقة بين الشعر والجمهور من صنع الشعراء وفي عهدتهم. حين يقال إن الشاعر ليس جريدة يومية، وليس معلماً ولا ملقناً، فالجواب ان جمهور الشعر في كل الاحوال نخبوي وقراؤه نخبة. لا يستطيع الشعر أن ينافس الغناء، أو أن يتحوّل إلى الخبز اليومي للناس. هذا حلم مشروع، لكنه مجرّد وهم حتّى اثبات العكس.