في السنوات الأخيرة نشر عدد من الشعراء اللبنانيين أو العرب المقيمين في بيروت مجموعاتهم الشعرية الأولى والثانية، وأُطلق عليهم لقب"الشعراء الشباب"، وهو لقب لا ينفك يطلق على أصحاب المجموعات الشعرية الأولى في كل زمان. هؤلاء حاولوا اختراق حواجز من خلال النشر. أولاً، حاجز أقرانهم من كتّاب الرواية التي ازدهرت في شكل ملحوظ على المستوى الشبابي في بيروت. ثانياً حاجز الفايسبوك الذي فرّخ شعراء فايسبوكيين وابتلع شعراء ورق سابقين، واخترقوا أيضاً حاجز الذائقة الفنية في مجال لم يعد يتسع كثيراً للشعر، وتحديداً الجديد منه. فالشعر بات في خلفية المشهد الثقافي مع بروز الفنون البصرية وعروض التجهيز. أما الحاجز الأخير الذي كان لا بد من القفز فوقه فهو الموروث الشعري الكبير المتراكم في بيروت. طرحنا عدداً من الأسئلة في هذه المجالات كافة على عدد من الشعراء، أصحاب المجموعات الشعرية الجديدة، والأسئلة كانت على الشكل الآتي: كيف تنظر إلى تصنيفك كشاعرة من جيل الشباب؟ كيف تصف علاقتك بشعراء الأجيال الماضية؟ كيف ترى أو تقوّم الشعر الذي يكتب في هذه الآونة في بيروت؟ ما رأيك بالشعر كوسيلة فنية للتعبير؟ أجاب عن هذه الأسئلة عدد من الشعراء وهم على التوالي مازن معروف وهو شاعر فلسطيني ولد وعاش في بيروت ويقيم الآن في آيسلندا وبانة بيضون وروجيه عوطة وزهرة مروّة وسمعان خوام ومحمد بركات ومحمد دياب وهو شاعر سوري ولد في حمص وعاش في بيروت. وأجابوا جميعهم باستفاضة، إلّا أننا اضطررنا إلى اختصار إجاباتهم بما يشفي غليل أي مهتم أو متابع لما يجري على الساحة الشعرية الشباية البيروتية، خصوصاً أنّ ميزة هؤلاء الشباب هي الرد بعفوية ومباشرة من دون حسابات دقيقة أو رقابة ذاتية. كحيوان يولد عجوزاً مازن معروف صاحب"كأنّ حزننا خبز"و"الكاميرا لا تلتقط العصافير"و"ملاك على حبل غسيل"، كان رأيه أنّ تصنيف"الشعراء الشباب"ينطوي على جانب مرجعي. إنه التسمية المعوِّضة عن غياب النشاط الشعري الجماعي الذي يلتزم منهجاً فكرياً ما أو اتجاهاً جمالياً أو أسلوبياً على الأقل. وهي تسمية طارئة ومُرجِعَة أيضاً. وهو يرى أنّ كلّ شاعر هو حدثٌ شعري. سواء كتب قصيدة جيدة أم سيئة."أعتقد أن مصطلح جيل الشباب تسمية خبيثة، تحيلنا إلى فرادى، تدفعنا قليلاً إلى الخلف وتُصادر منا جزءاً من مجهودنا أو رصانتنا. لكنها أيضاً تدلّ على كسلٍ نقدي، وعلى غياب البحث العميق في هذه الظواهر أو المظاهر الشعرية المسماة شباباً". عن علاقته بشعراء الأجيال السابقة يقول:"تربطني علاقة شخصية ببعضهم. وهي علاقة تقرّبني من صورتهم وأفكارهم. لم أقرأ جميع شعراء الأجيال الماضية، لكنني بلا شك قرأت شعراء لاحقين تأثروا بهم أيضاً، وبالتالي فقد قرأت أثرهم الشعري واللغوي بطريقة ما. جميع شعراء الأجيال الماضية ساهموا بولادة قصائدنا بمستوى أو بآخر. وبالنسبة إلى ما يكتب حالياً من الشعر في بيروت يقول:"لا أعتقد أنه يمكنني أن أقدّم أي تقويم علمي نهائي على أي نص. ولكنّي أسمح لنفسي بالتعبير عن إعجابي به أو عدمه. وأظنّ أنّ بيروت لا تزال متفوقة في مجمل نتاجها الشعري. ويُمكن أن يكون هذا مجرّد انطباع، لكنه يأتي مدفوعاً بأسباب. لبيروت تاريخ شعري أولاً، أي أن بيروت الحاضرة هي نتاج سياق ل"بيروتات"سابقة. وتوجد فيها اليوم أسماء شعرية تعمل على تجديد القصيدة والخروج بنص مغاير ومكسور على نفسه وعلى المرحلة، لا على نتاجات من سبقوا. فيما القصيدة العربية الحديثة تتأكّل نفسها بصور مستعادة ومكررة واجترارات مجازية وقاموسية ترسم لها ملامح مترهلة. إنها أشبه بحيوان يولد عجوزاً". ويضيف:"لو لم أكن أكتب شعراً كنت سأختار الفيديو آرت مثلاً أو السينما. أو حتى الفنون التشكيلية. أما لماذا أكتب الشعر فأنا لا أعرف. ربما تكمن الإجابة في الاستمرارية في الكتابة. وربما تراني أكتب لكي أعثر على إجابة عن هذا السؤال ذات يوم". الشعر لغة الخاسرين بانة بيضون صاحبة مجموعة"حارس الوهم"، تقول إنها لم تحب يوماً التصنيف."تصنيف"تذكرني ب"تقييد"وربما لم أبدأ بالكتابة إلا لكي أهرب من هذه الكلمة بالذات. ما زلت محتارة حتى اللحظة في تصنيف مسألة وجودي أو عدمه، أما بخصوص تصنيفي كشاعرة فلا أدري، أترك للآخرين مهمة التعريف عني كما يريدون. عمّا يُكتب في بيروت اليوم، تقول:"جيلنا آتٍ من ثقافة فوضوية إلى حد ما، ومن الصعب تحديد هويتها من حيث البناء اللغوي أو المعنوي، ثقافة ما بعد الهدم وجيل ما بعد الحرب. هنالك فوضى تامة في اللغة والمعنى وهذا أمر جيد لأنه يفتح الباب أمام إعادة هيكلة البناءات اللغوية والشعرية، وبالتالي إلى مزيد من الابتكار. لكنّ ثمّة استسهالاً أو فهماً خاطئاً لمفهوم هذه الحرية المكتسبة ينتج عنه أحياناً إصدارات شعرية فارغة تماماً من أي معنى بدهي أو مبطن. هنالك من ينشر ليحصد لقب شاعر ويضيفه على سيرته الذاتية". وعن خيار كتابة الشعر، ترى أنّ الشعر هو لغة مركّبة كما في الأحلام، طبقات من الكلمات تطرح كل منها على حدة عالماً مختلفاً. هو بوح وتكتم في الوقت ذاته. تأكيد ونكران للمعنى. كتبت ذات مرة:"الشعر لغة الخاسرين بامتياز". لذا، لا أظن أنني اخترت أن أكتب الشعر، بل هو اختارني. وأحب أن أكون راقصة على الجليد كوسيلة تعبير أخرى". الشاعر كائن مغادر روجيه عوطه صاحب"مدينة حافية الذاكرة"لا يعنيه هذا التصنيف، فالانطلاق من السنّ من أجل تقسيم الشعراء غير منطقي البتة. لا يمكن الاحتكام إلى سنّ الشاعر من أجل قراءة قصيدته أو تصنيفها. القصيدة الشابة لا يكتبها بالضرورة شاعر ينتمي إلى جيل معين. فالشاعر هو في الأساس كائن غير منتمٍ، مُغادر، ولا يؤمن بالعودة إلى مكان رحمي. عن علاقته بشعراء الأجيال السابقة يقول:"أنا أقرأ نصوص الشعراء السابقين، وعلاقتي بهم علاقة قارئ بكاتب، وليست علاقة ابن بأبيه. لا أبوة في الشعر". وبرأيه، لا ملامح مستقبلية للشعر الذي يُكتب في هذه الآونة، وهذا مردّه إلى المكان الذي يُكتب فيه. ثمة تطابق بين القصائد الجديدة وبيروت. فمن ناحية، القصائد عبارة عن نصوص مشتتة، ومن ناحية أخرى، بيروت مدينة متفرقة، لا تستقر سوى على الجروح. الشعر البيروتي يعبر عن أزمة مدينة، وبيروت بدورها تعبر عن أزمة شعر لا مثيل لها. عن علاقته بالكتابة الشعرية يُعلّق عوطه:"خلال طفولتي، كنت سميناً جداً، أجلس في مكاني، ألتهم ما وجدت من الطعام في المنزل، ولا أتحرك البتة. هذا الجمود الجسدي خرجت منه من خلال اللغة، التي سمحت لي بتكوين صورة تناقض صورتي الثابتة. داخل اللغة، رحت أركض وأتحرك وأسرع الخطى". أمّا الوسيلة التعبيرية التي يختارها، غير الشعر، فهي التجهيز الفني والكولاج. الإقامة في التمهيد زهرة مروّة التي نشرت أخيراً مجموعتها الثانية"الإقامة في التمهيد"، تعلّق على موضوع تصنيف الأجيال بالقول إنّه لا ينبغي للشعر أن يتقيد بزمن أو بحقبة، لأنه مفتوح على المطلق. ومن ثم تُضيف قائلة:"لا أكترث لهذا التصنيف. وعلاقتي بشعراء الجيل الماضي أو مع النصوص الشعرية السابقة هي علاقة جدليّة ومتوترة بعض الشيء. فأحياناً أشعر بأن علينا نحن الشباب أن نثور على القديم والمألوف، لكنّي أعود فأقول إنه لا تجديد بلا جذور. أمّا الشعر الذي يكتب اليوم في بيروت، فهو يختلف عن الشعر في الحقبة الماضية، أي حقبة ولادة قصيدة النثر العربية. وبما أنّ الأدب يعكس المجتمع، فالشعر اليوم يعكس مجتمعنا التي اختلفت عن القيم السابقة، وهو يحمل أفكاراً جديدة. ولا شكّ في أنّ ثمة ميلاً الآن إلى الاختصار أو إلى اعتماد قصيدة"الهايكو"، وهذا لم يكن رائجاً في السابق. رأيي أنّ كثيراً مما يكتب اليوم تحت راية الحداثة ليس شعراً. إنه يفتقر إلى الموهبة والجديّة والثقافة، وإلى التجربة أيضاً. فالتحرّر ليس ذريعة للابتذال. وفي حال كان علي أن أختار نوعاً آخر من الفنون، أختار الرسم لأني مولّعة بالألوان". لا فتوحات في الشعر الحديث محمد بركات وله"الأرض في مكانها"و"المدينة لا تتسع لرجل جديد"، وتجربة روائية بعنوان"شهوة جدّتي"، يقول في تصنيفه ضمن"الشعراء الشباب"إنّ هذه التسمية كانت تعجبه قبل ثماني سنوات، لأنّه كان يبحث حينها عن شرعية بيروتية لقصيدته. ويُضيف في هذا السياق قائلاً:"تصنيفي ضمن"الشعراء الشباب"أحسب أنّه بات من الماضي. أدخل قريباً عامي الثلاثين، وأصير أكثر اقتراباً من الرواية. الجمل الشعرية في النصّ الروائي تبدو وفية للشاعر في داخلي". أما عن علاقته بشعراء الأجيال السابقة فيصفها بالجيدة."أحسب في النهاية أنّ الأجيال الثلاثة، وفق التصنيف البيروتي للشعراء، هي جيل واحد. جيل الثمانينات والتسعينات والألفية الجديدة كتبوا بلغة واحدة، وأنا منهم. أستثني منهم الذين تخطوا الخمسين، وهم من جيل آخر، جيل منتصف القرن الماضي. أما بالنسبة لما يكتب اليوم في بيروت، فأنا أعتقد أنّه ليس من شاعر واحد فتح فتحاً جديداً في القصيدة البيروتية في السنوات الثلاثين الأخيرة، وربما من قبل. اليوم دخلنا في فترة"شعر اللايك". وكلّ جملة بلا لايكات لا يعوّل عليها. من هنا، يمكن أن يفهم بعضنا بعضاً وأن نعرف ما إذا كنا شعراء فعلاً أم لا. والشعر اليوم هو أمام تحدّي الانغماس في الفنون الأخرى، أو العودة متألقاً، لكنّه يحتاج إلى مجموعة أبطال لم يدخلوا في مشروع جديد. الشعر تاج من ورق يُعلّق سمعان خوّام بجموعتيه"مملكة الصراصير"و"دليل المهرج"على هذا الموضوع بالقول:"لا يعنيني التصنيف، لأنني لا أعتبر نفسي شاعراً بما تعني هذه الكلمة لآخرين من جيل جديد أو قديم. ما الفارق؟ جديد اليوم سيصبح قديم الغد، التصنيف فخ أكاديمي لمن يحب الوقوع في الفِخاخ. فأنا أكتب وهذا كل ما يعنيني في الأمر. أحياناً أستعين باللغة وأحياناً أخرى بحطامها لأبني لنفسي طوفَ يومي أبحر فيه داخل المدينة النفسية. الشعر موجود والشعراء أكثر من موجودين، وهم جزء من حراك المدينة، ولكن لا تواصل بينهم وهذا من حقائق مدينة بيروت المنفصمة على نفسها. الشعر يحاول أن يربط مشاهد الفيلم اليومي مع بعضها، هو يفلح في أغلب الأحيان. أما الشعراء والفنانون الملتزمون في شكل عام فهم أصحاب عزلة خاصة، ويجتمعون كلما أحسّوا بالعطش المعنوي والبرد الوجودي. وإذا ما طال لقاء فإنه لن يدوم لأن الرؤوس تكبر بسرعة ودائماً المعركة حاضرة والغدر فن متقن". ويُكمل:"الشعر كما غيره من الفنون أصيب بالعجز عن تقديم حالة رافعة للهم الاجتماعي أو الإنساني بل كرّس الأنا، وغالباً ما كان معدن التاج من ورق. ويقول خوام في سبب كتابته الشعر، أنا أكتب لأني لم أجد علاجاً أفضل حتى الآن. أنا أرسم متى عجزت عن الكتابة، والعكس صحيح، ولكن أجتهد كل يوم للوصول إلى الصمت المريح". أنتمي الى جيل الشباب يرى محمد دياب، صاحب مجموعتي"وللغائب أيام"و"ما يفعله الغريب في الليل"، أنّ قبل سنوات برزت على ساحة قصيدة النثر مجموعة من الشعراء الشباب الذين تمكنوا من تجاوز الانتقادات التي وُجهت إلى هذه القصيدة. واستعمل هذا الجيل أدوات جديدة لكتابة الجمل الشعرية مستقاة من الواقع المَعيش، لا المتخيل. ويعتقد دياب أنّ من الضروري قراءة نتاج شعراء الأجيال السابقة والتعرّف إليه جيداً من أجل عدم الوقوع في تكرار ما هو مكتوب سابقاً من جهة، ومن أجل إغناء مخزوننا اللغوي وذاكرتنا الشعرية من جهة ثانية. ويُضيف:"الشعر الذي يُنشر في بيروت في هذه الآونة جميل، وثمّة أفق جديد يُفتح على صعيد الشعر، يكفي أن نقرأ بعض الدواوين لشعراء شباب لنكتشف بأنها تجارب لامعة وأعتقد أنها قدمت ما هو جديد للمخيلة الشعرية العربية". حول تجربته الشخصية يقول دياب:"أكتب الشعر لأنّني أُجيد ذلك، ولا أعتقد أنني أستطيع اختيار وسيلة فنية أخرى للتعبير غير الكتابة لأنني لن أتمكن من إجادتها. أو بمعنى آخر أنا موهوب في الكتابة ولا أمتلك موهبة أخرى غيرها سوى لعب كرة القدم".