تحدث وايت، في الحلقة الثانية، عن الجهود التي بذلها من أجل اطلاق أربعة بريطانيين احتجزتهم السلطات الليبية، ثم كيف اتصل به الأميركيون ليطلبوا منه العمل على اطلاق القس بن وير الذي كان اختفى في لبنان عام 1984. وتطور البحث في هذا الموضوع ليصل الى قضية 17 شيعياً من جماعة "الدعوة الاسلامية" كانت السلطات الكويتية اعتقلتهم بتهمة القيام بأعمال تخريبية بينها تفجير قنابل تسببت في سقوط ضحايا. وقد حوكم هؤلاء، وصدرت على أربعة منهم، بينهم لبنانيان، أحكام بالاعدام. وكانت هذه المسألة من التعقيد حتى ان وايت أدرك ان من المستبعد جداً اطلاق المعتقلين في الكويت في مقابل اطلاق الرهائن الغربيين في لبنان. ويتذكر وايت كيف بدأ يدرس تعقيدات الوضع اللبناني في اطار الاستعداد لمباشرة جهوده من أجل الرهائن في لبنان. وكانت ثمة أمور كثيرة غامضة تتعلق بعدد المجموعات التي تنفذ عمليات الخطف ودور إيران وعلاقة الخاطفين اللبنانيين بها وهل الفلسطينيون والليبيون متورطين. وفي تلك المرحلة شهدت بيروت سلسلة عمليات خطف شملت الكاهن الكاثوليكي لورنس جنكو، ثم تيري اندرسون من وكالة "اسوشيتدبرس" فالصحافي البريطاني اليك كوليت. وروى وايت كيف رتب له الأسقف سمير حبيبي لقاءات مع أعضاء في الادارة الأميركية للبحث في موضوع الرهائن. وذكر للمرة الأولى اسم الكولونيل اوليفر نورث مشيراً الى أنه كان شديد الاهتمام بموضوع الرهائن. وعرض تفاصيل اللقاء الأول معه في نيويورك. كذلك تحدث عن الاتصالات التي جرت مع حكومات سورية وايران والكويت ولبنان والسعودية وكيف ان السلطات الكويتية واصلت رفض دخوله أراضيها لزيارة السجناء الشيعة. الآن اسمع أصواتاً في رأسي. أصوات أولادي يتحدثون بالايطالية. الصوت اللطيف للمونسنيور اشيل سيلفستريني وهو يستقبلني في الفاتيكان. انه يشغل منصباً ديبلوماسياً مهماً في أمانة سرالدولة. وقد عرفته منذ سنوات. كان المونسنيور سيلفستريني في مطلع العقد الخامس نحيلاً وأنيقاً في ثوبه الأسود. بحثنا في قضية الرهائن. قال: "سيد وايت، علينا ان نكون حذرين جداً، اذ ان السياسات معقدة جداً". أخبرته بما فعلت منذ ان التقينا للمرة الأخيرة وأبلغته رغبتي المستمرة في زيارة السجناء في الكويت. قال: "قمنا بمساع كثيرة من أجلك في دمشقوبيروت. المسألة صعبة جداً. وعلينا أن نكون صبورين، سيد وايت، صبورين". سرنا بهدوء. ووعدني المونسنيور بالاستمرار في مساعيه. سألني سيلفستريني: "سيد وايت، سيقام قداس بعد الظهر في كاتدرائية القديس بطرس، هل ترغب في الانضمام إلينا؟" أجبته بانني سأفعل... بعد القداس ظهر المونسنيور سيلفستريني فجأة كما كان اختفى. وقادني الى غرفة في الكاتدرائية. انتظرت لبعض الوقت وإذا بالبابا يوحنا بولس الثاني يدخل. كان يبدو متعباً، لكنه ابتسم ورحب بي بحرارة. سألني عن الرهائن. وأكد لي ان الكنيسة الكاثوليكية ستفعل أي شيء لمساعدة رئيس أساقفة كانتربري في مساعيه. وأصغى إلي باهتمام بينما كنت أشرح له المصاعب وأخبره عن التحرك الذي نقوم به. نورث والملصقات العدوانية قبل أن اذهب الى الفاتيكان، اتصل بي السفير الأميركي الجديد لدى الكرسي البابوي. كانت وصلت تقارير تفيد ان السلطات الكويتية تستعد لاعدام المعتقلين من جماعة الدعوة الاسلامية. طُلب مني أن أسأل الفاتيكان التدخل. اتصلت مع عدد من معارفي الشرق الأوسطيين بهدف التحقق. وقررت ان ليس ثمة خطر مباشر، في الوقت الذي يبدو ان هناك بعض التهديد. ولو كانت الحكومة الأميركية شعرت بأن هناك مثل هذا الخطر، فانها كانت تستطيع الاتصال بالفاتيكان عبر قنواتها الديبلوماسية الخاصة. اتصلت هاتفياً بفريد ولسون وأخبرته بالاقتراحات التي طُرحت عليّ وقراري عدم اثارة المسألة مع أمانة سر دولة الفاتيكان. فرد بأنه يثق بحكمي. وقبل أسابيع، كان رئيس أساقفة كانتربري والكنيسة البرسبيتارية وجها، كلّ على حدة، رسائل الى أمير الكويت يطالبانه فيها بتخفيف أحكام الاعدام. كنا نعتقد بأن تخفيف الأحكام يساعد على تهدئة الوضع المتأجج ويساعدنا على متابعة اتصالاتنا مع الجماعات في لبنان. وارتحت عندما تبين ان مخاوف السفير الأميركي لم يكن لها أساس وان الخطر المباشر زال. كنت أفكر في فيتنام عندما عادت بي ذاكرتي الى اوليفر نورث. لم يكن فريد ولسون مرتاحاً اليه. وأعرب عن ذلك عندما جاء الى لندن مع آلفن باريور من الكنيسة البرسبيتارية وكارول وجون وير. كانوا زاروا الكولونيل نورث في مكتبه في واشنطن وازعجهم بعض الشعارات العدوانية التي كانت تزين جدرانه. وفي وقت لاحق، رأيت هذه الملصقات بنفسي. ولا أذكرها بالتفصيل، لكنني أذكر انها كانت موجهة ضد الذين يُفترض أنهم أعداء أميركا. وبالنسبة الي بدت هذه الملصقات صبيانية. لم تكن الملصقات وحدها سبب انزعاج فريد، بل وجد ان من المستحيل ان يعطي السبب المحدد لذلك. وعموماً لم يكن يثق بادارة الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان. جادلته في ذلك قائلاً انه ما دام الكولونيل نورث هو الشخص الذي عينته الادارة للتعاطي بقضية الرهائن، فليس أمامنا خيار سوى البقاء على اتصال به. ووافقني فريد الرأي. اتصال بالأسد وتحول نورث الى ايران أطلعت المجموعة فريد وآلفن وكارول وجون على نشاطاتنا في قصر لامبث. كنا اتصلنا بالرئيس السوري حافظ الأسد للاستعلام عن النفوذ الذي يمكن أن يمارسه. وأخبرتهم عن جهود الفاتيكان، كما ذكرت ان لدي عدداً من المعارف الذين أعتقد بأنهم كانوا قادرين على الحصول على رسائل عبر بعض الخاطفين. في تلك المرحلة، لم أكن أكيداً لي بعد عدد الجماعات الضالعة في خطف الرهائن الغربية. وأعلنت اننا نريد "مبادرة" من الخاطفين يمكن ان تساعدني في تحقيق تقدم أكبر بالنسبة الى قضية الوصول الى المعتقلين في الكويت. بعد أيام من عودته الى أميركا، بعث إلي فريد ولسون برسالة سرية ذكر فيها انه ذهب وآلفن وكارول وجون مرة أخرى لمقابلة الكولونيل نورث في واشنطن ووجدوا ان اهتمامه بدأ يتحول من سورية نحو إيران. سألني فريد هل استطيع ان استكشف السبل التي قد تمكنني من اقامة اتصال مباشر مع الزعيم السياسي الايراني حجة الاسلام هاشمي رفسنجاني، موضحاً ان هذا الطلب جاء منه ومن آلفن وكارول وجون وليس من الكولونيل نورث. وكنت، بعد سفر المجموعة، تبلَّغت ان الرئيس الأسد يستطيع على الأرجح تأمين اطلاق بعض الرهائن الغربيين اذا أبدت الولاياتالمتحدة "استعداداً أكبر للمساعدة" أياً يكن المعنى المقصود بهذه العبارة. أبلغت فريد هذه المعلومات. وبالنظر الى مجمل القضية، بدا لي ان من المهم جداً ان أرتب بطريقة ما اجتماعاً وجهاً لوجه مع الخاطفين. كنت احتاج الى ان أسمع من أفواههم ما يطالبون وهل يعملون في صورة مستقلة أم انهم يخضعون لسيطرة ايران. لم أكن أتوقع منهم ان يجيبوا عن النقطة الثانية، لكنني أعتقدت بأن اجتماعاً يمكن أن يعطيني بعض المعلومات. انني مرهق. انه ليس ارهاقاً ناجماً عن القلق فقط... انه ارهاق مزمن بسبب العيش لسنوات في أجواء شديدة الخطورة. ارتجف عندما أتذكر التعقيد الشديد لمسألة الرهائن وما تطلبته من وقتي وطاقتي. أذكر الغموض والضغط والوحدة. عائلتي البائسة. لم أكن استطيع مناقشة مسائل تتعلق بعملي في منزلي. وفي الواقع، نادراً ما كنت موجوداً في المنزل. أشكر الله لقوة فرانسيس. لقد حافظت على نفسها بكرامة وأعطت كل ما لديها لمساعدة الأولاد طوال فترة نشأتهم. ضغط المراقبة كان هناك أيضاً ضغط المراقبة. وكان عليّ ان أحرص على ألا يتملكني هاجس الشك والارتياب، لكنني كنت مقتنعاً بأنني مراقب وبأن ثمة من يتنصت الى مكالماتي الهاتفية. وكان افتراضي ان جهازنا الأمني البريطاني يراقبني فضلاً عن عملاء من بلدان أخرى. وفي حين استطيع القول وأقول ان "لا ندم" الا أنني لن أكون راغباً في أن أعيش توتر تلك الأعوام مجدداً. ولا أريد، لبعض الوقت، ان أعرف ماذا فعلت بي وبالذين أحبهم. لكنني سأحاول بكل طاقتي ان أجعل من هذا تجربة مبدعة. يا الله، أرجوك ساعدني. كان يمكنني وأنا جالس هنا أن أواصل الى ما لا نهاية في غوص غير مجد في أفكاري... ولكن عليّ أن أعود الى قصتي: وصلتنا اشارة كنا ننتظرها. أطلق بن وير في بيروت في ايلول سبتمبر 1985. وتلقفته الاستخبارات الأميركية فوراً ونقلته الى حاملة طائرات للادلاء بما لديه من معلومات قبل أن يُسمح له بلقاء عائلته. كان بن، المحترس كعادته، حذراً في ما قال. وشدد على اعادة جمعه بعائلته بسرعة. وكنت آنذاك في يوكان أرافق رئيس الأساقفة في جولة له في كندا. اندرسون والفرصة الضائعة عندما أُطلق بن وير أعطى معلومات مثيرة للاهتمام. ذكر ان الخاطفين دخلوا الغرفة حيث كان الرهائن محتجزين وأبلغوهم ان واحداً منهم سيطلق. وطلبوا من الرهائن ان يقرروا من يكون الشخص الذي سيطلق. قال بن ان تيري اندرسون يجب ان يغادر لأنه شاب وكان يواجه مشاكل عائلية تستدعي اهتمامه الشخصي. وعندما عاد الخاطفون رفضوا القبول بتيري وأصروا على اطلاق بن وير عوضاً عنه. لماذا فعلوا ذلك؟ هل كانوا يوجهون إشارة الى الكنيسة، الاشارة التي كنت أسعى الى الحصول عليها؟ عندما أطلق الرهينة الثاني في تموز يوليو 1986 وكان رجل دين آخر هو الأب لورنس جنكو، بدا أكيداً ان الخاطفين يستجيبون لجهودنا. وعقد بن وير لدى عودته الى بلاده، مؤتمراً صحافياً في الكنيسة البرسبيتارية في واشنطن. ولم يكن متنبهاً آنذاك الى الجهود التي بذلها قصر لامبث لضمان اطلاقه، كما لم يكن يعلم بالعلاقة الوثيقة بيني وبين فريد ولسون. اتصل بي فريد ولسون مجدداً بعد وقت قصير من المؤتمر الصحافي. وبحثنا هل من المستحسن ان أكشف نشاطاتي من أجل الرهائن أم لا. كان من شأن ذلك ان يكشف رغبتي في الوصول الى السجناء من جماعة الدعوة الاسلامية في الكويت وربما اثارة ضغط عام يوفر لي مساعدة. كما ان من شأن ذلك ان يكون فرصة لشكر الخاطفين على بادرتهم واعطائي طريقاً آخر يمكنني الوصول اليهم عبره. وفي حين كنت أعلم انني على اتصال بالخاطفين، الا انني لم أكن أكيداً البتة هل كنت على اتصال بهم جميعاً، هل كانت هناك مجموعات عدة تعمل في صورة مستقلة الواحدة عن الأخرى، ام أنها منظمة واحدة شاملة؟ كانت الرسائل التي يُزعم انها صادرة عن الخاطفين تأتي من "منظمة الجهاد الاسلامي" أو "الجهاد الاسلامي لتحرير فلسطين" أو "الجهاد الاسلامي". وكان ذلك طريقة متعمدة لاثارة الارتباك. وقررت ان ظهوري العلني يمكن أن يوفر لي قدراً قليلاً من الحماية اذا استطعت ان أجري لقاء مع الخاطفين. أما الجوانب السلبية فكانت واضحة. ضرب واستجواب "اجلس". اخترق صوت الظلام وقَّض هدوئي الهش. جاهدت للجلوس. كم الوقت الآن؟... يفترض ان تكون الثانية أو الثالثة بعد منتصف الليل. "واجه الحائط". حرَّكت جسدي مطيعاً الأمر. "بسرعة". انني متعب ومضطرب وخائف، لكنني مصمم على عدم اظهار خوفي. ضربني شخص على مؤخرة رأسي ثم على ظهري. أردت ان أصرخ سائلاً كيف يمكن أي شخص أن يكون بهذه الفظاظة ليضرب شخصاً مكبلاً معصوباً. لكنني، عوض ذلك، بقيت صامتاً. "ستقول لنا كل شيء"... أعتقد ان هناك ثلاثة أشخاص في الغرفة. أحدهم الرجل ذو البزة والآخر ذو صوت لا أعرفه يوحي بأنه أكبر سناً ويبدو مصاباً بزكام شديد. أما الثالث فهو حارسي. أصابتني ضربة عنيفة وسط ظهري. "لدينا اسئلة كثيرة نوجهها اليك". "ولدي سؤال لكم أيضاً". "ماذا؟" "لماذا تحتجزونني في حين انكم اعطيتموني وعداً بأنكم لن تفعلوا؟" ساد صمت المكان. كان الرجل ذو البزة قريباً من رأسي، فهمس في أذني على مهل: "لا تقل هذا مرة أخرى، مفهوم؟"... ساد الصمت مجدداً. وانتظرت ضربة أخرى. لا شيء. فتح الباب وغادر احدهم الغرفة. ومن جديد أصبحت وحيداً مع حارسي. كانت الدعوة الى الصلاة تنبئني ببداية يوم آخر في الأسر. كان صداها يتردد حول المبنى وداخل الغرفة ويملأ نفسي بالرهبة. كانت الصلوات مسجلة على شريط. وعرفت ذلك لأن الشخص الذي يشغل الجهاز واجه مشاكل تقنية قبل أيام فتخلى عن بث الصلاة... ومن خلال الأصوات التي كنت اسمع رجحت ان الشقة التي احتجز فيها تطل على ساحة عامة. بعد وقت قصير أسمع أصوات الباعة، ثم التلامذة يتحادثون ويتبادلون الضحك أثناء توجههم الى المدرسة. سن مكسورة وقنبلة يدوية طُرِق باب الشقة. هناك صوتان: الرجل المسن المصاب بالزكام وشخص يبدو أصغر سناً من خلال صوته. سمعتهما يضعان أكياساً تحتوي بقالة على الأرجح. أعد حارس القهوة. وكنت استطيع ان أشم رائحتها الغنية والثقيلة... عبر احدهم الغرفة ووقف الى جانبي: "أتريد أن تأكل"؟ "نعم، ارجوك". "خذ". جاهدت للجلوس. ووضع في يدي رغيفاً مليئاً باللبنة... وفيما كنت أقضم الرغيف أحسست بشيء قاس تحت اسناني. ووسط فزعي سمعت وشعرت بأحد أسناني ينكسر. يا للعنة، لقد وضعوا حبات زيتون بنواها في رغيف اللبنة... تحسست الضرر باصبعي، فتبين لي ان أحد أضراسي انكسر جزءين كان احدهما مهتزاً. وفيما أنا أضغط الجزءين وادفعهما سقط احدهما، فرفعت العصابة قليلاً لاتفحصه... وصرخ صوت عبر الغرفة: "ماذا تفعل. غطِ عينيك". أعدت العصابة الى وضعها. تقدم شخص ووقف بقربي: "ماذا تفعل؟" "انكسر سني". "اعطني اياه". سلمته القطعة... "لماذا تنظر. لا نظر. مفهوم؟" "نعم". شد العصابة حول عيني وعاد الى رفاقه. شعرت بيأس لا يوصف بسبب الضرر الذي لحق بسني... قلت لنفسي ان عليّ ألا اتحسر، فمشاكلي صغيرة. وانني قوي داخلياً وسأبقى... تحسست الرغيف بتؤدة واكتشفت حبات زيتون عدة أخرى. انتزعتها وأكملت فطوري. وحاولت ان أجعل اصفادي أكثر راحة واستلقيت. بدا ان حارسي تلقى تعليمات بعدم المبالغة في التحدث إلي. كان يجلس في الجهة المقابلة من الغرفة يحاول ان يقرأ كتيباً للتدريس. وقال بانكليزية متعثرة: "أنا جندي. علي أن أنفذ الأوامر في كل الأوقات". وصرخ عبر الغرفة: "انكليزية جيدة؟" قلت له ان انكليزيته واضحة. "أنا جندي. خذ". رفعت يدي المكبلتين. سقط شيء ما علي بطانيتي... استدرت نحو الحائط ونظرت من تحت عصابتي فرأيت قنبلة يدوية على بطانيتي. التقطتها ورميتها اليه. ضحك قائلا: "ليست حقيقية. أترى؟" فكها وأدركت انها قنبلة للتدريب. ضحك مجدداً. وضحكت بدوري لمزاحه البسيط. في الواقع انه ليس سيئاً. انه لا يضربني أبداً. وواضح انه يخضع لأوامر صارمة يعمل كل ما في وسعه لالتزامها، لكن طيبته الطبيعية واضحة. اعلان التحركات استمرت أفكاري تتنقل بين طفولتي والأحداث التي أدت الى اعتقالي. اذكر انني سافرت الى نيويورك وظهرت في مؤتمر صحافي مع بن وير. وقلت للمراسلين ان رئيس أساقفة كانتربري سمح، بعد التشاور مع الأسقف ألن، بأن أعمل من أجل اطلاق الرهائن الغربيين. ولكن في الوقت نفسه كان يمكنني التشاور مع جماعات عدة، الا أنه كان يجب المحافظة على استقلاليتي كمبعوث للكنيسة. وأوضحت انه تقرر ان عليّ ان أعلن تحركاتي لأوضح للخاطفين ان الكنيسة تقدر المبادرة التي قاموا بها وتمثلت في اطلاق بن وير. وجهت نداء من أجل عقد لقاء مع الخاطفين. ووعدت بأن تبذل الكنيسة كل ما في وسعها من أجل حل مسألة الرهائن. ولم أشر الى الكويت، لكنني كنت آمل في داخلي ان هذا البلد قد يسمح لي بالدخول لزيارة المعتقلين المحتجزين لديه بعد أن يسمع تصريحاتي. لدى عودتي الى لندن، ضاعفت جهودي من أجل الحصول على تأشيرة دخول الى الكويت. وزرت السفير الكويتي في لندن مرات عدة. وفي كل مرة كان يبلغني انني لن أحصل على تأشيرة. وهذا الرفض المتكرر جعلني اتساءل عن مدى الدعم الذي أتلقاه من الحكومتين البريطانية والأميركية. كنت واثقاً من أنه سيُسمح لي بالدخول لو ان احدى الحكومتين دعمت زيارتي لأسباب انسانية. وحيَّرني ما بدا من قلة الدعم لي. وافترضت ببساطة ان أياً من الحكومتين لا ترغب في إثارة غضب بلد منتج للنفط. ومع ان الصحف ذكرت انني لم استطع الحصول على تأشيرة، إلا أنني لم أتحدث عن الأمر كثيراً. وكنت آمل ان أحصل على اذن بالدخول في نهاية الأمر. وفي روما واصل الفاتيكان العمل من أجل قضيتي عبر قنواته الديبلوماسية الخاصة. وبقي المونسنيور سيلفستريني صديقاً حكيماً وطيباً. رسالة من الخاطفين وانطلاقاً مما قاله لي فريد ولسون، زرت السفارة الايرانية وتحدثت الى القائم بالأعمال طالباً منحي تأشيرة لزيارة ايران والتحدث الى المسؤولين فيها. استُقبلت بأدب، ولكن بدا ان شيئاً لم يحدث. ثابرت. وأخيراً تحقق ما انتظرته طويلاً في تشرين الثاني نوفمبر 1985. اذ حمل ميرون بلكايند، رئيس مكتب وكالة "اشوسيتدبرس" في لندن، رسالة الى رئيس الاساقفة في قصر لامبث. وبدا ان الرسالة التي كانت سُلمت قبل يوم الى مكتب ال "اشوسيتدبرس" في بيروت، كُتبت بخط الأب لورنس جنكو وحملت توقيعه وتواقيع تيري اندرسون وديفيد جاكوبسون وتوم ساذرلاند. واستُهلت بالقول ان الرهائن سمعوا عن جهود رئيس الاساقفة من أجلهم وأنهم ممتنون لذلك. وذكرت ان الخاطفين راغبون في تدخل رئيس الأساقفة وان الجهود يجب ان تتركز على الكويت. واختُتمت الرسالة بملاحظة من الخاطفين تفيد ان صبرهم بدأ ينفد، وتهدد بقتل مزيد من الأميركيين أو احتجازهم. وحضنا كاتب الرسالة على الذهاب الى الكويت لمحاولة وضع حد لهذه القضية. تمكنت بسرعة ان اتأكد من صحة التواقيع التي حملتها الرسالة. وكانت هذه نداء خطياً الى رئيس الأساقفة من الرهائن أنفسهم وطلباً من الخاطفين من أجل تدخل قصر لامبث. وأكدت الرسالة اشارات كنت تلقيتها في السابق. بحثت في موضوع الرسالة مع الدكتور رونسي. ووافق على ان أواصل محاولتي لترتيب لقاء مباشر مع الخاطفين. كما وافق على أنه بات ضرورياً الآن ان تدعم الحكومتان الأميركية والبريطانية طلبي للحصول على تأشيرة لدخول الكويت. "سبيرو" الغامض: المفتاح في ايران كنت بين الحين والآخر أعقد اجتماعات مع مسؤولين في السفارة الأميركية في لندن، لكنني لم أحصل على قدر كبير من المعلومات عن الموقف الأميركي من قضية الرهائن. وفي وقت سابق، كان الكولونيل نورث لمح الى أنه قد يكون مفيداً ان التقي شخصاً كان مصدر معلومات وكان يحضر الى لندن احياناً. كان "مصادر المعلومات" هؤلاء يظهرون دائماً بطريقة أو بأخرى. وثمة أفراد كانوا يكتبون لي لاعطائي معلومات يدعون انها ستكون مفيدة. وفي معظم الأحيان لم تكن كذلك. وكان آخرون يطلبون لقائي. وفور مطالبتهم بمبالغ مالية، كما فعل بعضهم، كنت أقطع الحديث معهم، اذ لم تكن لدي نية ان أدفع لمخبرين... كنت واثقاً ان كثيرين من المخبرين استخدموا أسماء مزورة. وبعضهم لم يعط أي اسم. كان ثمة واحد فقط أوصت به جهة يمكن وصفها بقناة "رسمية" أميركية. ذات صباح رن جرس هاتفي. وتحدث إلي رجل قدَّم نفسه تحت اسم "سبيرو". قال: "سيد وايت؟" "نعم". "سأكون في لندن الاسبوع المقبل. وأعتقد بأنك سمعت عني". "نعم". "أود مقابلتك. والصباح الباكر أفضل لي". اتفقنا على ان نلتقي الاسبوع المقبل على فطور في مكان قرب محطة شيرينغ كروس للقطارات. سألته: "كيف سأتعرف اليك؟" اجاب: "لا تهتم. انا اعرفك". وفي اليوم المحدد غادرت المنزل باكراً خلافاً للمعتاد، وانتظرت عند المدخل الرئيسي للمحطة. اقترب مني رجل قصير الشعر يرتدي سترة جلدية ويضع على عينيه نظارتي شمس كبيرتين. حياني بلطف وسرنا معاً الى المطعم. انتقينا طاولة في احدى زوايا القاعة الفارغة وطلبنا فطوراً كاملاً... وبينما كنا نأكل ونشرب حاولت ان اكون فكرة عنه. بدا في صحة جسدية جيدة جداً وكان سلوكه ودياً. لم يكن يتحدث بلكنة اجنبية مع ان بشرته البرونزية والاسم الذي اعطاني اياه دفعاني الى الافتراض انه جاء من قبرص او اليونان. تحدثنا في مواضيع عدة. واوضح ان له معارف كثيرين في الشرق الاوسط وانه زار اميركا مرات عدة. قال :"سأكون سعيداً اذا استطعت ان اساعدك". سألت: "كيف تستطيع ان تساعد؟" اجاب: "لا اعرف. واذا التقينا بين وقت وآخر، ربما وجدنا طريقة". التقينا معاً مرات عدة في المستقبل. وكان ذلك يتم عادة في الصباح الباكر. واكتشفت ان سبيرو يعيش خارج بريطانيا، لكنني لم اعرف أين حتى لقائنا الاخير. وللاسف، لم اسمع منه سوى القليل ما لا اعرف فعلاً، شأنه في ذلك شأن غالبية مصادر المعلومات امثاله. وربما كانت اثمن نصيحة اسداها اليّ ان اركز على ايران التي اكد انها تملك مفتاح اطلاق الرهائن الغربيين. حضني على زيارة طهران واقامة اتصالات على اعلى مستوى... واثناء لقائنا الاخير ذكرت انني مسافر الى مونتي كارلو لتمثيل رئيس الاساقفة في مأتم صديق مشترك هو ديك ستالارد. وفاجأني سبيرو بالقول انه يعيش في جنوبفرنسا وانه سيلتقيني في مطار نيس في طريق عودتي الى بريطانيا. بدا مرتاحاً وسعيداً بينما كنت انهي معاملات سفري الى لندن. جلسنا في بهو المطار وبحثنا في خطة كان يفكر فيها الهدف منها تشجيع النمو الاقتصادي في جنوبلبنان. أُعلنت رحلة طائرتي. ودع احدنا الآخر. وكانت تلك آخر مرة اشاهده فيها. زارني مسؤول كبير من السفارة الاميركية في قصر لامبث بعد وقت قصير من تلقينا الرسالة من بيروت. كررت طلبي المساعدة على تأمين دخولي الى الكويت. وقلت ايضاً إنني انوي السعي من اجل لقاء مع الخاطفين في بيروت وانه اذا كان لدى الحكومة الاميركية اي امور تريد نقلها الى الخاطفين فانني سأفعل ذلك بسرور. قال لي المسؤول ان شخصاً سيتصل بي اذا نجحت في ترتيب زيارة للبنان. غداً سأغادر الى بيروت. وآمل ان اعقد اول لقاء مع الخاطفين. لن اتراجع. انني وحيد وغالباً خائف ومرتبك ازاء تشابك الاحداث. اعترافات خطية "ستكتب كل شيء". "ماذا تعني؟" "ستكتب قصة حياتك". "كل حياتي؟" "نعم. كما لو انك تؤلف كتاباً". كنت جالساً ووجهي الى الحائط. وورائي كان الرجل ذو البزة يعطيني تعليمات: "نريد اسماء اشخاص وتواريخ". "اي نوع من التواريخ؟" "كل مرة زرت فيها الولاياتالمتحدة". هل يمكن ان يكون جدياً؟ الارجح انني لا استطيع ان اتذكر. لقد امضيت حياتي اجول في العالم. والى ذلك، لا اذكر التواريخ. اذكر الاشخاص والاماكن والمناظر والاصوات والروائح ولكن التواريخ؟ ما العمل؟ اولاً، سألتزم الحقيقة. وليس عليّ ان اقول اي شيء من شأنه ان يورط احداً. ثانياً، سأجعل هذه العملية على اكبر قدر ممكن من الصعوبة. "مد يديك". مددت يدي ففكت الاغلال. "اكتب". وُضع في يدي دفتر ابيض وقلم حبر ناشف. "ارفع العصابة قليلاً. واستدر نحو الحائط". فعلت ما قيل لي. نظارتي الخاصة بالقراءة ليس معي. تركتها في الفندق. استطيع الرؤية للكتابة، لكنني سأحاول ان اجعل خطي غير مقروء قدر الامكان: ولدت في بوليغنتون، مقاطعة شيشاير. توقفت. اذا ذكرت ان والدي كان شرطياً، ألا يزيد ذلك شكوكهم في شأني؟ قررت ان لا اذكر ذلك. واصلت الكتابة بيد متشنجة: والدي توماس وليم وايت ولد في ستافوردشاير. والدتي لينا بياتريس هاردي ولدت في شيشاير. كان الرجل ذو البزة يقف ورائي. "غط عينيك". انزلت العصابة. "ما هذا؟" أُخذ الدفتر من يدي. "انها قصة حياتي". "ما هذه الكتابة؟" صاح باشمئزاز: "لماذا تكتب بهذه الطريقة"؟ اجبت بجزء من الحقيقة: "لا احمل نظارات القراءة". "لماذا"؟ "لم اجلبها معي من الفندق". "اكتب طريقة افضل". أعاد اليّ الدفتر وتابعت. لم تكن لديّ نية ان اكتب بطريقة اوضح. "دوّن اسم جدك وتاريخ ميلاده". كيف يمكنني ان اتذكر تاريخ ميلاد جدي؟ يمكنني ان احسبه في صورة تقريبية، ولكن اذا فعلت فيجب ان اكون قادراً على تذكر ما كتبت. حددت تاريخاً قبل يوم وقبل شهر من تاريخ ميلادي في القرن الماضي. وهذا سيجعل تذكره اسهل. "كتابتك ليست جيدة... عليك ان تكتب بطريقة افضل"... انتزع الدفتر مني قائلاً: "توقف. اعطني اياه. يجب ان تكتب بحرف اكبر. مفهوم"؟ بدأت الكتابة وملأت صفحات عدة بتفاصيل لا فائدة منها. ضجر الشخص الذي كان يستجوبني فتوجه الى الطرف الآخر من الغرفة لمشاهدة التلفزيون. وبعد نحو ساعة عاد مجدداً: "اعطني". سلمته الدفتر. "اعطني". سلمته القلم. استلقيت مديراً وجهي نحو الحائط. تحدث الى حارسي ثم غادر. ماذا سيكون رد فعله اذا تمكن من قراءة كتابتي "المخربشة" غير المفهومة. افترض انه سيغضب. عادت ذاكرتي الى سؤاله عن الزيارات للولايات المتحدة. اقدّر شكوكه. كان علي ان اكون قادراً بطريقة ما على اقناعه بعدم التخوف مني. ببساطة، كان الوضع الحقيقي انني واقع بين مكائد جماعات في اميركا و"حزب الله". والآن يجب عليّ ان اعاني مصير الشخص الواقع في الوسط. فكرت في زوجتي فرانسيس اللطيفة المصممة الشديدة الحساسية. انها على الارجح الشخص الاشد اخلاصاً والاجدر بالثقة بين الذين عرفتهم... تركت نفسي انجرف في محيط الماضي، الى النوم، الى السكينة، الى الاحلام التي تداوي وتقوّي. استيقظت فجأة. كان سلاسلي ملتفة وغير مريحة وعصابة عيني منحرفة. كان هناك صراخ. ماذا باسم الله؟ انتزعت نفسي من النوم الى عالم اليقظة. كان هناك اناس يصرخون ويركضون وينشدون. تحدث شخص الى حارسي. انها تظاهرة في الساحة خارج المبنى... لو كنت فقط اجيد العربية. انبأني رد فعل حراسي بأنهم غير مرتاحين. استلقيت جاهلاً، وحيداً، نصف مستيقظ وسط عالم اعرف القليل عنه. غاب سبيرو وازداد غموضاً سبيرو الغامض الذي روى تيري وايت في مذكراته انه نصحه بسلوك طريق طهران هو شخصية ذات ملامح "جيمس بوندية" على حد قول احد عارفيه. كان يمكن ان يبقى ايان ستيوارت سبيرو في الظل لو لم يعثر في تشرين الثاني نوفمبر 1992 في سان دييغو كاليفورنيا على جثث زوجته الثانية وثلاثة من اولادهما ولاحقاً على جثته. وذكر آنذاك ان سبيرو 46 عاماً قضى منتحراً بمادة السيانيد بعدما أقدم على قتل عائلته، لكن روايات اخرى تحدثت عن عملية تصفية للعائلة بسبب ادواره. وكشفت شخصيات كانت على علاقة به انه يهودي خسر امواله في بريطانيا في 1974 وترك زوجته الاولى وسافر الى بيروت في 1978 منتحلاً صفة تاجر بريطاني يوناني الاصل وعمل كمهرب اسلحة وعميل لوكالتي الاستخبارات الاميركية والبريطانية. وذكر ايضاً ان زوجته الثانية عملت ممرضة في الجامعة الاميركية في بيروت وتعرفت الى الدكتور عدنان مروه وان سبيرو مهد للموعد الاول بين مروه ووايت. كما تردد آنذاك انه كان يعمل لحساب الكولونيل اوليفر نورث. ولم يكن يتردد في انفاق مليون دولار في اسبوع واحد وفي الدخول في "مغامرات بلا حدود". وعلى رغم سعي كثيرين الى كشف اسرار سبيرو فإن قصته بقيت غامضة.