يمكن وصف المرحلة التي تعيشها الأزمة السياسية في اليمن حالياً، بعد أن تجاوزت مرحلة الخطر نظرياً، بأنها مرحلة اختلاط الأوراق، سواء أوراق الأزمة في مختلف جوانبها وتطوراتها، أو أوراق طرفي الخلاف وأطراف الائتلاف، أو أوراق القوى السياسية المتحركة على الساحة. وتظهر صورة اختلاط الأوراق في ملامح، منها تعويم عناصر الخلاف والوفاق بين طرفيه الرئيسيين، المؤتمرالشعبي العام والحزب الاشتراكي، وتوقف الحوار بينهما لأسباب غير معلنة وأجل غير محدد، وعدم قدرة أحزاب المعارضة على تحديد مواقف ثابتة من الأزمة وأطرافها، ما عدا التكتل الوطني للمعارضة، وضبابية مستقبل الأزمة، خصوصاً ما يتعلق بمستقبل الائتلاف بين أطرافه الثلاثة. ويلاحظ أن البيانين اللذين صدر أولهما عن دورة اللجنة العامة أعلى هيئات القيادة للمؤتمر الشعبي العام والثاني عن دورة اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي حددا العناصر التي يمكن اعتبارها نقط اللقاء أو التوافق النظري المبدئي بين الحزبين. ويتمثل أبرزها في التمسك بالوحدة والديموقراطية، وتعزيز تجربة الائتلاف الحكومي، ونبذ العنف واعتبار الحوار وسيلة للحل، ودعوة القوى السياسية الى تحمل مسؤولياتها حيال الأزمة، وتأكيد إزالة ما تم استحداثه من النقط العسكرية والتحركات الأخرى في وحدات القوات المسلحة بوصفها تستهدف تصعيد الأزمة والزجّ بالجيش في غمارها، وتقدير جهود الوساطة العربية ودوافعها وغاياتها. إلا أن الخلاف الأساسي ظهر، من خلال البيانين، في نقطتين: الأولى، تمسك المؤتمر بمرجعية المؤسسات الشرعية والدستورية في حل الخلافات "وأن أي اتفاق خارجها يعتبر تهميشاً للشرعية والديموقراطية، والتفافاً عليها". بينما يرى الاشتراكي ان هذا الاسلوب "هو إفراغ للديموقراطية من محتواها، باسم الغالبية أو الأكثرية العددية". الثانية، دعوة المؤتمر الاشتراكي الى استئناف الحوار بدءاً بلقاء بين الأمينين العامين ورئيس الاصلاح، وان الحوار هو الوسيلة المثلى للحل. ويرى الاشتراكي أن حواره مع المؤتمر لم يحقق نتائج على طريق الوفاق في الفترة الماضية، و"أن الحوار وصل الى مأزق حقيقي". ولكنه يؤكد أسلوب الحوار من حيث المبدأ ويدعو كل القوى السياسية والوطنية "في الائتلاف وغيره الى حوار واسع وصريح، يؤمّن اليمن من التمزق..."، على أساس النقط ال 18 التي طرحها وأية نقط أو أفكار أخرى تقترحها القوى السياسية موضوعاً للحوار، و"أن الخروج من الأزمة يتمثل في اتفاق سياسي ... بعيداً عن الاحتواء والالغاء". استنفاد الأوراق وعلى رغم أن بيان اللجنة المركزية كان شديد اللهجة نسبياً، إلا أنه لم يضف شروطاً ولم يضع قيوداً على الحوار للتوصل الى أسلوب للمعالجة وصيغة للوفاق. كما ان بيان اللجنة العامة المكتب السياسي للمؤتمر لم يتضمن جديداً في هذا الجانب. ويرى قيادي في أحد أحزاب المعارضة ان البيانين أكدا أن الحزبين استنفدا كل أوراقهما في ما يتعلق بالحوار وأسلوب المعالجة. وأضاف في تصريح ل "الوسط" أن هذا مؤشر الى أن انصياع الجانبين للحل على أساس أقصى الممكن أصبح وشيكاً. في هذه الناحية يظهر أن الفارق بين الحزبين أمران: الأول هو أن قيادة المؤتمر، ومعها قيادة حزب الاصلاح، تستعجل الحل ممثلاً في عودة نائب رئيس مجلس الرئاسة الى صنعاء لأداء اليمين الدستورية وممارسة مهامه. ولكن الأمين العام للاشتراكي يتعامل مع الأزمة، بما فيها عودته الى صنعاء خصوصاً، بنفس طويل وثابت لم تستطع مبادرات مجلس النواب ولا خيارات المؤتمر ولا محاولات الوساطة أن تحرك موقفه قيد أنملة. والأمر الآخر هو ان بيان اللجنة العامة للمؤتمر أعلن تأييده المطلق لمبادرة مجلس النواب، ممثلة في بيانه الذي أصدره في الخامس من الشهر الجاري كمنهج للمجلس في اتجاه تحركه للمعالجة. بينما ظهر الاشتراكي شبه متحفظ على بعض مضامين هذه المبادرة ولم يعطها بيان لجنته المركزية اهتماماً يذكر. المدخل الرئيسي للحل ومن خلال ما مرت به الأزمة من تطورات وما تم طرحه من مبادرات للمعالجة، تترسخ الحقيقة الأولى في الأزمة، وهي أن جدوى المعالجة، بكل ما تتضمنه من عناصر ومقترحات، مرهونة بموقف الأمين العام للاشتراكي، وفي ضوء كلمته البيض، في افتتاح الدورة 31 الأخيرة للجنة المركزية والبيان الصادر عنها، يتضح موقفه الآن أكثر من أي وقت مضى، بحسب ما قاله سياسيون قابلوا البيض في عدن قبل وبعد اجتماعات اللجنة المركزية. وقال أحدهم ل "الوسط" وكان مرافقاً لوفود رسمية عربية استقبلها نائب رئيس مجلس الرئاسة "ان شريكي الاشتراكي في الائتلاف المؤتمر والاصلاح مطالبان اليوم أكثر من الماضي بدراسة هذا الموقف بعمق، باعتباره أصبح المدخل الرئيسي للمعالجة". سياسة النفس الطويل وحدد هؤلاء السياسيون، في مجمل تصريحاتهم ل "الوسط"، رؤيتهم للموقف الحالي للأمين العام للاشتراكي في ملاحظات، منها: - ان موقفه الآن على صعيد الحزب أقوى منه في أي وقت مضى، منذ اعلان الوحدة على الأخص. ويلاحظ ان بيان اللجنة المركزية في دورتها الأخيرة جاء متطابقاً مع كلمته في افتتاح الدورة تطابقاً دقيقاً في كل مضامينه وأبعاده وأهدافه. وفي الاطار العام الذي وضعه لمناقشات اللجنة المركزية، وهو: "عليكم أن تبحثوا بجدية في حالين إطارين: منع الانفصال، ورفض الالحاق والالغاء". ان ما يمكن وصفه بسياسة "النفَس الطويل" في موقفه وأسلوبه سبق أن علله بشكل غير مباشر أكثر من مرة، بما مفاده أن الاستعجال في اعلان الوحدة كان السبب الأول في التراكمات التي أدت الى الأزمة الراهنة، وبالتالي فإن معالجة الخطأ الآن لا بد أن تأخذ مداها كاملاً في دون استعجال كما يرى. - ان فترة اعتكافه منذ آب اغسطس الماضي يمكن اعتبارها أشبه بفترة استفتاء سواء تعمدها أم لا على موقفه عموماً، بكل ما طرحه من أفكار وآراء ومناقشات، سواء على مستوى الحزب أو القوى السياسية أو الرأي العام. واستطاع أن يكسب كما ترى هذه المصادر قدراً جيداً من التأييد بالنسبة الى الماضي، وفي الفترة الأخيرة خصوصاً. ودللت المصادر على هذا بما يستقبله منزل الأمين العام للاشتراكي، في عدن، من وفود وزوار واتصالات من الداخل والخارج، وبصفة أصبحت مستمرة حتى صارت مدينة عدن الآن، ومنذ أكثر من شهر، تعيش أزمة في غرف الفنادق بكل درجاتها ومستوياتها بصورة لم تحدث في الماضي. - انه ينتظر توافر الضمانات الكافية للقبول بأطروحات والالتزام بها من جانب شريكيه في الائتلاف، خصوصاً النسبة الثابتة لمشاركة حزبه في السلطة بشكل يتناسب مع الأساس الذي قامت عليه الوحدة. وتأخذ هذه المصادر في اعتبارها دور الفريق علي عبدالله صالح رئيس مجلس الرئاسة، في دفع المبادرات الوطنية التي تساعد على التقارب بين الحزبين، بما فيها الوفود والزوار، خصوصاً بعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها نجلا البيض وراح ضحيتها ابن شقيقته كامل الحامد، ثم بعد اطلاق النار على منزل الدكتور عدنان البيض نجل الأمين العام للاشتراكي. - تأكيد التمسك بالوحدة والديموقراطية، خصوصاً في الفترة الأخيرة، حيث ركزت تصريحات قادة الاشتراكي، بدءاً بأمينه العام، على إيمان الحزب وتمسكه بالوحدة والديموقراطية واعتبار الوحدة قضيته التي لا يساوم عليها ورفض أية خيارات أخرى. وكان لهذه التصريحات حينها أهمية بالغة واهتمام مماثل، لدى كل الأوساط المحلية، نظراً الى أنها جاءت في وقت بدأت تظهر فيه اشاعات بأن الاشتراكي يطرح خيار الفيديرالية أو الكونفيديرالية بديلاً عن الوحدة. وتزامنت هذه الاشاعات مع استحداث مظاهر تشطيرية، مثل نقط التفتيش العسكرية في بعض المناطق التي كانت فيها بين الشطرين قبل الوحدة بالذات في ذمار ودمت والضالع ولحج، بحسب ما أوضحته وزارتا الدفاع والداخلية أخيراً، اضافة الى تحرك وحدات من القوات المسلحة نحو مواقع عسكرية للتمركز فيها أو تعزيزها. وما رافق كل هذا من تهم متبادلة بين صحف الحزبين. نقط التفتيش استطاعت تصريحات القادة أن تنفي الاشاعات. ولكنها لم تستطع وحدها أن تنفي أو تزيل ما تم استحداثه من نقط وتحركات على الصعيد العسكري. ومن هنا جاءت مبادرة مجلس النواب في الوقت المناسب. ولقي البيان الذي أصدره تأييداً من قبل كثير من الأحزاب والتنظيمات السياسية والمنظمات المحلية الأخرى. وعلى رغم ان الحزب الاشتراكي أبدى تحفظاً جزئياً على بعض مضامين البيان، إلا أنه أيد ما يتعلق منه بالذات بإزالة النقط والتحركات العسكرية التي تمت أثناء الأزمة. وكذا ما يخص تقديم المتهمين بالاغتيالات والتفجيرات وقطع الطريق الى المحاكمة وتعقب الفارين منهم. ولقي موضوع النقط العسكرية اهتماماً ملفتاً للنظر، لدى القادة والمختصين في الدولة والحكومة.. إذ ازدحمت القرارات والتوجيهات واللجان الخاصة بإزالة كل نقط التفتيش ومظاهر التوتر العسكري التي استحدثت أثناء الأزمة وإعادة الأوضاع الى ما كانت عليه قبلها. ومن هذه الاجراءات مثلاً: شكل مجلس الرئاسة لجنة برئاسة العميد مجاهد أبو شوارب، نائب رئيس الوزراء، وعضوية السيد جارالله عمر وزير الثقافة، والعقيد أحمد قرحش رئيس الحزب السبتمبري. رسالة وجهها رئيس مجلس الرئاسة الى كل من وزير الدفاع هيثم قاسم طاهر ورئيس هيئة الأركان العامة عبدالملك السياني. تعميم وزارة الدفاع لتوجيهات رئيس مجلس الرئاسة على كل الوحدات والأسلحة في القوات المسلحة. شكل مجلس النواب ثلاث لجان فرعية للقيام بزيارات ميدانية اضافة الى لجان ومندوبي وزارتي الدفاع والداخلية، وكلها تهدف الى إزالة كل نقط التفتيش وطوارئ التحركات العسكرية خلال الأزمة. من جانب آخر جاء بيان مجلس الوزراء، في نهاية اجتماعاته التي عقدها في عدن 10 - 12 الشهر الجاري مواكباً لتطورات الأزمة للمرة الأولى بهذه الصورة، إذ نص في بدايتة على تشكيل لجنة برئاسة رئيس الوزراء المهندس حيدر أبو بكر العطاس وعضوية نواب رئيس الوزراء الأربعة لمتابعة تطورات الأزمة واتخاذ الاجراءات اللازمة للمعالجة. وحدد البيان مهام اللجنة، في الاطار العام لاختصاصات الحكومة، عن طريق لجان أو فرقاء عمل، من الوزراء المعنيين، في شكل يمكن تركيزه في جوانب عامة أربعة: 1- تكليف وزراء الدفاع والداخلية والاعلام إزالة نقط التفتيش وإعادة الوحدات والأسلحة والمواقع العسكرية الى ما كانت عليه قبل الازمة، وايقاف الحملات المتبادلة في الاعلام والصحافة. 2 - تكليف كل من وزير الداخلية والنائب العام ورئيس الجهاز المركزي للأمن السياسي بسرعة تجهيز ملفات التحقيق مع المتهمين في الاغتيالات والتفجيرات وقطع الطريق والتهريب، لتقديمهم الى المحاكمة، وتعقب الفارين منهم، والتصدي لأية ظواهر جديدة مخلة بالأمن. 3 - تحقيق الانضباط الوظيفي في اجهزة الدولة وحل مشاكل المواطنين والتصدي لمظاهر التسيب والفساد. 4 - العمل على التعاون مع مجلس النواب في تهيئة الاجواء المناسبة للحوار بين اطراف الائتلاف وصولاً الى حل للأزمة. ومن حصيلة الاتصالات والحوارات التي اجرتها "الوسط" يمكن القول ان هذه المبادرات والاجتماعات التي تتم لمعالجة الازمة هي بداية الانفراج، كما انها في مجملها تنطلق من دوافع وأبعاد يتبلور ابرزها في ثلاثة اطر عامة: اولها: افرزت تطورات الازمة افكاراً وقناعات اصبحت واضحة لدى معظم اطراف وقيادات الائتلاف، ومنها اعادة النظر في اسلوب المعالجة الذي تركز في الماضي عبر محاولات التوفيق بين قيادتي الحزبين: المؤتمر والاشتراكي. وهذا الاسلوب استنفد الوقت والخيارات في الحوار واللجان والصيغ، من دون جدوى. وهنا احس الجميع بوجوب توسيع المحاولات عبر كل القنوات والهيئات، خصوصاً السلطتين التشريعية والتنفيذية لتكثيف العمل وتنويع الاساليب من جهة، ثم لاستخدام وسائل هي اهداف في حد ذاتها، مثل تشغيل اجهزة الدولة وتصحيح اوضاعها. ثانيها: وبحسب ما قال مستشار في رئاسة الوزراء، لپ"الوسط"، احست الحكومة بأن بيان مجلس النواب جاء بمثابة جرس انذار متعدد الاشارات، وأهمها الاشارة الى تهميش دور الحكومة في المعالجة، وان مجلس النواب ربما اضطر في ظل الازمة ومواجهتها الى ان يتجاوز مهمته في التشريع والرقابة الى الجانب السياسي. وربما التنفيذي الموقت، عن طريق اللجان المتخصصة فيه 18 لجنة او التي يمكن ان يشكلها. وأشار المصدر الى ما تضمنته رسالة رئيس الوزراء الموجهة الى مجلس النواب "انه كان من الافضل ان تكون محاولتكم الثانية الحالية استمراراً للأولى حتى لا تفسر بقصد او غير قصد في مجرى آخر غير ما توخته المبادرة الأولى، في روحها واتجاهاتها بحثاً عن الحقيقة". وثالثها: استفادت المحاولة الاخيرة للمعالجة من الماضي، بحسب المصدر. فهناك اسس او اهداف يجب ان تأخذها هذه المحاولة في الاعتبار، ومنها تأكيد التوازن في معادلة العلاقة بين اطراف الخلاف وملء الفراغ السياسي والاداري والامني. واختيار مدى امكان اجراء اصلاحات في اجهزة وأوضاع الدولة والتحقيق مع المتهمين في الاغتيالات والتفجيرات وتقديمهم الى المحاكمة. المبادرة المفاجأة ويجدر التوقف قليلاً امام ملامح تشير الى ان اللجنة الوزارية تعكف على اعداد مبادرة ربما يشكّل اعلانها مفاجأة في حل الازمة، من نقطة الخلاف بين قيادتي المؤتمر والاشتراكي، وبالذات بين امينيهما العامين، تسفر عن موافقة الامين العام للاشتراكي على انهاء اعتكافه والعودة الى صنعاء، بعد لقاء بين الامينين العامين، بحضور رئيس حزب الاصلاح الشيخ عبدالله الاحمر واللجنة الوزارية. وهذا ملخص ما ادلت به الى "الوسط" مصادر مطلعة في الحكومة، من دون ان تتطرق الى تفاصيل عن اسس اللقاء. من ناحية اخرى افاد "الوسط" نائب في لجنة تقصي الحقائق انه يتوقع عودة البيض الى صنعاء قبل نهاية الشهر الجاري، وأضاف ان اللجنة الوزارية تبحث في مشروعها لحل الازمة في عدن بهدف التشاور مع البيض، بدعم من اعضاء المكتب السياسي للاشتراكي، وأكد المصدر "ان عدداً من قادة الاحزاب والشخصيات السياسية يتواجد في عدن للدفع في هذا الاتجاه". وان الحوار بين الحزبين لم يعد متوقفاً بتوقف لجنته الثلاثية، بعد ان انتقل بالفعل الى اللجنة الوزارية. وتوقع المصدر للجنة "ان تختصر الوقت لتحقيق نتائج ايجابية ستظهر قريباً". وأخيراً فان الحل لا بد ان يكون بحجم الازمة في مشروع متعدد الجوانب والاجراءات، تتوافر فيه مساحة من الوفاق كافية لقيامه عليها، ومسافة زمنية لبنائه تتجاوز مسافة الازمة، الا ان هذه الملامح تمثل بداية حقيقية للحل، بوصفها بدأت تغلب نقط الحوار السياسي على نقط التفتيش العسكري.