ترقّب تيري وايت اشارات الى قرب اطلاقه لكن من دون جدوى. سمح له بمشاهدة التلفزيون، لكنه ظل ممنوعاً من الاستماع الى نشرات الاخبار. كان في حاجة ماسة لمعرفة ما يدور في العالم الخارجي. وضع خطة لمغافلة حراسه والاستماع الى نشرة الاخبار بالانكليزية، لكنه لم يحقق سوى نجاح جزئي واكتشف امره لأن الخاطفين كانوا وضعوا في غرفته جهازاً للتنصت. تلقى بطاقة بريدية من امرأة اثارت حيرته خصوصاً بالنسبة الى طريقة وصولها الى مكان احتجازه. روى وايت المشاكل التي تعرضت لها الكنيسة الانغليكانية وأعضاؤها في ايران بعد الثورة الاسلامية التي اطاحت الشاه وجاءت بآية الله الخميني الى السلطة. وتحدث عن عمليات الاضطهاد التي نفذها المتشددون ضد افراد الطائفة. وقد جاءت هذه التطورات في فترة احتجاز الرهائن في السفارة الاميركية في طهران. وتقرر اثر اتصالات قام بها رئيس اساقفة الكنيسة الانغليكانية في بريطانيا روبرت رونسي ووايت نفسه وشملت الخميني، ان يسافر وايت الى طهران لمحاولة تأمين الافراج عن المحتجزين من افراد الطائفة الانغليكانية في ايران. في طهران اتصل مبعوث الكنيسة الانغليكانية بپ"الحرس الثوري". وسمح له بمقابلة المحتجزين من افراد الطائفة الاوروبيين والايرانيين على السواء. وفي هذا الاطار زار سجن افين المشهور الذي كان يضم آلاف السجناء ويشهد عمليات اعدام يومية. وأخيراً حصل وايت على وعد من السلطات الايرانية باطلاق المحتجزين من الطائفة الانغليكانية. وبدا له ان الصيغة التي اعتمدت لذلك كانت لانقاذ ماء الوجه. وقد عاد الى لندن مع المحتجزين الاوروبيين بعد الافراج عنهم. في سجنه في بيروت تأكد لوايت ان هناك رهائن آخرين في المكان الذي كان يحتجز فيه. وحاول ان يتصل بهم بالطرق على الحائط الفاصل بين غرفته وغرفتهم. وفي تلك الفترة عانى مشاكل في جهازه التنفسي بسبب الدخان المنبعث من مولد كهربائي وضع على شرفة الغرفة التي كان محتجزاً فيها. واصل وايت محاولاته للاتصال بالرهائن الموجودين في الغرفة المجاورة. وهنا الحلقة الثامنة والاخيرة: هناك شخصان في الغرفة المجاورة. لقد احصيت عدد الرحلات الى الحمام على مدى ثلاثة او اربعة ايام. وأنا متأكد من ذلك. كما انني مقتنع بأنهما ليسا مكبلين بسلاسل الى الحائط الذي اجلس قربه. وبالتالي كانت فرصتي الوحيدة للاتصال معهما اثناء فترة تمارينهما. اليوم اتبعت الروتين نفسه. وعندما كان كل شيء هادئاً، استلقيت بحيث استطيع ان ابقي عيناً على الفتحة تحت الباب. وبدأت اطرق... وفي حال رؤيتي احداً من الخارج، كان علي ان اقف على قدمي فوراً، اذ كانوا يتوقعون ان يجدوني اقوم بتماريني وأي انحراف عن هذا الروتين كان من شأنه ان يثير شكوكهم. كان طرق احرف اسمي يستغرق وقتاً طويلاً. وقد اضفت اليه معلومات تفيد انني وحيد منذ اكثر من ثلاث سنوات. كان التوتر شديداً. وكنت اشعر بالاثارة ازاء احتمال حصولي على رد وبالخوف الشديد من انكشاف امري. ثم، وللمرة الأولى، رد انسان آخر، رهينة آخر. طرقة واحدة، اثنتان، ثلاث، اربع خمس... بقيت عيناي مسمرتان على الباب. كنت اعد الطرقات بانتباه. وأياً يكن الشخص، بدا انه يطرق بصوت عال الى درجة كنت معها متأكداً من انه سيُسمع. ABEDEFGHIJ فاصل ABEDEFGHIJKLMNO فاصل آخر ABEDEFGH. جون... بالطبع جون مكارثي. كانت اثارتي من الشدة بحيث اخطأت في العد ولم استطع ان التقط اسم الرهينة الآخر. توقف الطرق ووقفت على قدمي. جون مكارثي، انكليزي آخر، اخيراً، اتصال مع انسان. تخليت عن القيام بمحاولات اخرى للاتصال بجون مكارثي. كان الوضع شديد الخطورة. ولم اكن استطيع الاتصال سوى اثناء فترة التمرين. ولم اكن استطيع ان اعرف اذا كان هناك حارس في غرفتهما اثناء طرقي على الحائط. لو كان جون مكبلاً الى الحائط الفاصل لكنت استطيع ان اتكلم معه اثناء الليل... انه لأمر محبط جداً ان تعرف ان مواطناً انكليزياً موجود في الغرفة المجاورة ولا تستطيع الاتصال به. ومرة اخرى، ان الطريقة الوحيدة لتحمل هذا الاحباط هو كبته والتفكير في امور اخرى... كل ما استطيع ان آمل به هو ان يكون جون سجّل اسمي. يجب ان أُعلم شخصاً ما انني على قيد الحياة وانني محتجز لدى هذه الجماعة. تنفسي يزداد صعوبة. وأتساءل اذا كان الدخان اتلف غشاء رئتي، لأنني احدث صفيراً اثناء تنفسي كمريض مزمن بالربو. ولم اعد أملك النشاط. وبالكاد استطيع المشي في الغرفة خلال الساعة التي تفك فيها اغلالي. وكان من نتيجة تقليص نشاطي الجسدي ان ازدادت وتيرة حياتي الداخلية. كنت اقرأ يوماً بعد يوم. وعندما لا اقرأ كنت أؤلف كتابي الخاص. انني اعرف. وجسمي يؤلمني بسبب السعال المتكرر الذي لا استطيع السيطرة عليه. كان الشهيق والزفير يتطلب مني جهداً هائلاً. وكنت متعباً معظم الوقت. ولفترات طويلة لم اكن استطيع الاستلقاء. وهكذا كنت ابقى جالساً القرفصاء محاولاً السيطرة على التشنجات التي كانت تهاجمني بوتيرة كبيرة. كان الحراس يعربون عن قلقهم احياناً، لكنهم لم يفعلوا الكثير لمساعدتي. وقبل ايام احضروا لي زجاجة تحتوي سائلاً للسعال جعلني اتقيأ. صراع مع التناقضات واصلت الكتابة في ذهني. وعلى مستوى اعمق كنت اتصارع مع تناقضاتي الداخلية. وبطريقة او بأخرى، كان عليّ ان اعمل شيئين. فقد كان عليّ ان اواصل حواري الداخلي اذا كان لي ان احقق اي تقدم على الصعيد النفسي. وفي الوقت نفسه كان عليّ ان ادعم نفسي الى درجة سخيفة تقريباً. اذ كنت سأموت اذا تركت ثقتي الداخلية تنهار. واذا لم اواجه شكوكي وتناقضاتي فانني لن احقق اي تقدم ابداً... كم انا متشوق الى محبة عائلتي ورفقتها... انني خائف. خائف من ان تضمحل هويتي مع تقدمي في السن. انها ايام صعبة، لكن يجب ان اتشبث بقوة بقراراتي: لا ندم، لا عاطفية، لا شفقة على النفس. انها عبارات سخيفة وطنانة، لكنها ترتدي بعض المعنى بالنسبة اليّ. جاءني صوت الرجل المسن سائلاً: "هل لديك مشكلة؟". اذكره من الأيام الأولى لاحتجازي. لقد ضربني على قدمي الى ان تورمتا الى درجة لم اعد استطيع معها المشي من دون مساعدة. نعم يا صديقي نعم. لدي مشكلة. ولديك مشكلة، مشكلة ضخمة. انك جبان سخيف اعمى. اصبت بدوار وانقطع تنفسي ولم استطع الكلام الا بصعوبة لكنني جاهدت للرد: "لا استطيع التنفس في صورة طبيعية". "لماذا؟". بذلت ما في وسعي لأشرح مسألة الدخان والحاجة الى هواء نقي. تحدث الى الحارس بالعربية. اغلق الباب. لدي مشكلة، لديك مشكلة، لدينا مشكلة، لديهم مشكلة... غرق رأسي منهكاً. بالتأكيد ان الموت افضل من هذه اللاحياة. لا مهرب، حتى النوم حُرمت منه الآن. لدي مشكلة... لكنني لم انته بعد، ليس بعد. شيفرة وحديث رهائن عاد وايت الى واقعه: كان الليل هادئاً. وفي الخارج توقفت اصوات الاسلحة الخفيفة... استدرت نحو الحائط والصقت اذني عليه، مصغياً الى صوت ما، اي صوت... وبهدوء وضعت يدي على الحائط وبدأت اطرق باصبعي. طرقة، اثنتان، ثلاث. صمت. مجدداً، طرقة، اثنتان، ثلاث... انتظرت... جاءني جواب. هناك شخص ما في الغرفة المجاورة يستطيع الوصول الى الجدار الفاصل وان يرد على اشارتي. اخيراً وبعد طول انتظار، هناك من استطيع التكلم معه. "من أنت؟". طرقت جواباً وتوقفت منتظراً رداً: تيري اندرسون، توم ساذرلاند، جون مكارثي "اخيراً وجدتكم". يبدو ان اندرسون مكبل الى الجدار الفاصل. واذا كانت هذه الحال فاننا سنستطيع ان نتحادث في شكل منتظم، وقد فهم الشيفرة التي استخدمتها فوراً. لديهم جهاز راديو في الغرفة المجاورة وأيضاً جهاز تلفزيون. وليس لديهم جهاز راديو وحسب بل انهم يستطيعون الاستماع الى الاخبار! سيكون بمقدور اندرسون الآن ان يعطيني موجزاً كل يوم. لكن علينا ان نكون حذرين... تحادثنا مرة اخرى... كما املت، أطلق بريان كينان وأبلغ بطريقة ما اني على قيد الحياة... واصلنا تبادل الاخبار. اخبرني اندرسون ما يعرف عن قضية "ايران - الكونترا". لقد عُزل اوليفر نورث. وحاول روبرت مكفرلين الانتحار. وأصبح جورج بوش رئيساً. وما زالت ثاتشر في السلطة... لقد اغرقت بالمعلومات. استيقظت قبل بزوغ الفجر. وشعرت بحاجة ملحة للتحدث الى اندرسون، لكن الوقت مبكر جداً ولا اريد ان ازعجه. انه يقضي ساعات يطرق على الجدار لنقل المعلومات اليّ... ذكّرني الاتصال بأندرسون بعام 1986 والعام الذي سبق احتجازي: ذكريات المكالمات الهاتفية من بيغي ساي شقيقة تيري اندرسون وزيارات جين ساذرلاند زوجة توم والنداءات من اقارب الرهائن الفرنسيين والرحلة الى ايطاليا من اجل الرهينة البرتو موليناري. لقد سيطر الرهائن وأقاربهم على حياتي في صورة كاملة. عام 1985 طلب مني ان انفذ سلسلة برامج تلفزيونية اتحدث فيها مع اشخاص من مختلف الفئات... وقبل بدء تصوير احد البرامج وصلت انباء مؤلمة عن اغتيال الاستاذين البريطانيين فيليب باذميلو ولي دوغلاس والموظف في مكتبة الجامعة الاميركية في بيروت بيتر كيلبورن... وبعد فترة قصيرة وزّع شريط فيديو اظهر اليك كوليت مشنوقاً. وأفادت المعلومات التي تلقيتها عبر قنواتي الخاصة ان اليك توفي في الاسر نتيجة مرض وان الشنق كان وسيلة سيئة ورهيبة للضغط على الغرب... كان اغتيال فيليب ولي وكيلبورن ثم عقب الغارة الاميركية على ليبيا التي استخدمت فيها بريطانيا قاعدة لتزويد الطائرات المغيرة الوقود، ومع انني لم اكن املك ما يثبت ان مقتل الرهائن الثلاثة مرتبط مباشرة بالعملية الاميركية، الا انه بدا لكثيرين ان هذه هي الحال. اما عائلة اليك فقد واجهت مشكلة رهيبة تمثلت في معرفة حقيقية ما جرى له. كان البعض يعتقد انه توفي، فيما رفض آخرون قبول ذلك. وكما كانت الحال بالنسبة الى موضوع رهائن سابقين، استحال عليّ ان اعرف الحقيقة كاملة. ولم تكن لدي فكرة واضحة عن طبيعة المبادرات الديبلوماسية التي كانت تجري وراء الكواليس من جانب الولاياتالمتحدة، بريطانيا او فرنسا... واستناداً الى الكولونيل نورث، وهو ارفع شخص كنت على اتصال به في الحكومة الاميركية، كان الاميركيون يدرسون خيارات متنوعة. وذكر واحدة منها تقضي بالسعي الى اطلاق الشيعة في جنوب لبنان الذين كانوا معتقلين لدى "جيش لبنان الجنوبي" الذي يقوده اللواء المتقاعد انطوان لحد. وقيل ان اطلاق هؤلاء المعتقلين يمكن ان يهدئ الوضع في المنطقة كلها وان يعزز فرص اطلاق الرهائن الغربيين. وسألني نورث اذا كنت مستعداً لدرس المسألة. ووافقت على الاقل ان استكشف امكانات ذلك... وذات ليلة غادرت قصر لامبث بهدوء واستطعت الركوب في آخر طائرة متوجهة الى باريس حيث استقبلني في المطار شخص اميركي قدّم نفسه على انه سائقي... سألني اذا كنت مسلحاً. وفاجأني سؤاله. وأجبت: "بالطبع لا". كان الطقس ممطراً. وتوجهنا في السيارة عبر المدينة الى شارع جانبي في احدى الضواحي. وتعرفت الى العنوان الذي كان اعطي لي. توقفنا في نهاية الشارع. وسرت تحت المطر عائداً الى حيث المبنى المؤلف من شقق. ضغطت زر الجرس الموجود قبالة الاسم الذي اعطوني اياه. رد صوت نسائي. عرّفت بنفسي ففتح الباب ودخلت. اخذت المصعد الى الطبقة العليا... حيث استقبلتني سيدة افترضت انها لبنانية. اقتادتني الى غرفة الجلوس حيث كان عدد كبير من الرجال والنساء اللبنانيين... دخلنا الى مكتب صغير في الجهة الخلفية للشقة وجلسنا. قالت السيدة: "اذاً، انت ترغب في مقابلة الجنرال لحد؟". لم اكن ابديت مثل هذه الرغبة. قلت انني سأكون مهتماً بالاستماع الى ما تريد ان تقول. تحدثت لبعض الوقت عن مشاكل لبنان وقوات "جيش لبنان الجنوبي". وأكدت لي انه اذا رغبت في اي وقت ان اقابل الجنرال فان ذلك يمكن ان يتم. ولم يجر اي كلام عن اطلاق المعتقلين الشيعة. شكرتها وغادرت. وصباح اليوم التالي عدت الى لندن. مع نورث في بيروتالشرقية مطلع 1986 تلقيت رسالة اخرى من الكولونيل نورث يقترح فيها ان اذهب برفقته الى بيروتالشرقية حيث كان يأمل ان اتمكن من الاجتماع مع اشخاص لهم نفوذ بالنسبة الى تأمين اطلاق المعتقلين في جنوب لبنان... قابلني الكولونيل نورث في مطار هيثرو صباح ذات يوم... كنت متأكداً ان اجهزة الامن البريطانية تراقب تحركاتنا... توجهنا في طائرة خاصة الى قبرص... ولم نتحدث سوى القليل اثناء الرحلة. كان الكولونيل نورث غارقاً في الاوراق وكنت اقرأ. وخلال كل لقاءاتي معه لم يكشف سوى القليل. ولم يكن من النوع الذي يتحدث عن عمله. في قبرص كانت هليكوبتر عسكرية اميركية تنتظرنا. صعدنا اليها وبعد لحظات كنا نحلق. اعطانا احد افراد الطاقم سماعات تمكننا من التحدث الى بعضنا بعضاً. قال: "لا تقلق. عندما نقترب من الوجهة التي نقصد نقوم ببعض المناورات لتخفيف خطر تعرضنا لهجوم بصاروخ". كان هناك جندي يجلس قرب باب الهليكوبتر مع رشاش جاهز للاطلاق... اقتربنا من بيروت. وفجأة انقضت الهليكوبتر على مهبط قرب السفارة الاميركية. اخذت في سيارة فيما اختفى الكولونيل نورث في اتجاه آخر. وبدا ان العملاء الاميركيين الذين نقلوني فوجئوا عندما تعرفوا الى وجهي. لم يكونوا ابلغوا اسم الشخص القادم. وكان كل ما طلب منهم ان يستقبلوا زائراً وان يتدبروا امره ليبقى بعيداً عن الانظار ليوم او اكثر وذلك من اجل سلامته الشخصية. وفيما كنا نعبر المدينة بدوا مرتبكين... قال اكبرهم سناً: "انا آسف. لم نعلم انك الشخص القادم. ولو علمنا لكنا رتبنا لك مكاناً افضل للاقامة". قلت لهم ان لا يهتموا. توقفنا امام بناية عصرية حيث اخذت الى شقة صغيرة. قال الاميركي بارتباك: "انها لضابط في الجيش اللبناني"... انتظرت في الغرفة خمسة ايام. وكان الاميركيون يجلبون الطعام كل مساء ويبقون لتناول كأس شراب. وفي نهاية الاسبوع حملوا رسالة من اوليفر نورث تقول انه لا مبرر للانتظار اكثر من ذلك. ولم اكتشف ابداً ما فعله خلال تلك الأيام. ولم يوضح لي ابداً لماذا لم يتم اجتماعي مع الاشخاص النافذين. وكان كل ما قاله انه التقى اشخاصاً غير لطفاء ابداً وان آماله تبددت. مع الملك حسين في اجتماع اساقفة الكنيسة الانغليكانية الذي عقد في كندا في تموز يوليو 1986، طلب اسقف القدس من رئيس اساقفة كانتربري ان يدعم مشروعاً طبياً كان ينفذ في الاردن... وفي وقت لاحق من العام نفسه زرت الاردن لتدشين المشروع... وكان سمير حبيبي هناك في الوقت نفسه وكان متفائلاً بالنسبة الى قضية الرهائن. وقد سمع ان اطلاق احدهم كان وشيكاً وانه سيكون، على الارجح، الأب لورنس جنكو، الكاهن الكاثوليكي الذي كان خطف في كانون الثاني يناير 5198. وكان جنكو، المعروف لدى اصدقائه بمارتي، ناشطاً في لبنان ويعمل من اجل اللاجئين وغيرهم من الضحايا. وفي اثناء وجودي في الاردن اجريت لقاء خاصاً مع الملك حسين وبحثت معه في موضوع الرهائن. كنت اشك في ان يكون قادراً على عمل شيء في صورة مباشرة، لكنني كنت حريصاً على سلوك اي طريق ممكن. وجاءت الاخبار التي كنا شبه متأكدين منها صباح يوم سبت ومفادها ان الأب جنكو اطلق وانه في طريقه الى دمشق. كانت عطلة نهاية الاسبوع ولم تكن لدي تأشيرة لدخول سورية. وقررت ان اطلب المساعدة من اعلى مستوى. اتصلت هاتفياً بالبيت الابيض وطلبت التحدث الى الكولونيل نورث. وطبيعي، لم يكن في مكتبه فوصلوا مخابرتي بمنزله. ابلغته باطلاق جنكو. ولاستغرابي، قال انه لم يسمع بالنبأ. قلت له انني سأُقدّر مساعدة السفارة الاميركية في عمان لتمكيني من دخول سورية ولقاء الأب جنكو في اسرع وقت ممكن. وعدني بأن يعمل كل ما يستطيع. ثم اتصلت بالسفارة البريطانية وشرحت لهم الوضع. كانت السفارة السورية في الاردن مغلقة، لكن احد العاملين في السفارة البريطانية اكتشف مكان وجود ديبلوماسي سوري اعطاني تأشيرة فوراً. ورتب الاميركيون عملية انتقالي: سيارة الى الحدود السورية واخرى في الجانب الآخر لنقلي الى دمشق. كان الوقت ليلاً عندما وصلت الى المدينة. وتوجهت الى السفارة الاميركية لمقابلة الأب جنكو للمرة الأولى. التقيت جنكو في حديقة السفارة الاميركية في دمشق... كان الانطباع الأول الذي كوّنته عنه انه انسان طيب... وبقدر ما كنت متلهفاً للحصول على اخبار عن الرهائن الآخرين بقدر ما كنت مهتماً بمعرفة مضمون الرسالة التي طلب الخاطفون من الأب جنكو ابلاغها الى البابا والرئيس ريغان... وتبين ان رسالة الخاطفين كانت غامضة وغير مرضية في آن. اذ لم يطلبوا من جنكو سوى ابلاغ البابا والرئيس ريغان ان يكونا حذرين في مواجهة انهيار القيم الاخلاقية. وكان الأب جنكو مقتنعاً ان الخاطفين كانوا جديين بالنسبة الى الموضوع... اطاحة عون عاد وايت الى واقعه مجدداً: هناك شيء غريب على نحو مقلق يحدث، فخارج الشقة كانت ثمة حركة كبيرة. كان هناك اشخاص يصرخون في الشوارع فيما ترددت اصوات اطلاق نار. وهدرت دبابة في مكان قريب وتبعتها شاحنات ثقيلة. وسمعت اصوات قصف. كان الضجيج يصم الآذان... تبادل الحراس الصراخ في الرواق. وحصلت حركة في الغرفة المجاورة.... وبدا انهم ينقلون تيري وتوم وجون... اقترب شخص من غرفتي: "تعال بسرعة". فُكت السلسلة التي تقيد قدمي... ودُفعت عبر الرواق الى حمام مظلم حيث أُمرت بالاستلقاء على فراش وضع في المغطس... في الخارج كانت المعركة تستعر. وكانت الشاحنات والدبابات تهدر في الشارع والقذائف تنفجر والاسلحة الصغيرة تقرقع. لم اكن استطيع تصور ما يحدث. هل تعرض لبنان لغزو؟ هل هو قتال طائفي؟ حصل انفجار ضخم. وتساقطت رقع من الطلاء من السقف. واستقرت اجزاء من الاسمنت في المغطس... انقضت ساعات والضجيج مستمر. غلبني تعب نفسي واستسلمت للنوم. وفي المساء عندما عدت الى غرفتي ابلغني اندرسون نبأ اطاحة الجنرال ميشال عون... راديو وتلفزيون اقترح عليّ اندرسون ان اطلب جهاز ترانزيستور. وقال انه يعتقد ان هناك فرصة جيدة لأن يعطيني الحراس واحداً الآن. انني لن آخذه الا اذا سمح لي بالاستماع الى نشرات الاخبار من دون اي قيد... دخل الحارس الى غرفتي حاملاً الغداء. "هل يمكنني الحصول على راديو من فضلك؟". "سأسأل الرئيس اذا كان يمكنك ان تحصل على تلفزيون". "هل استطيع مشاهدة الاخبار على التلفزيون؟". "لا اعرف. سأسأل الرئيس"... أُغلق الباب وأُقفل بالمفتاح... عاد الحارس: "يقول الرئيس انك تستطيع مشاهدة التلفزيون". "هل استطيع مشاهدة الاخبار؟". "يقول الرئيس انك تستطيع مشاهدة الاخبار". "ماذا عن الراديو؟". "قال الرئيس ان اشتري لك واحداً غداً". اغلق الباب. اكاد لا اصدق حظي الجيد. وأخيراً سأتمكن من الاستماع الى الاخبار مباشرة عبر الراديو. وضع جهاز تلفزيون اسود وأبيض في غرفتي. وكما وعد الحارس، كنت استطيع مشاهدة كل البرامج بما في ذلك الاخبار... هذه الليلة جعلتني اخبار التلفزيون ابكي. لقد اقتحم مسلحون منزل سياسي لبناني واغتالوا العائلة بأكملها. وعرضت صورة صبي صغير في السادسة او السابعة وقد اخترقت رصاصة رأسه. لم يكن الامر يتطلب خيالاً لمعرفة مدى الوحشية والعذاب اللذين تعرض لهما هؤلاء الاشخاص. ولا يهم اذا كانوا مسيحيين او مسلمين او دروزاً. رفاق الاسر والشطرنج ذات يوم وفي وقت ابكر من المعتاد، دخل الحراس الغرفة... وسمعت الصوت المرعب للشريط اللاصق. "ماذا تفعلون؟". "لا كلام". سمعت صوت حاجياتي وهي تجمع. انني على وشك ان أُنقل. سيطر عليّ الخوف. لقد امضيت سنوات في هذا المنزل. الى اين انا ذاهب؟ وماذا عن الرهائن الآخرين؟ "ادخل". دُفعت الى داخل كيس قماشي وحُملت الى خارج الغرفة ووضعت في صندوق سيارة... وفوراً بدأت العمل لتحرير يدي ورفع الكمامة عن فمي... كان هناك شخص آخر في الصندوق... تبادلنا الهمس واكتشفت انه جون مكارثي... عثرت على قفل الصندوق، لكن فتحه لم يكن ممكناً. سمعت صوت الواح خشبية ونحن نعبر جسراً. ثم خرجنا عن الطريق الى ما بدا انه ممر ترابي. توقفت السيارة وانتظرنا. فتح الصندوق. وأُخذنا الى داخل مبنى... كنت وحيداً في غرفة. واعتقد ان الثلاثة الآخرين موجودون معاً في الغرفة المجاورة... كان منزلناالجديد قائماً على تلة في الريف... اليوم ثمة حركة كبيرة في الغرفة المجاورة. اعتقد ان تيري وتوم وجون نقلوا. لقد لمح الحراس في الأيام القليلة الماضية الى انني سأوضع مع الرهائن الآخرين، لكنني تعلمت على مر السنين ان لا اصدق شيئاً الى ان يحدث فعلاً... دخل حارس غرفتي وجمع حاجياتي القليلة. "قف. لا كلام. بسرعة".وقف ورائي وامسك بساعدي الاثنين بقوة. ومن تحت عصابة عيني كنت استطيع رؤية ان هناك حارساً امامي ايضاً. تحركنا وسط هواء الليل البارد. وكان الجو هادئاً جداً. لم يكن هناك ضجيج سيارات. "صعوداً". وصعدنا طلعة خفيفة وأصبحنا داخل منزل. وغرقت قدماي في سجاد سميك. واستطعت ان اشتم رائحة الجدة. هذا يجب ان يكون المنزل الريفي لشخص متوسط الثراء. اخذت عبر رواق قصير... ودخلنا غرفة. "اجلس". رُبطت سلسلة حول قدمي. وعندما اقفل الباب ونزعت العصابة عن عيني شاهدت تيري وتوم وجون في الغرفة. كانوا يجلسون على افرشتهم الموضوعة على الارض العارية. وكان كل منهم مكبلاً من قدمه الى حلقة حديدية مركبة في الجدار الاسمنتي. لقد انتهت ايام عزلتي في الاحتجاز... انقضت اسابيع. كانت لدينا لوحة شطرنج. ولمفاجأتي اكتشفت انني نسيت طريقة اللعب. وذكّرني تيري بقواعد اللعبة. انه لاعب ممتاز... ولا استطيع ان اغلبه... كان مرضي يشكل ضغطاً اضافياً هائلاً على المجموعة. وليلة بعد ليلة كنت اجلس وأنا اجاهد للتنفس بينما يحاول رفاقي النوم. احضر لي الحراس اقراص "فنتولين" لكنها لم تفد. وطلب منهم تيري ان يحضروا لي جهازاً للاستنشاق... وخلال الليل كان يجلس معي. وقد توقف هو وجون عن التدخين من اجلي... "قف". تحاملت ووقفت على قدمي... "الى اين انا ذاهب؟". "نأخذك الى الطبيب"... "نم". استلقيت في صندوق شاحنة مقفلة معصوب العينين ولكن غير مقيد... انطلق السائق. وتمايلنا فوق طريق وعر، ثم انحدرنا وانعطفنا يساراً الى طريق معبد. وسمعت قرقعة الالواح الخشبية اثناء عبورنا جسراً. توقفنا... كان كل شيء هادئاً. ثم سمعت اصواتاً. وانحنى شخص فوقي. وشممت رائحة المواد المطهرة. وبدا ان الطبيب اختلف مع الحراس. "تعال". اخذت من الشاحنة الى داخل منزل... ربط الطبيب اسلاكاً الى جسمي. ورجحت انه يفحص قلبي. اصغى الى تنفسي وتحدث الى الحراس. ثم عدنا الى الشاحنة. وبعد نصف ساعة كنت مكبلاً من جديد مع الآخرين. لكنني الآن املك جهاز استنشاق "فنتولين". وقد احدث تغييراً لا يصدق... واستمرت نوبات الربو بانتظام مزعج، لكن على الاقل لدي وسيلة للراحة الآن. الرجوع الى الحرية انه عيد الميلاد 1990. صنع تيري اندرسون لعبة سكرابل من اجزاء صندوق كرتون. قمنا جون وتيري وأنا ببعض الالعاب. تضمن خطاب الملكة في مناسبة الميلاد اشارة الينا. ان رسائل الدعم المستمرة مشجعة جداً. تابعنا جميعاً تطورات الحرب مع العراق. وتساءلنا ماذا سيكون انعكاسها علينا. سمعنا ان المعتقلين من جماعة "الدعوة الاسلامية" في الكويت اختفوا من سجنهم. وبالتأكيد كان هذا يعني اننا سنعود الى منازلنا قريباً. انتظرنا وصلّينا وأملنا. هناك الكثير اقوله عن الاشهر الاخيرة التي قضيتها مع تيري وتوم وجون. آمالنا المشتركة، مخاوفنا ومشاعرنا المجردة. ربما كتبوا عنها. وربما عدت اليها يوماً ما، لكنها ليست جزءاً من هذا الكتاب. أُطلق جون اولاً وسمعناه يتحدث عبر الاذاعة... اما توم وأنا فأُطلقنا معاً. سيارة. تغيير سيارة. "لا نظر". "لا كلام". مقر الاستخبارات السورية. "هل تريد شيئاً، سيد وايت؟". دخل شاب مع حقيبة صغيرة. قص شعري وشذب لحيتي. ثم الى السفارة البريطانية: طبيب صحة، طبيب نفساني، شقيقي ديفيد. الى طائرة سلاح الجو الملكي... اقتربنا من انكلترا. كان الطقس ممطراً والرياح قوية. هبطنا في قاعدة لينهام الجوية. صعد روبرت رونسي الى الطائرة. ضحكنا معاً كما فعلنا في السابق. مشيت متعثراً على المدرج الى سيارة وتوجهنا الى حظيرة طائرات. القيت خطابي. ومشيت متعثراً وصعدت في سيارة اخرى... نظرت من خلال باب زجاجي. ركضت روث وكلير وجيليان نحوي، فيما وقفت فرانسيس وشاب، افترضت انه مارك، بهدوء بعيداً عن الاضواء. تقدما. بكينا. وتبادلنا العناق... وبعد اسبوع تذكرت الحلم الذي رأيته في الاسابيع الاولى من اسري: الشاطئ والبحر وعائلتي.