سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
كبير رجال المخابرات السوفياتية يروي ذكرياته للمرة الاولى في الصحافة العالمية - الجنرال كيربيشنكو ل"الوسط": الروس مسؤولون عن قيام إسرائيل !. المخابرات الروسية ستتعاون مع المخابرات الغربية لمنع الحرب في الشرق الأوسط الاخيرة
هذه هي الحلقة الخامسة والأخيرة من الحوار الذي أجرته "الوسط" مع الجنرال فاديم اليكسييفيتش كيربيشنكو، كبير رجال المخابرات السوفياتية والروسية في الشرق الأوسط. ويتوقع الجنرال في هذه الحلقة قيام تعاون أكبر في المستقبل بين المخابرات الروسية والمخابرات الأميركية والغربية، خصوصا في مجال منع انتشار الأسلحة النووية أو أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط، كما يعترف بأن روسيا هي المسؤولة الأولى عن قيام إسرائيل وأن الصهيونية هي فكرة يهودية - روسية. وهذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها كيربيشنكو إلى أية مطبوعة عربية أو روسية أو أجنبية. وقد أمضى كيربيشنكو سنوات طويلة في مصر والعالم العربي قبل أن يصبح عام 1974 ولمدة 18 عاما النائب الأول لرئيس المخابرات الخارجية في الاتحاد السوفياتي سابقا ومسؤولا خلال هذه الفترة عن نشاط هذه المخابرات في الشرق الأوسط. وهو يشغل حاليا منصب كبير مستشاري يفغيني بريماكوف مدير جهاز المخابرات الخارجية في روسيا. وفي ما يأتي الحلقة الأخيرة من الحوار: دامت الحرب الباردة - وهي استمرار للحرب العالمية الثانية وشملت عددا كبيرا من دول العالم - أربعة عقود من الزمن، أي فترة أطول كثيرا كما توقع لها مخططوها، وأطول كثيرا أيضا مما كانت تأمل فيه صناعات الأسلحة العالمية. ويمكن القول أن كل صراع عالمي مهما كان صغيرا تحول إلى وجه من وجوه تلك الحرب الباردة. ومن الصناعات التي شهدت نموا كبيرا إبان فترة الحرب الباردة المخابرات الأجنبية. إذ أن كل دولة "أنتجت" وكالات مخابرات خاصة مختلفة تبعا لثقافتها واحتياجاتها. إلا أن المقارنة بين الوكالتين الرئيسيتين في المعسكرين - أي المخابرات المركزية الأميركية سي. آي. ايه. والمخابرات السوفياتية كي. جي. بي. - أمر لا مفر منه. كانت "سي آي. ايه" تجند الشباب والفتيات من خلفية واسعة. وكان معظم المتقدمين للعمل فيها لا يفكرون بتقديم طلباتهم إليها بدلا من العمل مثلا مع شركة كومبيوتر، إلا حين يكملون دراستهم الجامعية. وبعد عملية انتقاء دقيقة كانوا يخضعون لفترة قصيرة من التدريب. أما معظم العاملين في "كي. جي. بي." فكانوا يخضعون، مثل الديبلوماسيين السوفيات، للتدريب في معاهد خاصة يدرسون فيها لغات البلدان الأجنبية وثقافاتها وتاريخها. وكان على جميع العاملين في مجالي المخابرات والديبلوماسية في الخارج أن يتكلموا لغتين أجنبيتين على الأقل بطلاقة. ولم يكن يستثنى من ذلك إلا الفنيون. كما كان تدريب ضباط مخابرات يستغرق سبع سنوات. وكانت المخابرات الخارجية السوفياتية، وهي نتاج مجتمع بيروقراطي خاضع لقيود صارمة جدا، أكثر حذرا على الدوام من "سي. آي. أي." كما أن موازنتها أقل من ربع موازنة "سي. آي. ايه" وكان الطرفان يمارسان الإرهاب و"العمل المباشر" أي القتل. ويقول وليام كولبي، الذي أشرف على "عملية فينكس" عملية العنقاء لحساب "سي. آي. ايه." في فيتنام أنها كانت "إحدى أكبر العمليات الإرهابية في التاريخ". وبانسحاب أميركا من فيتنام عام 1973 تخلت "سي. آي. ايه." عن الإرهاب مع أن وليام كيسي الذي كان في طبيعته المتهورة ما يكفي لاستبعاده من العمل مع المخابرات السوفياتية الخارجية أعاد العمل ببعض العناصر الإرهابية في أميركا الوسطى في الثمانينات، أما "كي. جي. بي." فقد تخلت رسميا عن العنف بمرسوم داخلي عام 1972، مع أنها قامت بمحاولة فاشلة لدس السم للرئيس الأفغاني عام 1978. وحين بدأت بتسجيل هذه اللقاءات مع الجنرال فاديم كيربيشنكو قلت له أنني سبق أن قابلت أربعة من المدراء السابقين لوكالة المخابرات المركزية الأميركية وهم كولبي وريتشارد هيلمز وستانفيلد تيرنر ووليام وبستر. ولم يكن بينهم أي ضابط مخابرات محترف إلا واحد هو كولبي. أما الآخرون، مثل الرئيس جورج بوش الذي كان رئيسا للوكالة لمدة عام، فقد تسلموا مناصبهم بموجب تعيينات سياسية. قال لي كيربيشنكو ومساعدوه أن المخابرات الخارجية السوفياتية لها سجل مماثل. إذ أن اثنين فقط من مدرائها في العقود الأخيرة كانا محترفين. أما الرئيس الحالي لجهاز المخابرات الروسية الخارجية، وهو يفغيني بريماكوف فقد كان رئيس مكتب صحيفة برافدا في الشرق الأوسط قبل أن يصبح مستشارا للرئيس ميخائيل غورباتشوف لشؤون المنطقة. وبريماكوف، مثل كيربيشنكو الذي يعمل مستشارا له الآن، مستشرق، وهو يصغر كيربيشنكو الذي يبلغ السبعين من عمره سنوات قليلة. ويتحدث كيربيشنكو عن بريماكوف فيقول "أعرف بريماكوف منذ عام 1948. كنا معا في معهد الدراسات الشرقية. وقد أصر على أن أظل كبير مستشاريه وأنا مسرور جدا لهذا العرض منه. إننا بحاجة الآن إلى قاعدة قانونية جديدة لأننا منظمة جديدة، ولهذا بدأنا بإعداد ميثاق جديد لجهاز المخابرات الخارجية، كما أننا شكلنا رابطة للمخضرمين ممن يعملون في المخابرات. فنحن، مثل "سي. آي. ايه." نحتاج الى إعطاء صورة افضل عنا لأننا مرتبطون بالبوليس في أذهان الجماهير. ونحن نعرف أن رجال الشرطة لا يتمتعون بالشعبية ولا يحظى عملهم باحترام كبير بين الناس. أما الآن فأصبح لدينا مكتب إعلامي، وأنا أعتزم الالتقاء بالصحافيين بصورة منتظمة. وعلى سبيل المثال تحدثت هذا الأسبوع للمرة الأولى أمام الملأ في معهد العلاقات الخارجية حيث قدمني عريف الحفل بصفتي أرفع ضابط في مخابرات روسيا". وبعدئذ وضع الجنرال يديه على شكل هرم وضحك ثم قال: "أعتقد أن من الواجب أن يكون رأس الهرم واضحا للعيان، ألا توافق معي؟". ثم سألته كيف يتم اختيار ضباط المخابرات السوفياتية والروسية لمختلف مناطق العالم وما هو التدريب اللغوي الذي يلزم لهم؟ قال: "تتخرج الكوادر أولا من المعاهد. ونحن نستخدم أولئك الذين لديهم بعض التجربة في الحياة وتكون أعمارهم ما بين 27 و 30 سنة، وأدوا الخدمة العسكرية. وغالبا ما يبدأ المرء في تعلم اللغة الأجنبية الأساسية بعد الدراسة الثانوية أي في سن السابعة عشر أو الثامنة عشر. وبعدئذ يلتحق بالقوات المسلحة ثم يدخل معهد التأهيل في الحادية والعشرين أو الثانية والعشرين. أما بالنسبة للغات الشرقية فلا بد من الشروع في تعلمها في وقت أبكر لأنها تحتاج إلى وقت أطول. وبالنسبة الي فقد بدأت في تعلم العربية والفرنسية في الخامسة والعشرين، بينما بدأت زوجتي التي كانت في المعهد نفسه في سن السابعة عشرة، ولهذا كان تعلم اللغتين أسهل عليها. كذلك بدأ ابني في السابعة عشرة. وقد حاولنا أن نعطي أطفالنا ميزة عالمية بدراسة اللغات الأجنبية وبصفة أساسية الإنكليزية والفرنسية والعربية. فقبل الثورة لم تكن المدارس تعلم أية لغة أجنبية، باستثناء الألمانية - اللهم إلا إذا كانت المدرسة خاصة في موسكو أو بطرسبورغ. ويجب على كل شخص أن يكون طليقا في لغتين أجنبيتين. أما الفنيون فكانوا يكتفون بلغة واحدة. وقد يقول أحد المدربين إننا بحاجة إلى متطوعين لدراسة هذه اللغة أو تلك، ولكن العادة هي أن تختار أنت بنفسك اللغة التي تريد دراستها. إذ من غير المحتمل أن تدرس لغة إذا لم تكن تحب تلك اللغة وتريد تعلمها. ولكن في عام 1949 مثلا أقيمت جمهورية الصين الشيوعية وكانت علاقاتنا معها ممتازة. ولهذا شجع معهد الدراسات الشرقية الكثيرين على دراسة اللغة الصينية". تعاون أجهزة المخابرات عندها قلت له أن معظم السياسيين الأميركيين لا يعرفون إلا النزر اليسير عن الخلفية التاريخية التي تساعدهم على فهم السياسات الخارجية، ولهذا فإنني أفترض أن الزعماء السوفيات ليسوا في وضع أفضل من الآخرين؟ رد كيربيشنكو بقوله: "سبق لي أن التقيت كلا من خروتشوف وأدروبوف وكوسيغين وبودغورني مرات عديدة، وعلى الأغلب لاطلاعهم على قضايا الشرق الأوسط وأفريقيا وشؤونهما. وأستطيع القول أن أندروبوف كان على قسط ممتاز من التعليم والذكاء وان معرفته كانت أشبه بموسوعة. ومن بين جميع الزعماء السوفيات كان أندروبوف الديبلوماسي والسياسي المحترف الوحيد. إذ كان يعرف الأوضاع الدولية جيدا. وكانت أية محادثة معه غنية ومثيرة للاهتمام الكبير. كما أن أسئلته كانت صعبة وغير متوقعة في أغلب الأحيان. وكنت أحاول دائما أن أجهز نفسي لما يمكن أن يطرحه من أسئلة، ولكنه كان يفاجئني دائما ببعض أسئلته. كذلك كان كوسيغين من صناع القرارات المثيرين للاهتمام. إذ انه رافق الرئيس الراحل عبد الناصر في جولة في مختلف أرجاء الاتحاد السوفياتي كما أنه حضر جنازته. وكان يشك دائما، مثلي، في أن الرئيس الراحل السادات يفضل إقامة روابط مع الغرب على إقامة روابط مع الاتحاد السوفياتي. وكان أندروبوف وكوسيغين يعاملان ضباط المخابرات باحترام كبير. إذ كانا يوازنان دائما المعلومات التي يحصلان عليها من سفاراتنا ومن العسكريين بما يحصلان عليه من معلومات منا. ومن الطبيعي أن يحاول كل شخص أن يثني على جهازه ودائرته. ولكن لا بد لي من القول أنني حظيت ببعض المزايا في عملي لأن مجال جهاز المخابرات لم يكن يقتصر على جهة دون أخرى. إذ أن من الصعب على السفراء والمستشارين العسكريين أن يعطوا آراء موضوعية لأنهم يفتقرون إلى الاستقلالية ويميلون إلى جعل الحقائق تلائم سياستهم. أما نحن، في جهاز المخابرات، فأشبه ما نكون بالصحافيين الذين يعملون لحسابهم، أي أننا نعمل خارج نطاق المؤسسة التي ينتمي إليها الوزراء ورؤساء التحرير بشكل عام". وسألت الجنرال إذا كانت التفجيرات التي شهدها العالم في الفترة الأخيرة، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، أدت إلى إحداث تغيير في أجهزة المخابرات الروسية وفي طبيعة تفكيرها فأجاب: "إلى درجة ما. أعتقد أن أجهزة المخابرات ستظل قائمة. إذ ليس هناك أصدقاء دائمون، وانما هناك مصالح وطنية. فالمخابرات الأميركية والغربية ستظل تهتم دائما بروسيا ودول الاتحاد السوفياتي السابق وهذا أمر طبيعي. ومن الواضح أن الانتشار النووي، بما في ذلك نقل التكنولوجيا، سيصبح هدفا جديدا للمخابرات. وهناك أيضا أرضية للتعاون. فكل الكتب التي وضعت عن "كي. جي. بي." كانت من نتائج الحرب الباردة. وهي بشكل أو بآخر دعاية، ولهذا فهي لا تخبرك شيئا عن مستقبل المخابرات الروسية. ولكنني واثق من أن المخابرات بشكل عام ستصبح أكثر إنسانية وأكثر "تأديبا". لن تلجأ المخابرات إلى الأساليب الفظة في المستقبل. وأنا طبعا اتخذت هنا عن مخابرات الدول الكبرى ولا أقصد المخابرات الإسرائيلية والصينية. فتلك المخابرات تنتمي إلى الماضي. وسوف تنشأ علاقات أوثق بين وكالات المخابرات من مختلف الدول. صحيح أنه ستحدث مواجهات ومجابهات ولكنها ستكون على مستوى مختلف لأن مختلف لأن مشكلة بقاء الإنسانية ستزداد تعقيدا". وإثر ذلك قلت للجنرال كيربيشنكو أن نظيره في وكالة المخابرات المركزية الأميركية وليام وبستر وضع مسألة الانتشار النووي في تلك المناطق التي تشعر بعض دولها بضرورة حصولها على أسلحة توازن الاحتكار النووي الذي تتمتع به بعض دول منطقة ما، كالاحتكار الصيني والإسرائيلي مثلا. فرد كيربيشنكو على ذلك بقوله: "بالطبع هذه مشكلة عويصة. فالمصالح الوطنية لها الأولوية وأولى المصالح الوطنية دائما هي البقاء. المشكلة ليست مجرد خطر الحرب النووية، إذ أن العراق كان يصنع مدفعا عملاقا وأسلحة كيماوية لمواجهة الخطر النووي. وبهذه المناسبة أود أن أؤكد أن العراق لم يحصل على شيء منا. فهناك أربع وعشرون شركة ألمانية باعت الأسلحة الكيماوية أو التكنولوجيا المتصلة بها إلى العراق، كما أن فرنسا باعته تكنولوجيا مزدوجة الأغراض، أي للأغراض العسكرية والمدنية". وسألته: إذن هل يمكن أن يحدث تعاون أكبر بين الغرب والشرق في مجالات مثل منع الصين وكوريا الشمالية من تغذية حروب المستقبل في الشرق الأوسط وتحقيق نزع سلاح نووي في إسرائيل والصين؟ أجاب كيربيشنكو: "إذا لم تطلب مني أن أتحدث عن بلدان معينة أو أن أعطي أمثلة محددة فإنني أستطيع أن أقول لك ما يلي: إن تبادل المعلومات والتعاون بين وكالات المخابرات أمر ممكن جدا حيثما كان هناك خطر على البشرية. وأعتقد أن التعاون سيزداد ويتسع نطاقه خصوصا للحيلولة دون نشوب نزاعات وحروب في الشرق الأوسط ومناطق أخرى. فنحن بحاجة إلى قوانين تحدد ما نستطيع بيعه وما لا نستطيع وأن تكون هذه القوانين على الصعيدين الوطني والدولي. فمثلا يمكن أن تتبادل "سي. آي. ايه." و"كي. جي. بي." المعلومات عن شركة فرنسية تزود إسرائيل بمواد معينة وأنا واثق من أنه سيتم التوصل الى اتفاقات من هذا القبيل. وهكذا فان نهاية الحرب الباردة لم تغير شيئا في الشرق الأوسط لسوء الحظ. إلا أنها غيرت الوضع في كمبوديا وأنغولا وجنوب أفريقيا حيث حلت مشكلاتها سلميا. أعتقد أن إسرائيل ستكون مستعدة في المستقبل القريب على الأرجح للمرحلة الأولى من الحكم الذاتي الفلسطيني. ومن الواضح أن مثل هذا الأمر سيؤدي إلى تحسين العلاقات في الشرق الأوسط. فأساس الصراع في الشرق الأوسط هو القضية الفلسطينية. ونحن نوافق على مبادرة السلام الأميركية. بل وسهلنا تلك المبادرة بتشجيع أصدقائنا في المنطقة على المشاركة فيها من خلال اشتراكنا في رعاية عملية السلام. والسبب في ذلك هو أننا رأينا حدوث تغييرات إيجابية في الموقف الأميركي من المعاناة الفلسطينية. وقد تسأل لماذا لا تقوم روسيا، نظرا إلى أنها أصبحت الآن أكثر إنصافا في تعاملها في الشرق الأوسط من الولاياتالمتحدة، بدور أكبر من أجل دفع عملية السلام إلى الأمام. وردا على ذلك أقول أننا منهمكون في مشكلاتنا الداخلية، لا سيما الاقتصادية. وفي هذا ما يحول انتباه ديبلوماسيتنا واهتمامها، بل وما يحول اهتمامنا في الداخل عن العالم الخارجي. فنحن تخلصنا في السياسة الخارجية من المنهج العقائدي، وأصبحنا الآن بحاجة إلى المساعدة من الدول الغربية لكي نستطيع الصمود في وجه الأزمة الراهنة. واعتقد أن السياسيين الأميركيين يدركون أن مساهمتنا في مجال الشرق الأوسط ستكون إيجابية. ونحن حريصون على استمرار قوة الدفع في مساعي السلام وليس لدينا أية فوائد أنانية نكسبها. وإذا كان لنا أن نقوم بدور أوسع في المستقبل فإننا سنفعل، لا سيما أننا قمنا بمثل هذا الدور في الماضي، حين حاولنا الوساطة مثلا بين سورية والعراق". وسألت كيربيشنكو إذا كان سيعيد رسم خط حياته لو أتيحت له الفرصة ثانية، أم لا، فقال: "كثيرا ما يسألني الناس هذا السؤال. وهذا السؤال له صفة الاصطناع، وهو سؤال نزوي. ففي وسع الإنسان أن يسعد بمهنته وحياته المهنية إذا ما اهتم بالأشياء الملموسة في بداية تلك المهنة. فالذي ينهج نهجا عاما من دون تخصص لا يسعى إلى تحقيق الكثير، كما أنه يربك جهوده. أما المتخصص فهو يفعل أقل ولكنه في الواقع يفعل أكثر في مجال محدد. والشعور بعدم الرضا أو خيبة الأمل يعني عدم فهم الحياة نفسها. ويمكنني القول أنني شعرت دائما بالرضا والارتياح، ما عدا بالنسبة إلى أشياء قليلة. فمثلا اخترت لغة ثانية، بعد العربية، هي الفرنسية. ولكنني أشعر الآن أنه كان من الأفضل والأكثر فائدة لي لو أنني اخترت الإنكليزية بدلا من الفرنسية. كذلك أتمنى لو أنني درست المزيد من الاقتصاد لأنني كنت اشعر دائما بضعف في هذا المجال". مسؤولون عن قيام إسرائيل وسألت الجنرال: ما هو مستقبل روسيا في الشرق الأوسط؟ أجاب: "التوقع صعب. فقد اعتدت في الماضي أن أكتب توقعاتي للدول الأخرى. أما الآن فإنني لا أستطيع أن أفعل هذا حتى بالنسبة إلى بلادي. إذ أن دورنا في المستقبل سيعتمد على مستقبل بلادنا. ففي الاتحاد السوفياتي السابق، كما هو الحال في الشرق الأوسط، يريد الكل أن يتحرر من أية سيطرة مركزية. الا أن الأمر ليس بتلك السهولة. مثلا كل جمهورية من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، فيها منشآت صناعية لخدمة بقية البلاد وليس الجمهورية وحدها. فبعض الجمهوريات فيها مصانع للسيارات ولكنها تفتقر إلى مصانع الإطارات. وأعتقد أن هذه الجمهوريات التي تعتمد على بعضها البعض ستبدأ عملية جديدة من التوحيد الاقتصادي، ولكن على أساس أسلم من السابق بحيث تتحقق الفوائد المشتركة والمنافع المتبادلة في إطار اقتصاد السوق. لكن المسألة تحتاج إلى وقت. وسوف تشكل رابطة دول الكومنولث المستقلة، كلها أو بعضها، كتلة اقتصادية مستقرة. وعلى المواطنين فيها أن يواجهوا الواقع والحقائق بموضوعية. فالذين يتولون السلطة لديهم خبرات في إدارة الدول. وليس هناك ما يكفي من الاقتصاديين. ولما كنا نعتمد نظام السيطرة المركزية في الماضي فإننا ارتكبنا الكثير من الأخطاء. والوضع مشابه في الشرق الأوسط. وباختصار فان ما أقوله هو أننا بلد كبير ومهم وسيكون لنا دور وسنقوم بهذا الدور. ولكن علينا أن نعيد تعريف أنفسنا وأن نحل مشكلاتنا أولا". وسألت الجنرال: هل كان الصراع بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي حتميا؟ بمعنى هل تعتقدون أنه كان لا بد من ذلك الصراع حتى ولو لم يكن هناك اختلاف عقائدي بينهما؟ قال الجنرال: "المشكلة الحقيقية كانت انعزال الاتحاد السوفياتي عن مراكز الحضارة الأوروبية وعن الحياة النيابية وعن تطور الأسواق الحرة. إذ أن أفكار الحياة البرلمانية جاءت إلينا في وقت متأخر كثيرا. كما أن الريف عندنا كان متخلفا، وكنا نعاني من مشكلة الافتقار إلى الاتصالات، وبعد المسافات. كذلك لم يكن عندنا سوق واحدة. أما أميركا فقد بناها رجال أقوياء من أوروبا الغربية, وبدأت الولاياتالمتحدة كدولة حديثة تتمتع بكل المزايا. وبينما كانت القوميات عندنا مشكلة معقدة نجد أن الولاياتالمتحدة لم تتأثر بها. إذ أن المشاحنات العرقية في الولاياتالمتحدة تعتبر مسألة تافهة بالمقارنة مع المشاكل القومية عندنا. ويمكن القول أن المشكلة الرئيسية في الشرق الأوسط، أي قيام إسرائيل، نابعة من مشكلاتنا نحن في عهد القياصرة، إذ أن اليهود عندنا لم يندمجوا ولم ينصهروا إطلاقا في المجتمع مثلما انصهروا في مجتمعات أوروبا الوسطى والغربية. وفي هذا ما يفسر لماذا كانت الصهيونية فكرة يهودية - روسية. وأنا أسأل: كم من اليهود الأوروبيين الغربيين أرادوا، حتى بعد هتلر، أن يهاجروا إلى فلسطين؟ ثم كم من اليهود الأميركيين هاجروا إلى فلسطين أيضا؟ أما اليهود العرب فقد أجبروا بشكل أو آخر على الهجرة ضد إرادتهم ورغبتهم بسبب التهاب المشاعر اثر حرب عام 1948. ولهذا فأنا أقول أن المشكلة الأساسية في الشرق الأوسط نجمت من ناحية عن مجموعة من الروس والأوكرانيين الذين أسيئت معاملتهم في عهد القياصرة ولم يكن عددهم أكثر من واحد في المئة من سكاننا. ولهذا لا أظن آذننا نستطيع أن نعطي بلادنا كنموذج للآخرين، أي لجيراننا العرب في الجنوب. ولكنني فخور بالدور الذي قمنا به للمساعدة على ضرب الاستعمار في الشرق الوسط في أفريقيا وأماكن أخرى. فنحن نؤمن بالحرية للجميع". وهل يعتقد كيربيشنكو أن الحرب الباردة كانت هدرا رهيبا والطاقات وإضاعة للوقت؟ ثم هل ساهمت في الجوع والفقر؟ أجاب: "نعم، بالطبع. ولكنها لم تكن تعبيرا عن ارادة شريرة. ويمكن لنا من ناحية تاريخية أن نعزوها إلى ظهور الاشتراكية في روسيا. فقد كان مولد الاشتراكية صعبا جدا، وكان من الصعب أيضا رعايتها وتنشئتها. إذ أن الخبرة الروسية في عهد القياصرة كانت نتنة وكانت روسيا حبلى بالثورة. كان الناس يعانون من الفقر المدقع ولم يكن أمامهم أي مستقبل. وكنا في حالة من التفكك والضياع إلى درجة أنني لا أعرف مثلا شيئا عن تاريخ عائلتي أكثر من والدي وجدي. فنحن لم نكن لنسجل حتى مواليدنا أو تاريخ ولادتهم، في وقت يستطيع فيه الغربي أن يتقصى تاريخ عائلته إلى سبعة أجيال أو أكثر. وهكذا فان الحرب الباردة لم تكن لمجرد أن الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي كانا أقوى دولتين في العالم فحسب، بل حدثت بسبب الاختلاف والفروق في الأنظمة الاجتماعية. لقد كان خطاب تشرشل في فولتون عام 1949 بداية الحرب الباردة. إذ أن ما قاله آنذاك هو في واقع الأمر: "ذاك هو عدو العالم المتحضر..." ومن غباء ستالين أنه قبل الدور الذي عرضه تشرشل بحماقة عليه. وفي هذا ما يثبت، مع الأسف، أن الزعماء في الغرب والشرق معا كانوا يفتقرون إلى بعد النظر والحكمة". لماذا تحدث إلى "الوسط"؟ كانت تلك الجلسة الأخيرة من جلسات الحوار مع الجنرال كيربيشنكو. ولا بد لي، الآن، من تحليل ما قاله "سيد الجواسيس السوفيات" في الشرق الأوسط في حلقات الحوار مع "الوسط"، ولماذا وافق على التحدث إلينا. قبل سنوات عديدة بحث ثلاثة من المراسلين في أحد الفنادق الافريقية، ذات ليلة، أصعب المقابلات التي يمكن لهم أن يكلفوا بها. قال المراسل الأميركي أن مقابلة آرثر ميلر الروائي الأميركي الذي يحتقر الصحافة ستكون من أصعب ما يمكن. أما أنا فاقترحت أنها ستكون مقابلة البابا. لكن المراسل الفرنسي رأى أن اصعب المقابلات على الإطلاق ستكون مع رئيس المخابرات السوفياتية "كي. جي؟ بي." وكان الفرنسي هو المصيب. إذ أن المسألة مع الاثنين الآخرين يمكن أن تعتمد على التوقيت. فربما أراد ميلر أن ينتقم من نقد في صحيفة "نيويورك تايمز". كما أن البابا الذي لم يسبق لأحد أن أجرى معه مقابلة من قبل ربما يرى في المقابلة سلاحا يستخدمه كملاذ أخير ليوجه كاثوليك العالم الذي يزيد عددهم على 400 مليون ضد شيء ما يعارضه هو بقوة. ولكن لماذا يريد رئيس "كي. جي. بي." إعطاء مقابلة؟ ولماذا يسمح له بذلك؟ ولم نكن نفكر آنذاك بالرئيس العام لوكالة "كي. جي. بي." برمتها لأنها مخابرات محلية داخلية بصفة أساسية، وانما كنا نفكر بسيد الجواسيس الذي كان يدير المديرية العامة الأولى في الوكالة أي فرع المخابرات الأجنبية أو الخارجية. إذا لماذا وافق سيد الجواسيس الروس على الحديث؟ ولماذا وافق على التحدث إلى "الوسط" بالذات؟ وما الذي نفهمه من اللقاء معه؟ كما يقول كيربيشنكو نفسه أن التحليل مهم مثل المعلومات نفسها. فعندما طلب مني رئيس تحرير "الوسط" أن أبحث إمكانية العثور على أستاذ في الجاسوسية في "كي.جي.بي." ممن عملوا في الشرق الأوسط، على استعداد للحديث عن خبراته وتجاربه، بدا لي أن الإمكانية ضئيلة جدا. فقد تحدثت إلى صحافي روسي زميل فذكر لي اسم جاسوسين روسيين كانا هربا إلى الولاياتالمتحدة، ولكنهما ليسا خبيرين في شؤون الشرق الأوسط. كذلك لم أكن راغبا في الحديث إلى أناس ممن فروا وانحازوا إلى الغرب، لأنهما سيقولان في نهاية الأمر ما يعتقد أن الغرب يحب سماعه منهما. وكان من حسن الحظ أن سيد الجواسيس السوفيات في الشرق الوسط كان سيد الجواسيس السوفيات عموما، كما أنه لا يزال يعمل في المخابرات. والسبب الذي جعل فاديم كيربيشنكو يقرر الحديث إلى "الوسط" وليس الى "التايمز" أو "لوموند" أو "نيويرك تايمز" أو "برافدا" يكمن في حياة الرجل المهنية وشخصيته. وهو السبب نفسه مثلا، الذي دفع الدالاي لاما أن يعطي العام الماضي أول مقابلة شاملة معه إلى مجلة بوذية تصدر في أميركا بدلا من مجلة "نيوزويك". إذ أن الأسئلة التي يواجهها المرء في مثل هذه الحالة ستكون شاقة وصعبة ومطلعة لكنها منصفة أيضا. وعائلة كيربيشنكو من المستشرقين مثله. فكما يكون قبول ميخائيل غورباتشوف الدعوة لإلقاء محاضرة في جامعة كيمبريدج حدثا فريدا يجتذب اهتمام بالغا، سيكون كذلك قبول كيربيشنكو الدعوة لإلقاء محاضرة مثلا في جامعة عين شمس. لكنه سيكون في وضع أفضل من غورباتشوف لأنه لن يحتاج إلى مترجم. لقد ظهرت كتب عديدة في الغرب عن المخابرات السوفياتية الروسية الآن لا سيما تلك القصص من الخيال. وكانت الصورة التي ترسم لتلك المخابرات سلبية دائما. كذلك لم يسبق المؤلفين والكتاب الشيوعيين في الاتحاد السوفياتي السابق أن تطرقوا إلى الموضوع إطلاقا. فأين يمكن للمرء أن يجد كاتبا محايدا يعامل ضباط المخابرات السوفياتية والأميركية أيضا كبشر عاديين؟ وهكذا كان هناك سبب رئيسي جعل كيربيشنكو يتخذ هذه الخطوة الاستثنائية ويقبل نصيحة مدير العلاقات العامة الجديد في جهاز مخابراته وهو أنه كان يريد أن يضمن إعطاء صورة للجهاز الذي قضى فيه حياته، لا تزيد سوءا عن صورة "سي. آي. ايه" أو صورة المخابرات البريطانية. فهو القوة الدافعة وراء الرابطة التي أقامها العاملون المخضرمون في "كي. جي. بي." على غرار رابطة مخضرمي "سي. آي. ايه" ففي العام الماضي زار وليام كولبي المدير السابق لوكالة "سي. آي. ايه" موسكو لحضور مؤتمر أشبه بمؤتمر الجواسيس العالميين. مما جعله يتعاطف مع أعدائه السابقين. إذ كانوا، مثله هو، متطوعين جازفوا بحياتهم. وأنا أفهم ذلك جيدا. بصفتي طيارا حربيا سابقا أجد أن هناك من الأمور المشتركة بيني وبين طيار ألماني حربي سابق مثلا، أكثر مما أجد بيني وبين محام أو وكيل تأمين يعمل في شركة أميركية أو بريطانية. وكيربيشنكو، مثل جميع الجنود القدامي في السبعين من عمرهيريد أن يصحح السجل قبل أن يغادر هذه الدنيا. وهو يعترف بأن كلا الطرفين استخدما أسلوب المعلومات المضللة كما أنه معجب بإقدام "سي. آي. ايه." على التضحية بمواطن أميركي لكي تثبت للرئيس أنور السادات أن صغار الخبراء العسكريين السوفيات كانوا يبيعون معلومات حساسة جدا إلى ذلك الأميركي لصالح إسرائيل. لكنه يود تصحيح نصاب الأمور. وهو يلاحظ - وهي نقطة يتفق معه فيها أي مراسل ناضج في واشنطن - أن من السهل تزويد الصحافة الحرة بالمعلومات المضللة مثلما هو من السهل أيضا تزويد الصحافة الخاضعة للسيطرة. والواقع أن المشكلة التي واجهتها موسكو في معركتها من أجل كسب الرأي العالمي هي أن الناس لم يكونوا يصدقون صحافتها الخاضعة للسيطرة. إذ لا يمكن مثلا، مهما كانت الأسباب والدوافع لصحيفة مثل "برافدا" ومعناها الحقيقة أن تنشر سلسلة مقالات عن "كرملين غيت" على غرار "ووتر غيت" أو "ايران غيت". لولا النفط وإسرائيل لقد سبق لي أن قابلت عددا من الرؤساء السابقين لوكالة المخابرات المركزية الأميركية: وليام كولبي، ريتشارد هيلمز، ستانسفيلد تيرنر، ووليام وبستر. ومما يثير الاهتمام أن ضابط المخابرات المحترف الوحيد بينهم، وهو كولبي، كان أجرأهم، واقلهم تقيدا بالاعتبارات السياسية، بل وبدا كأنه مراسل زميل. بدأت تسجيل الحوار مع كيربيشنكو بالاتفاق على ثلاث نقاط. فكل شيء سيقوله سيكون رسميا وسينشر إلا إذا طلب الحديث بصفة غير رسمية واشترط عدم النشر. لكنه لم يفعل ذلك. وحين كنت أوجه إليه سؤالا لا يستطيع الإجابة عليه لأسباب أمنية كنت أمتنع عن الضغط عليه. ولكن هذا لم يمنعني من إعادة صياغة الأسئلة وطرحها بطريقة أخرى. إلا أن كل ما قاله لا بد أن يكون صحيحا. وهناك أمور يعتقد كل الروس - أو كل الأميركيين أو العرب أو الإسرائيليين - إنها حقائق بديهية. واستنتاجي العملي هو أنه إذا كان كيربيشنكو غير صادق معي في أية لحظة فان هذا كان تصرفا غريزيا ولم يكن مقصودا إطلاقا. ومن الواضح انه يجب النظر إلى مقابلاتي معه في إطار ما يجري بشكل عام في الاتحاد السوفياتي السابق. إذا أن مناصري الإصلاحات الجديدة يثيرون الحرج الشديد أحيانا نتيجة رغبتهم في الإمعان في انتقاد النظام السابق. وفي هذا ما يعيد إلى الذاكرة أولئك النقاد الأميركيين النزيهين المخلصين لحرب فيتنام الذين كانوا يعطون الانطباع أحيانا بأن فيتنام الإشكالية أكثر ديموقراطية من الولاياتالمتحدة، فمن الأسهل عليك أن تؤمن بجانبك في الحرب الأهلية من الإيمان بطرفك في حرب عالمية حين تجد نفسك في طرف أو آخر نتيجة صدفة ولادتك هنا أو هناك. أما في الحرب الأهلية فليس لديك أي رغبة في الصفح عن العدو. والروس المعاصرون يكرهون ستالين أكثر حتى من كراهيتهم للقياصرة أو ريغان. والواقع أن "النقد الذاتي" كان يشكل دائما جزءا من التدريب الشيوعي، وهو أمر ساعدني في إجراء هذه المقابلات. لذا انتقد كيربيشنكو الدور السوفياتي في أفغانستان لكنه قال في الوقت نفسه أن التدخل كان يهدف إلى تحقيق التوازن في بلد اصبح الاضطراب السياسي فيه مزمنا. وهو يعترف بأن التدخل السوفياتي في أفغانستان كان "خطأ" بينما نجد أن الزعماء الأميركيين لا زالوا يترددون في الاعتراف بأن الدور الأميركي في فيتنام كان خطأ جسيما. وكيربيشنكو واقعي وصريح حول عدد من الأمور، فهو يعتقد، مثلا - وان كان لا يقول هذا الكلام صراحة - أنه لو لم يكن في الشرق الأوسط نفط ولو لم يكن لليهود الأميركيين دور أساسي في تمويل حملات انتخابات الرئاسة الأميركية فان واشنطن ما كانت لتهتم بالمنطقة أكثر من اهتمامها بأفريقيا الوسطى. وهو يلمح أيضا إلى أن الشرق الأوسط كان يعتبر الجار الخلفي بالنسبة إلى الاتحاد السوفياتي، بينما هو بالنسبة إلى الولاياتالمتحدة ثورة نفطية، وسوق للسلاح بفضل التهديد الإسرائيلي، وهي سوق تنشط نتيجة مبيعات الأسلحة لإسرائيل. كما أنه يشير إلى أن "أول شيء كان أصدقاؤنا العرب يطلبونه منا هو المعلومات الاستخبارية عن إسرائيل لأنهم لا يحصلون على مثل هذه المعلومات من الولاياتالمتحدة". وحين تكون مراسلا أو شرطيا فانك لا تقضي أسبوعا كاملا بصحبة شخص ما من دون تبدأ في معرفته بشكل أفضل. وهكذا حين نظرت إلى عيني كيربيشنكو أدركت أنه لم يصبح جنرالا في "كي. جي.بي." بسهولة. لكنني رأيت فيه أيضا طفلا لوالدين من الطبقة العاملة أرادا أن يبررا ثقتهما فيه. ورأيت فيه أيضا السلافي العاطفي من أمة أعطت للعالم تشيكوف وبوشكين ورمسكي كورسيكوف. وهو أيضا فخور إلى أقصى درجة بزوجته، بصفتها أفضل الخبراء السوفيات في مجال القصة العربية المعاصرة. وهو عاطفي تجاه عائلته وأحفاده، كما أنه جندي قديم مخلص، إذ أن الرجل الذي اختاره مترجما لنا ليسمع كل شيء، كان جازف بحياته كجاسوس غير قانوني ولكنه اصطدم مرات عديدة مع رؤسائه لإيمانه بأن النظام غير فعال. وقد حرص كيربيشنكو خلال حواره معي على نفي "المعلومات الغربية" التي ذكرت أنه خان جمال عبد الناصر عن طريق شراء اتباعه وتجنيد ضباط المخابرات المصرية سرا. وأنا لا أظن أنه يكترث بما تنشره الصحف الغربية، ولكنه يريد من قرائه العرب أن يعرفوا أنه لم يخدع عبد الناصر وأنه لم يكن هناك أي داع لذلك. وهو يريد أيضا أن يناقض أسطورة الغرب عن تأييد موسكو الإرهاب الدولي. فموسكو أيدت حركات المقاومة مثل منظمة التحرير الفلسطينية، لا سيما فصائلها الشيوعية، والأحزاب الاشتراكية والجمهورية. لكنها نأت بنفسها عن حركات الإرهاب الدولية، مثل حركة أبو نضال والجيش الأحمر الياباني وغيرهما من الفئات في ألمانيا وإيطاليا. وهذا أمر يسهل أيضا تصديقه. ويصر كيربيشنكو على أن موسكو كانت تقدم النصح بصورة مستمرة إلى أصدقائها في العالم العربي منذ أيام عبد الناصر، بعدم شن الحرب على إسرائيل. وهو يقول أن موسكو كانت تعرف أن إسرائيل ستنتصر بفضل الدعم الأميركي، كما أن العلاقات السوفياتية - العربية كانت تدخل بعد كل حرب مرحلة صعبة. كذلك يحرص كيربيشنكو على تحسين صورة وكالته بطرق أخرى: فهناك الإعداد اللغوي والثقافي الهائل لضباطها وهناك تفوقها في الأداء على رغم أن موازنتها لا تصل إلى ربع موازنة "سي. آي. ايه" لكنه يعترف بأن موسكو خسرت منشقين عن مخابراتها لأن المواطنين السوفيات كانوا ينجذبون إلى متع الحياة في دول تحافظ على مستويات معيشية أعلى كثيرا لمواطنيها. فحتى دول صغيرة مثل سنغافورة وكوريا والبرتغال كانت مستويات الحياة فيها أفضل كثيرا من المستوى في ثاني أكبر دولة عظمى في العالم. إذن، وبعد كل هذا ما الذي نتعلمه ونعرفه الآن، بينما كنا نجهله قبل دخول عالم المخابرات والخداع؟ لقد كشف لنا كيربيشنكو الكثير من المعلومات والأسرار، لكنه أراد، أيضا، من خلال موافقته على التحدث للمرة الأولى، أن يقول أن الحرب الباردة انتهت وبسرعة اكبر كثيرا مما كان الكل يتوقع. وها هو كيربيشنكو ببساطته الذكية يذكر نظرائه في الغرب أنهم لا يزالون يأخذون الأمر بجدية أكبر مما ينبغي. لقد انتهت الحرب الباردة. في منزل الجنرال توجهت مع الجنرال كيربيشنكو إلى الشقة التي يعيش فيها في إحدى العمارات الواقعة في ضواحي موسكو الشمالية الغربية التي تعتبر من المناطق المحظوظة. وحين وصلنا إلى الشقة فتحت فاليريا نيكولايفنا مضيفتنا الباب، فبدت لي امرأة جميلة أصغر كثيرا من سنها الذي يزيد على ستين سنة. ورحبت بنا وطلبت إلينا أن نخلع معاطفنا. وينضم إلينا زوجها لاصطحابي في جولة في أرجاء الشقة التي تطل على السهوب المغطاة بالثلوج. وعلى أحد الجدران نشاهد صورة مكبرة لابنهما الوحيد سيرجي وهو يقوم بدور المترجم للملك حسين ويوري أندروبوف رئيس مخابرات "كي. جي. بي." الذي أصبح فيما رئيسا للاتحاد السوفياتي، أثناء زيارة العاهل الأردني إلى موسكو. وهناك أيضا صورة أخرى تجمع كامل أفراد العائلة: هذه هي الكنة زوجة سيرجي التي تتكلم الفارسية بطلاقة، ثم الابنتان المولودتان في القاهرة. وتدرس إحداهما اللغة العربية في الأكاديمية العسكرية. أما الصهران فيتحدث أحدهما اللغة اليابانية بطلاقة. وفي الصورة أيضا الأحفاد الأربعة. وفي وسط الصورة مضيفتنا وهي تحمل أحد الأطفال الأربعة على ركبتها. ويطلع الزائر على مكتبة فاليريا الضخمة من الكتب العربية، ويرى نسخا من روايات نجيب محفوظ التي نقلتها من العربية إلى الروسية. فهي الخبيرة الرائدة في البلاد في الرواية العربية المعاصرة. وبين طلابها دارسون من العراق ولبنان وسورية. كما نشاهد خناجر من اليمن أحضرها زوجها الجنرال من هناك في زياراته إلى شبه الجزيرة العربية. وتضم صورة العائلة أيضا الجنرال الذي أصبح جدا. ونبدأ في الكلام ونتندر ونروي النكات، عن الرؤساء السوفيات والسفراء السوفيات وغير ذلك من النكات والطرائف. ويرافقنا في هذه الزيارة إلى شقة الجنرال اثنان من العاملين في المخابرات مع الجنرال. وعندما جلسنا إلى المائدة لنتناول طعام العشاء قالت فاليريا: "عدنا بأن تزورنا هنا كلما جئت إلى موسكو". عندها قلت لها: "عديني بأن يكون عازف البيانو نفسه موجودا هنا!". نعم عازف البيانو. هو مضيفنا الجنرال فاديم اندريفيتش كيربيشنكو، أرفع ضباط المخابرات السوفياتية المحترفين مكانة على الإطلاق.