المكان الذي جرى فيه عرض الازياء مختلف عن سواه. ليس دار كريستيان ديور أو إيف سان لوران أو نينا ريتشي أو شانيل، بل في قرية صغيرة اسمها الخالدية، وبالتحديد في مدرسة للأخوات الانطونيات تقع في هذه القرية الجملية التي تبعد مسافة دقيقتين من زغرتا في الشمال اللبناني. ترتاح القرية بخضرة زيتونها وعدد بيوتها القليلة على أقدام جبال بشري وحصرون وقاديشا حيث الثلج لا يغيب عن قممها على مدار السنة، في قلب المدرسة المذكورة معهد لتصميم الأزياء وتنفيذها افتتح السنة الماضية في اطار الفرع التقني بشعبه المتعددة الاختصاصات لجمع شمل شبيبة عصت عليها الجامعات البعيدة احياناً. اعتبر قسم الأزياء "صرعة" في تلك المنطقة التي لم تكن قادرة على ان تستوعب من قبل غير كلمة "الخياطة" الدارجة في قاموسها. فها هما عرضان للأزياء يجريان تحت انظار الجمهور البريء من أهالي المصممات تلميذات المعهد. عرضٌ في نهاية السنة الأولى الماضية وعرضٌ جديد لمناسبة احتفال تنكري تحوّل شبه مهرجان صغير في قلب الخالدية التي لا تزال عجائزها يثابرن على الاحتفاظ بتقاليد الزي قبل عشرات السنين. كيف وردت فكرة تأسيس مدرسة لتصميم الازياء التي تهاوت بها الطالبات في عرض يذكّر بالدور الباريسية الكبيرة، مع قِلّة الامكانات وصعوبة ظروف العيش؟ تقول رئيسة المدرسة الأخت بازيل صيّاح: "انبثقت الفكرة من حاجة هذه المنطقة في لبنان الى تثقيف الذوق وإكتساب مهنة. تعتبر الموضة من الكماليات، وهي ليس كذلك، فالموضة حاجة تثقيفية وتربية فنية. ومع ان المدرسة تقع في اطراف زغرتا، غير ان المنطقة ككل تهتم بالأناقة، والمرأة تتطلع الى ما يأتي من الخارج في مجال الموضة. فلماذا لا تكون الأناقة اذاً موجهة وعملية ونابعة من الثقافة والتاريخ بالذات ومن الضرورة الحياتية؟ لذا ما إن اعلنت عن تأسيس فرع تصميم وتنفيذ الأزياء من ضمن الفرع التقني الجديد في المدرسة، حتى شدّ عشرات الطالبات اليه، وهذا ما توقعته اصلاً. فالموضة تخص المرأة وإن صنعها الرجل لها في أوروبا بالدرجة الأولى. في هذه المنطقة النائية التي يسودها الكثير من الفطرية والتقاليد العريقة، ثمة دور للشابات في تغيير المتعارف عن الموضة اذا ما تيسر لهن الطريق الذي يقود الى تألق مواهبهن. هكذا حققت في المعهد التقني ما يسمى بتوازن الاختصاصات. الشابات انفردن بقسم الأزياء والشباب ذهبوا الى الفروع الأخرى. شروط الدخول ما مدة الاختصاص في قسم الازياء وما شروط الانتساب اليه؟ تقول الاخت صياح: "فترة الاختصاص ثلاث سنوات. وهناك شرطان اساسيان للدخول الى هذا الفرع. الأول وجود ميل الى الموضة ورغبة في الخياطة وحبّها الى جانب الذوق الذي يُفترض ان ينمو بالتدريب والممارسة حتى بلوغ البراعة الفنية. والثاني حيازة شهادة البكالوريا القسم الثاني اذا ارادت الطالبة حمل شهادة تعترف وزارة التربية بها رسمياً. ويقبل المعهد بمن لا تتوافر لديها الشهادة المذكورة على ان تعطى بعد التخرج شهادة مدرسية فقط. عرض الازياء الذي تم في نهاية السنة الأولى بشّر بأن مواهب المصممات تفوقت على الشهادات التي اهّلتهن لدخول الفرع. فمع ان التصاميم حملت بعض الفطرية الا ان الثمار البكر تمهد الطريق الآن للانتقال من الخيط والابرة، الى الخياطة فقط، الى رسم التصاميم على الورق ثم تنفيذها على المانيكان قبل عرضها على قاماتهن أنفسهن، بمساعدة الاستاذ المشرف شافع معوّض". شابات في ألق العمر حققن عرضهن انطلاقاً من موضوع واحد هو ثوب السهرة التنكري. أثواب طويلة، واسعة او ضيقة تختلف كثيراً في الخطوط والأقمشة والتفصيلة والاكسسوارات، والجدية والهزلية. والاستاذ بدا مصراً، وهو يراقب تهادي طالباته العارضات، على التحدي. لماذا لا ينقل بعض خبرته الباريسية في "غرفة نقابة الازياء والخياطة الراقية" التي تعلم في مدرستها، الى طالبات الخالدية الأنطونية؟ ولماذا لا يضم النظري من المعرفة الفنية الذي جاء به من السوربون في باريس الى العملي الذي اكتسبه من دورها العريقة هناك ويطبقه في قلب منطقته التي زار أرزها مرة الشاعر الفرنسي الشهير لامارتين بصحبة طفلته الوحيدة، وتغنّى بما شاهده من جمال وتاريخ عريق في مذكراته؟ قال شافع معوّض: "كانت هناك فكرة خاطئة عن الازياء قبل فتح المعهد هنا. احببت ان اساهم في تطوير مفهوم الأزياء وتطبيق شروطه على المصمم لتوجيه موهبته. فهناك المنهج النظري والثقافة الفنية ويدخل فيه تاريخ الازياء من العصر الجاهلي حتى الوقت الحاضر. ونحن نعتمد منهج وزارة التربية الذي يشدد كثيراً على الثقافة وتمتع مصمم الازياء بمعرفة جيدة عن تاريخ الموضة والمسرح والاقمشة وتقنيتها وآلاتها الخ. بالاضافة الى معرفة لغة اجنبية واحدة على الأقل الى جانب العربية طبعاً، واتقان الرسم والتلوين والتصوير وصنع النماذج بالعجين والتفصيل والخياطة. وزارة التربية تحدد المواضيع الأساسية التي يجب تدريسها، لكن ليس بين الأيدي كتب محددة وعلى الأساتذة البحث عنها وتأليف الابحاث بأنفسهم لاعطائها للطلاب. والحاجة كبيرة الى اساتذة في فن تصميم الأزياء وتنفيذها. لأن الفرق شاسع بين الخياطة بمعناها المتعارف عليه والأزياء كتاريخ وفن ودراسة قائمة بذاتها كما في أوروبا. يشمل المنهج أزياء الحضارات المصرية والرومانية والبيزنطية والعصرين البابلي والجاهلي. الزي العربي يختلف تبعاً للفتوحات والمناطق التي مرّ بها الفاتحون العرب. فأزياء الخليج العربي تختلف عن أزياء الشمال الافريقي وبحر المتوسط فيه الزي الفلسطيني واللبناني والسوري. وكذلك الأمر في ما يتعلق بالأقمشة وأنواعها ورسومها، والتقاليد الاجتماعية وثقافات الشعوب الصحراوية التي تختلف عن ثقافة الشعوب البحرية. ولا ننسى تمازج الثقافات عبر الحضارات المختلفة التي مرّ اصحابها في البلاد المتوسطية والعربية قادمين من أوروبا وسواها". وذكر انه حاول باشراف ادارة المعهد والمسؤولة عن الفرع التقني "الاخت غرازييلا نجم وبالتعاون مع اساتذة في فن الرسم والتصوير والخياطة، تطبيق شبه برنامج جامعي على غرار ما يجري في السوربون تقريباً. وأنا اعتقد أن المنهج النظري هو المفتاح الأساسي للدخول الى الميدان العملي. فبدون التسلح الثقافي وتكوين الشخصية ثقافياً لا يأتي التطبيق العملي ناجحاً، وبالتالي يبق المصمم مجرد خياط كما هو متعارف عليه في منطقتنا". كيف تم تحضير عرض الازياء الجديد من قبل طالبات شابات مع الامكانات المحدودة في فرع ناهض في منطقة بعيدة من لبنان؟ "لم يكن الأمر سهلاً، غير ان التدرج يساعد كثيراً. انطلقت مع طالباتي من موضوع معين هو الحفلة التنكرية وطلبت من كل واحدة ان ترسم زياً للمناسبة ذاتها وتعرضه عليّ قبل تطبيقه. عدّلت الرسوم وأشرفت على التطبيق وقمنا بعرض تجريبي. وثمة صعوبة واجهتها في اقناع الطالبات بعرض ازيائهن، فهذه مسألة جديدة على المنطقة، غير ان النجاح الذي لاقاه العرض الأول في السنة الماضية جعل العرض الثاني يتمُّ بشكل فني اكثر وبثقة اكبر. وأتطلع الى تنظيم عرض ازياء كبير في حفل التخرج امام جمهور واسع يضم معظم التصاميم التي حققتها الطالبات المتخرجات. لدى هؤلاء كثير من المعرفة عن الموضة الباريسية بعد ان أدخلت في البرامج دراسة عن كبار المصممين الفرنسيين مثل كريستيان ديور الذي ترك دراسة العلوم السياسية ليشبع هوايته الفنية في التصميم فصار اسمه عالمياً. وهن يدرسن ايضاً لابيدوس ولوران وشهيرات المصممات من كوكو شانيل ونينا ريتشي الى السيدتين غراي وكارفن". هل تتوجه الطالبات المتخرجات الى فتح "دور ازياء" مصغّرة بعد تخرجهن؟ أمل شافع معوّض كبير بذلك، غير انه يحفظ خط العودة ويقول: "ان لم يساعد الحظ الطالبة المتخرجة على دخول ميدان العمل، هناك حظ آخر ينتظرها وهو امتلاك مهنة جميلة تساعدها في حياتها الخاصة كربة منزل او سيدة مجتمع". وماذا تقول بعض المصممات الجديدات اللواتي سيتخرجن في السنة المقبلة حاملات شهادات رسمية في فن تصميم الازياء وتنفيذها! الطالبات "النماذج" اللواتي شاء الظرف التحدث معهن بالصدفة جاءت اجاباتهن مختلفة عن المستقبل والمهنة التي سيتوجهن اليها عملياً. ريموند رعيدي ظهرت في العرض بثوب ازرق طويل ولامع يظلله شال استلقى على كتفيها وجعلت اكسسواره تاجاً على رأسها. حكايتها طريفة فهي اختارت الصحافة كدراسة جامعية. غير انها تركتها حين علمت بافتتاح معهد الازياء في منطقتها. وتقول ان الخبر وقع على اذنيها كأنغام الكنّارة الاسطورية تداعب احلامها في مجال الموضة من الصغر. "كانت والدتي خياطة وكنت احب رؤيتها وهي تخيط وترد على اسئلتي الكثيرة عن الموضة، وأكثر ما احبه فيها ابرازها الشخصية. هذا ما أحاول تطبيقه بعد ان اصبحت في السنة الثانية من دراستي. أرى المرأة العملية مثلاً في تايور كلاسيكي، والموضة الأوروبية لا تصلح من كل جوانبها لسيدات زغرتا وطرابلس وبشري والخالدية مثلاً. أميل الى ثوب السهرة لأنني استطيع اظهار موهبتي في الابتكار فيه، وأحب تحويل الثياب اليومية العادية الى اثواب سهرة عن طريق ادخال تغييرات بسيطة عليها. احب رسم الاقمشة، وأحلم بفتح مشغل لحسابي الخاص وباصدار مجلة للموضة". باريس مصغرة دورا سركيس فرنجية عرضت ثوباً فلوكلورياً فيه كثير من العفوية البريئة والباريسية معاً. تحب ابتكار الازياء منذ صغرها وأظهرت مواهبها الأولى في تصميم سلاّت الاعياد في معمل والدها للحلويات، وفي رسومها. كانت ايضاً تؤلف الاغاني وتحفظها في دفتر خاص وتخيط ثيابها بنفسها. ونالت البكالوريا مع افتتاح معهد الازياء في منطقتها، فانتسبت اليه فوراً. تقول عن آمالها: "اثناء دراستي عرفت ماذا احب من الموضة، اكتشفت انني اميل الى تصميم الثياب الداخلية الراقية وقمصان نوم والبيجامات، اضافة الى ثوب السهرة بالدرجة الثانية. فالعلاقة كبيرة بين تصميمه وتصميم قميص نوم جميل. سأركز على البيجاما وأجعلها قطعة فنية لأنها مريحة، وسوف أسافر الى ايطاليا بعد تخرجي لاستكمال معرفتي في هذا المجال". كانت ناتالي كرم، العملية الأنيقة على كلاسيكية، انهت السنة الأولى في دراسة الحقوق حين تحوّلت الى تصميم الأزياء بعد فتح فرعه بالخالدية. كانت تحب الرسم على الزجاج والقماش وتجميل "أهل البيت" من امها وأخواتها وقريباتها. ولم يمر دخولها معهد التصميم من دون معارضة، فكيف تترك الحقوق وتنصرف الى الازياء وتبدأ من نقطة الصفر؟ هذا لا يهم برأيها، فهي تريد ان تكون مصممة اسوة بكوكو شانيل التي قرأت قصتها، وتريد ان ترضي مواهبها. "أنا في السنة الثانية وسعيدة في دراستي. وسأنطلق على الصعيد العملي، برسم التصاميم وتنفيذها على المانيكان وبيعها. هدفي صنع التصاميم الراقية اسوة بدور الأزياء العالمية، وأنا ألقى تشجيعاً من معهدي الذي تسود الروح الجماعية اجواءه وكل طالبة منا تكمل الاخرى فنياً. ومن يدري، فقد تصير منطقتنا يوماً باريس مصغرة. اي عاصمة أناقة لشمال لبنان". هذا يؤكد ان النبتة ان وقعت في الأرض الطيبة تصير عملاقة اذا رعتها اليد الصالحة. والأناقة هي نبتة جديدة في معهد يرد على جمال الطبيعة بتجميل الموهبة.