أكاديمية يلو تفتح أبوابها نحو طريقك لمستقبلك    نائب وزير البلديات والإسكان يفتتح النسخة ال 34 من معرض البناء السعودي    السعودية ومولدوفا توقعان اتفاقية لتعزيز التنسيق الثنائي    موعد مباراة النصر والعين..والقنوات الناقلة    تحديد موقف رونالدو من مواجهة العين    37 ميدالية للتايكوندو السعودي    لليوم الثاني على التوالي.. «انسجام عالمي» تفجر فرحة شعبية سعودية - يمنية    رئيس الوزراء المصري والأمير فيصل بن عياف يتفقدان الجناح السعودي في المنتدى الحضري العالمي الثاني عشر    أمير تبوك يستقبل القنصل البنجلاديشي لدى المملكة    جازان: القبض على 7 مخالفين لنظام الحدود لتهريبهم 108 كيلوغرامات من القات    الميزانية السعودية تُسجل 309 مليارات ريال إيرادات في الربع الثالث    أمير القصيم يوجّه بتأسيس مركزا علميا شاملاً لأبحاث الإبل    تركيا: نستهدف رفع حجم التجارة مع السعودية إلى 30 مليار دولار    22732 قرارا إداريا بحق مخالفين للأنظمة    الأمين العام للتحالف الإسلامي يستقبل وزير الدفاع العراقي    قائد القوات المشتركة يستقبل الشيخ السديس    ترمب: أنا متقدم بفارق كبير.. والخسارة واردة    «الأونروا»: كارثة في غزة    نائب أمير الشرقية يستقبل مدير عام فرع وزارة التجارة بمناسبة تعيينه    إثراء يعلن عن 3 مشاريع فائزة بتحدي تنوين الكبير لإثراء تجربة الحاج    تجمع القصيم الصحي يختتم حملة التوعية بسرطان الثدي بأكثر من مليون مستفيد    موعد مباراة الهلال والإتحاد في ربع نهائي كأس الملك        بمبادرة من السعودية.. انطلاق الأسبوع العربي في اليونسكو بباريس    رئيس مجلس الشورى يستقبل السفير الصيني لدى المملكة    أمير الشرقية يرأس الأجتماع الثامن لهيئة تطوير المنطقة    " سعود الطبية " تُجري أولى عمليات التردد الحراري لتسكين آلام الركبة    استمرار التوقعات بهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    حضور لافت للتعرف على الثقافة اليمنية في حديقة السويدي    أسعار النفط ترتفع بأكثر من دولار    لمن سيصوت عرب أميركا؟!بعد ان غيرت غزة مواقفهم    انطلاق مؤتمر استدامة الطرق    بدء تسجيل 87,318 قطعة عقارية في الدمام والخبر    الغربان لاتنسى الإساءة وتنقلها إلى أقاربها    «واتساب» يتيح خاصية البحث داخل القنوات    انتهاكات حقوق المستهلكين في قطاع التوصيل    دعم المواهب الفنية    خالد سعود الزيد.. عاش حياته متدثراً بالكتب والمخطوطات والتأريخ    أنتِ جميلة    فهد بن سلطان يتابع اختبارات طلاب تبوك    مقال ذو نوافذ مُطِلَّة    مسؤول عسكري يمني ل«عكاظ»: عضو مجلس القيادة طارق صالح بخير.. وإصابته طفيفة    هواتف ذكية تكشف سرطان الحلق    5 أسباب متوقعة لألم الرقبة    أحدثهم القملاس.. مشاهير أنهى مرض السكري حياتهم    لا تحرق معدتك .. كل أولاً ثم اشرب قهوتك    الكبار يتعلمون من الصغار    ما يحدث في الأنصار عبث بتاريخه !    بشرى الأمير عبدالعزيز بالسعودية النووية    في دوري يلو .. الصفا يتغلب على الباطن بثلاثية    القلعة تغرق في «ديربي البحر»    لمسة وفاء.. اللواء الدكتور عويد بن مهدي العنزي    مشائخ القبائل و درء سلبيات التعصب    مليونا اتصال للطوارئ الموحد    أمير منطقة تبوك يراس اجتماع لجنة الدفاع المدني الرئيسية بالمنطقة    المملكة تشارك في المنتدى الحضري العالمي    اكتشاف فريد من نوعه لقرية أثرية من العصر البرونزي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كبير رجال المخابرات السوفياتية في الشرق الاوسط في حوار طويل مع "الوسط" . الجنرال كيربيشنكو يتذكر سنوات العزّ في مصر 2
نشر في الحياة يوم 11 - 05 - 1992

* كنت أول من أحضر الأسلحة السوفياتية سراً الى القاهرة.
* دربنا المخابرات المصرية والسورية بناء على طلب عبدالناصر والاسد.
* لماذا تحول السادات الى أميركا وكيف تم اغتياله بسهولة؟
يتحدث الجنرال فاديم اليكسييفيتش كيربيشنكو كبير رجال المخابرات السوفياتية في الشرق الاوسط، في هذه الحلقة الثانية من حواره مع "الوسط"، عما يعتبره "سنوات العز في مصر". ويكشف كيربيشنكو في هذه الحلقة اسراراً ومعلومات مثيرة عن علاقاته بكل من الرئيسين الراحلين جمال عبدالناصر وأنور السادات، ويعطي رأيه في الرئيس حسني مبارك، ويسلط الاضواء على كيفية تحرك الجواسيس ورجال المخابرات السوفياتية في مصر، وعلى الصراع بين السوفيات والغرب حول مصر وحول المنطقة عموماً. وهذه هي المرة الاولى التي يتحدث فيها كيربيشنكو، الذي امضى سنوات طويلة في الشرق الاوسط كمسؤول عن المخابرات السوفياتية قبل ان يعين ولمدة 18 عاماً في منصب النائب الاول للمدير العام للمخابرات السوفياتية الخارجية، الى اية مطبوعة عربية او اجنبية في العالم. ويشغل كيربيشنكو حالياً منصباً رفيعاً في المخابرات الروسية في موسكو اذ انه "كبير مستشاري" يفغيني بريماكوف مدير جهاز المخابرات الخارجية في روسيا.
وقد خص الجنرال كيربيشنكو "الوسط"، بذكرياته، ووافق على استقبال مراسل المجلة في واشنطن راسل وارن هاوي وعلى قضاء اسبوع كامل معه في موسكو اجرى خلاله زميلنا حواراً طويلاً معه. وفي ما يأتي الحلقة الثانية من هذا الحوار:
عاش الجنرال فاديم اليكسييفيتش كربيشنكو، سيد الجواسيس السوفيات، اكثر سنوات حياته المهنية ازدهاراً في مصر، حيث اقام علاقات شخصية وثيقة مع الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وارتقى الى رتبة "المندوب المقيم" للمخابرات السوفياتية في القاهرة اي "سفير" المخابرات في الفترة بين 1970 و1974 بعدما خدم المرة الاولى في القاهرة بين 1954 و1960. وعاد الى موسكو بعد عام 1974 ليتم تعيينه كنائب اول للمدير العام للمخابرات السوفياتية الخارجية، وهي اعلى رتبة متاحة لأي ضابط مخابرات محترف اذ يتم اختيار المدير من مجالات اخرى. ومن موقعه هذا كان الجنرال يشرف على نشاط وعمليات المخابرات السوفياتية في الشرق الاوسط خلال عهود عبدالناصر والرئيس الراحل أنور السادات والرئيس الحالي حسني مبارك. وقد جاء في الكتاب الذي صدر العام الماضي عن قصة المخابرات السوفياتية كي. جي. بي من تأليف المؤرخ البريطاني كريستوفر اندرو وضابط المخابرات السوفياتية "اللاجئ" الى الغرب اوليغ غورديفيسكي، جاء في هذا الكتاب ان نجاح الجنرال كيربيشنكو في مهمته في مصر هو الذي ادى الى تعيينه في هذا المنصب الرفيع في موسكو. ووفقاً لهذا الكتاب فقد كان كيربيشنكو "يدغدغ مشاعر" سامي شرف احد اقرب "المستشارين الامنيين" الى عبدالناصر، ويمتدحه ويقول له ان الزعماء السوفيات انفسهم بمن فيهم ليونيد بريجنيف - يعلقون اهمية على معلوماته وتقاريره ونشاطه في مجال المخابرات.
واستأنفنا الحوار مع كيربيشنكو في مكتبه في مبنى المخابرات الروسية في موسكو، فتحدث الجنرال عن "الفوائد" التي حققها السوفيات - والمخابرات السوفياتية - في مصر نتيجة العدوان الثلاثي الفرنسي - البريطاني -الاسرائيلي على السويس عام 1956. ونترك الكلام للجنرال كيربيشنكو:
"كان العدوان الثلاثي عام 1956 على مصر بعد تأميم عبدالناصر قناة السويس غلطة حمقاء من جانب اعدائنا. اذ اننا لم نكد نصدق ما كان يحدث. وظلت موسكو تطلب معلومات منا. كان علينا ان نرفع تقارير اليها كل ساعة. ولأيام عدة لم يكن في مقدرونا مغادرة السفارة السوفياتية. اذ كنا نصعد الى سطح البناية لمشاهدة عمليات القصف ثم ننزل مهرعين الى الاسفل لنرفع تقريراً عن عدد الطائرات ونوعها ومكان سقوط قنابلها. ومنذ اليوم الاول كان المسؤولون المصريون يأتون الى سفارتنا ويتساءلون: "أين هي مساعدتكم؟". وفي الخارج كانت الجماهير تلوح قبضاتها نحونا. وقد نقلنا الاسلحة على جناح السرعة كما اننا اخذنا زمام المبادرة في الأمم المتحدة لوقف العدوان، فتغير كل شيء. وفي ذلك اليوم ركبت سيارتي وقلت لسائقي ان يتوجه الى مكان ما. وفجأة احاط الناس بالسيارة ورفعوها الى الاعلى. وكان عبدالناصر اخبر سفيرنا انه ينبغي علينا ان نضع علمنا في النافذة الامامية والخلفية من سياراتنا لكي لا نتعرض للهجوم من الجماهير ظناً منها بأننا اوروبيون آخرون. وكنت اترجم للسفير آنذاك. وأذكر ان عبدالناصر قال لنا: "لقد ضربنا الانكليز والفرنسيين واليهود علْقة جيدة" العدوان كان غلطة جسيمة من الدول الثلاث وهو ما ادركه الرئيس ايزنهاور، ولكننا استفدنا من ذلك. وبعد العدوان التقيت بعبدالناصر مرات كثيرة. وفي شهري نيسان ابريل وأيار مايو 1958 قضيت اسبوعين برفقة عبدالناصر وذهبت معه الى كل مكان في زيارته الاولى الى الاتحاد السوفياتي. وفعلاً اصبحنا نعرف بعضنا على الصعيد الشخصي. وكانت تلك السنوات في القاهرة من 1954 الى 1960 افضل سنوات حياتي كما انها كانت سنوات مثمرة جداً لبلادي ولمصر. وكان نظيري لدى الاميركيين هو مايلز كوبلاند الذي كلفته وكالة المخابرات المركزية الاميركية سي. آي. ايه الاهتمام بعبدالناصر، وهو مؤلف كتاب "لعبة الأمم".
أحضرت السلاح سراً الى مصر
ويضيف كيربيشنكو: "غادرت القاهرة بعد ذلك وأمضيت سنوات عدة في دول افريقية ثم عدت الى مصر عام 1970 وبقيت فيها الى العام 1974 بصفة المندوب المقيم للمخابرات السوفياتية. لكن القاهرة كانت مختلفة سياسياً هذه المرة.
كانت ذروة الفترة الاولى من نشاطي هي توجيهنا الدعوة الى عبدالناصر لزيارة الاتحاد السوفياتي. وفي تلك الفترة كنت مجرد ضابط عادي في كي جي بي. اما من الناحية الرسمية فقد كنت سكرتيراً ثانياً وملحقاً ثقافياً بمسؤوليات خاصة عن اليمن التي كان سفيرنا في القاهرة معتمداً لديها ايضاً. ولا بد من ان نتذكر ان مصر لم تكن بلداً صديقاً لنا حين ذهبت الى هناك. وهكذا بدأت، كضابط مخابرات، في جمع المعلومات ووضع صورة كاملة عن نظام عبدالناصر الذي كان عمره آنذاك عامين. ولكن خير ما كنا نأمل فيه في البداية هو حدوث تحسن بطيء في العلاقات. وهكذا كان عام 1956 عاماً عظيماً بالنسبة الينا. اذ ان ايزنهاور انقذ ماء وجه اميركا بالانضمام الينا ضد فرنسا وبريطانيا واسرائيل. ولكن اللوبي الاسرائيلي بدأ في الضغط عليه ولهذا تردد في تأييد مصر بصورة كاملة. وانتهزنا فرصتنا لنجعل من عبدالناصر صديقاً حقيقياً. اذ اننا كنا ارسلنا اليه اسلحة على جناح السرعة خلال القتال عام 1956، ولكنه احتاج في ما بعد الى امدادات كبيرة. وكنت انا شخصياً اول من احضر الاسلحة السوفياتية سراً لأول مرة الى مصر. وتظاهرنا انها كانت اسلحة تشيكية. كما ان المجموعة الاولى من الخبراء السوفيات جاؤوا بجوازات سفر تشيكوسلوفاكية. وأنت تسألني اذا كان السفير المصري في موسكو يجهل فعلاً العلاقة العسكرية التي كان عبدالناصر يبنيها مع الاتحاد السوفياتي آنذاك. من الممكن جداً. اذ ان السفير كان قد عين في عهد الملك فاروق. وكان عبدالناصر يريد الابقاء على علاقتنا في مجال الاسلحة سراً لا يعرف به الغرب. ولكن لا بد لي من القول ان هذا النهج كان ساذجاً لأن السر كان شائعاً، مما يعني ان الذي اشار على عبدالناصر بابقاء الامر سراً كان ساذجاً حقاً. وبعدئذ تراجع جون فوستر دالس وزير الخارجية الاميركي عن الوعد ببناء سد اسوان العالي فتولينا نحن الامر وبذا اصبحنا افضل صديق لا منازع له بالنسبة الى مصر. وكان السد العالي نفسه فكرة رائعة وفي منتهى الذكاء، اذ انه سيزود البلاد بالكهرباء ويزيد من طاقتها على صيد الاسماك، بل وحتى سيحسن الطقس بالمساعدة على سقوط المزيد من الامطار. اما العيب الوحيد له فهو انه سيقلل من كمية الطمي بعد موسم الفيضان السنوي".
علاقات مع المخابرات المصرية
وانتقل كيربيشنكو الى الحديث عن فترة اقامته الثانية في القاهرة كمعتمد مقيم للمخابرات السوفياتية بعد عقد من الزمان اي في عهد الرئيس انور السادات. ويتطرق في هذا المجال الى الحملة التي شنها الاميركيون والغربيون عليه وعلى نشاطه في مصر والتي ركزت على ان كيربيشنكو واعوانه "استغلوا ثقة عبدالناصر وأساؤوا استخدامها بوضع عدد من كبار المسؤولين والمقربين منه - امثال سامي شرف وعلي صبري - على جدول الموظفين الذين يتقاضون رواتب من المخابرات السوفياتية وأحد الذين حركوا هذه الحملة هو الكاتب جون بارون الذي الف كتابه الشهير "كي. جي. بي" بمساعدة المخابرات الاميركية على حد قول كيربيشنكو. ويقول كيربيشنكو في هذا الصدد: "اعتقد ان بارون وقع ضحية للتضليل، اذ ان الكتاب وضع بسذاجة وعفوية. وكان من الواضح انه مضطر الى اعداده بسرعة بسبب التوترات الدولية آنذاك. وكان من الضروري تزويد السادات بذخيرة ضد اولئك الذين انتقدوا تودده لاسرائيل ورأوا فيه خلفاً بعيداً عن خط عبدالناصر. كذلك تم تأليف الكتاب بهدف ترهيب اميركا اللاتينية من "الخطر السوفياتي". اذ ان المكسيكيين طردوا بعض ضباط مخابراتنا من السفارة في مدينة مكسيكو. وقيل آنذاك انهم تغلغلوا في صفوف الطبقة المثقفة في المكسيك. ولكن بعض الاتهامات كانت مضحكة مثل اتهامنا بمحاولة الاطاحة بالحكومة المكسيكية وبأننا اشترينا الحركة العمالية وبأننا نظمنا اضراب الصحافيين، وانه كان لنا بالطبع ضلع ودور في الارهاب. اننا مستعدون لتأييد المقاومة العسكرية للاحتلال مثلما تفعل منظمة التحرير الفلسطينية، لكننا كنا نخضع دائماً لقيود مشددة وتحت اوامر صارمة بعدم التورط اطلاقاً مع الارهابيين او رجال العصابات في المدن. وحين جاء الرئيس المكسيكي اتشيفيريا الى موسكو قال لنا صراحة انه كان ضحية حملة من التضليل. اما اوضح الاجراءات النشطة التي كانت موجهة ضدي في كتاب بارون فهي في الفصل الثاني بعنوان: "اسرار من الصحراء" هذا الفصل كان موجهاً بصفة اساسية للتأثير في السادات، ولمحاولة وقف تقاربه مع الاتحاد السوفياتي. اذ ان السادات بدأ فعلاً في تحسين علاقاته مع الاتحاد السوفياتي عام 1974، مع استخدامه واشنطن لكي تبلغ اسرائيل بأن نياته سليمة تجاهها. ولا بد من الاعتراف هنا بأنه كانت لنا بالفعل علاقات طيبة مع رجال المخابرات المصرية، واستطيع القول ان الولايات المتحدة كانت تعرف ذلك".
ويتناول كيربيشنكو قضية اخرى وتتعلق بالاشاعات التي نشرتها بعض الصحف الاميركية عن الملك حسين وعلاقاته بالادارة الاميركية. ويقول ان البعض اعتقد ان المخابرات السوفياتية لعبت دوراً في تسريب هذه الاشاعات لكنه يضيف: "لقد كان بيننا وبين الملك حسين - ولا تزال - علاقات ودية فعلاً، وهو رجل يفهم التطورات والأوضاع. وحين تأتي الى منزلي سأريك صورة للملك حسين مع يوري اندروبوف مدير المخابرات السوفياتية الذي اصبح فيما بعد اميناً عاماً للحزب الشيوعي وزعيماً للبلاد. اما الشخص الذي يقف بينهما في الصورة فهو ابني سيرجي الذي كان مترجماً. لكن من المستحيل ان ننشر معلومات مضللة عن الملك حسين، اذ ان مثل هذه المعلومات لا تخدم اي هدف اطلاقاً. ولو نشرنا مثل تلك المعلومات عنه لكان ذلك بمثابة انتحار منا. "وبالطبع حققنا في القصة وخرجنا بنتيجة واضحة وهي ان المعلومات المضللة كانت من عمل بعض الجماعات العربية المعارضة له ومن اختلاقها. ودعني اقول لك بصراحة: نحن في كي. جي. بي لم نصدق هذه الاشاعات. اطلاقاً".
يوم في حياة جاسوس
وطلبت من كيربيشنكو ان يصف لنا يوماً عادياً من ايام عمله في القاهرة حين كان مسؤولاً عن اكبر محطة للمخابرات السوفياتية في العالم العربي. ويتضح مما قاله لنا انه استمتع الى درجة اكبر كثيراً بأيامه حين كان ضابطاً في المخابرات و "ملحقاً ثقافياً" قبل ان يتولى مسؤولية المحطة كلها. ويقول: "كنت استمع الى محطات الاذاعة العربية اثناء تناولي طعام الفطور وأثناء ادائي تمريناتي الرياضية. اذا كان مطلوباً من جميع ضباط كي. جي. بي. ان يقوموا بتمارين رياضية. وكنت دائماً استيقظ مبكراً، اي قبل ان تشتد درجة الحرارة. وبحلول الساعة الثامنة صباحاً كنت اجلس في مكتبي لأقرأ الصحف وبرقيات كي. جي. بي. الى المحطة، ثم اتحدث الى زملائي. وفي السفارة كان يعقد مؤتمر لرؤساء الاقسام يومياً حوالي الساعة الحادية عشرة. وكنا نقيّم التطورات. وفي حوالي الساعة الحادية عشرة والنصف او الساعة الثانية عشرة كنت اغادر المبنى احياناً لأنني كنت اسعى دائماً الى الالتقاء بالناس الذي يثيرون الاهتمام. وبعدئذ اتناول طعام الغداء ثم آوي لفترة القيلولة قبل ان اعود الى متابعة العمل حتى وقت متأخر من الليل. وحين كانت الوفود الحكومية تأتي كنت اخرج على هذا الروتين لأنه كان علينا ان نرافقهم كمترجمين في كل مكان. ولما كان ستاري في السبعينات هو انني كنت قنصلاً في السفارة فان واجباتي في هذا الاطار كانت ثقيلة. فقبل عودتي الى السفارة في المساء كنت استمع بالطبع الى محطات الاذاعة مرة ثانية وأشاهد اخبار التلفزيون. اما محطة كي. جي. بي فكانت ترصد الاذاعات العالمية.
نجوم السادات
وحين كنا في مصر لأول مرة كان لدينا الكثير من الوقت كما انني التقيت بالكثيرين من المصريين: من صحافيين وديبلوماسيين وكتّاب وفنانين وممثلين وغيرهم من المثقفين. وكنت بحاجة الى هذه الاتصالات لكي احصل على صورة افضل عن الوضع في البلاد، ولكي احسن بالطبع لهجتي العربية المصرية. وكنا نستقبل الضيوف في منزلنا مرة او مرتين كل اسبوع. وكانت زوجتي ترعى الكتّاب المصريين بشكل خاص. ويمكن القول انها هي التي اكتشفت بشكل او آخر يوسف ادريس الكاتب المصري الكبير. كان يوسف ادريس متعاطفاً مع الشيوعية، وكان ارسل الى معسكر اعتقال في عهد الملك فاروق وبقي فيه لفترة من الزمن بعد قيام الثورة المصرية عام 1952. وبعد اطلاق سراحه كان يتردد كثيراً على بيتنا. وكانت زوجتي ترى ان لديه امكانات كبيرة. وقد احضر لنا اول مجموعة من قصصه. وبعد اربع او خمس سنوات اصبح احد اشهر الكتّاب في العالم العربي. وقد استخدمت زوجتي اعماله في اطروحتها للدكتوراه، كما انها ألّفت كتاباً عنه. لكنه كان دائماً في حالة صحية سيئة ولهذا توفي عن عمر صغير نسبياً. ومن الطبيعي ان كل هذا ساعدني في عملي الاستخباري. اذ ان جميع الناس الذين التقيت بهم في تلك الجولة الأولى اصبحوا مشهورين وشخصيات مرموقة سفراء ومؤلفين وصحافيين وما الى ذلك. وحين اختلف السادات مع البعثة العسكرية السوفياتية عام 1972 كانت تلك لحظة حزينة، ولكنها لم تضعف اطلاقاً من تعاطفي مع مصر. وأنا احتفظ باحترامي والشخصي لعبدالناصر لأنه كان الرجل المناسب في اللحظة المناسبة من التاريخ. كان عبدالناصر رجلاً متواضعاً. وكان هناك قدر كبير من الدعاية ضده وعن الفساد وحسابات البنوك السويسرية، لكننا حققنا في كل ذلك ولم يكن فيه اية صحة. وعندما توفي لم يكن في حسابه الخاص الا حوالي ستة آلاف جنيه مصري.
"اما الذين جاؤوا فقد ارادوا نجوماً على اكتافهم وزياً خاصاً وأشرطة ذهبية. وحين قتل السادات كان التصويب عليه سهلاً لأنه كان مغطى بالأشرطة والاوسمة الذهبية، وبدا وكأنه واجهة لسينما. اما عبدالناصر فقد كان برتبة بكباشي حين وصل الى السلطة وظل كذلك ولم يرفّع نفسه اطلاقاً. كذلك ظل يسكن في البيت نفسه. وكان يتمتع بصفات وخصائل تنتزع الاحترام. السادات كان على عكسه تماماً اما الرئيس حسني مبارك متواضع كثيراً، وشخصيته متعاطفة وملفتة للنظر، كما انه يحاول عدم تكرار اخطاء السادات. ما الذي افتقده من سنواتي في القاهرة؟ افتقد جو العمل. اذ ان آخر 18 عاماً لي في موسكو كانت ادارية. لكن العمل اليومي لضابط المخابرات الميداني مختلف. فأنت تلتقي اناساً مختلفين. تلتقي بشخص مثلاً يفتح آفاقاً جديدة فترى المستقبل. وكنت اشعر بمتعة حين أحلّل المعلومات، كما ان عملي كان اشبه بعمل المراسل الصحافي. وماذا عن الطعام؟ انني اشتاق الى جميع انواع الأكل المصري. فقد كان اللحم طازجاً دائماً ولم يكن مثلجاً كما هو هنا. وأنا احببت الكباب والكفتة والشاورما والحمام الذي لم يسبق لي ان اكتله. والمصريون يربون الحمام ويصدرونه الى فرنسا وغيرها من الدول. ان كل بلد عربي له طعامه. فهناك مأكولات رائعة في الجزائر والمغرب. هل اكلت البوريك في تونس؟
انني اعشق الكسكس. وهل الأتراك هم الذين جاؤوا بالأطباق والمأكولات العربية واليونانية؟ ام هل حدث العكس؟ اعتقد ان كل طرف اغنى مأكولات الطرف الآخر".
وسألت كيربيشنكو ما اذا كان ابنه سيرجي الذي يعمل حالياً في السفارة في الرياض ضابطاً في المخابرات فقال: "لا. هناك قاعدة متبعة في موسكو وهي انه لا يجوز للأب والابن معاً ان يعملا في اجهزة المخابرات. صحيح انه كانت هناك حالات استثنائية قليلة في الماضي، ولكن ليس الآن. اما ابنتاي فمن مواليد القاهرة وهما توأمان. وتدرس احداهما العربية في الاكاديمية العسكرية بينما الاخرى ربة بيت الآن. اما زوجة ابني في الرياض فهي تتكلم الفارسية. ولدينا اربعة احفاد يقلبون البيت رأساً على عقب. كذلك يتحدث احد اصهاري اليابانية. وهكذا في وسعنا ان نفتح مدرسة للغات الشرقية من العائلة!".
هكذا خسرنا مصر
وانتقال الحوار مع الجنرال الى مرحلة "القطيعة" بين مصر والاتحاد السوفياتي اثر قرار السادات طرد الخبراء السوفيات في صيف 1972. فسألته عما جرى آنذاك وما طبيعة التقارير التي كان يرسلها الى موسكو بشأن هذه القضية. اجاب كيربيشنكو: "بدأنا نخسر مصر قبل طرد البعثة العسكرية السوفياتية عام 1972. وأنت محق، العامل الاساسي كانت شخصية الرئيس السادات نفسه. ودعني اعود قليلاً الى الوراء.
اللواء محمد نجيب هو الذي قاد الثورة، لكنه كان مجرد رئيس رمزي. ثم جاء عبدالناصر فالسادات فمبارك. وجميعهم من اصول واحدة لأنهم جميعهم من عائلات الفلاحين الموسرة، وكانوا عسكريين. فالقوات المسلحة هي افضل مكان لصبي ذكي ليست له خلفية عائلية مرموقة لتحقيق شيء مهم. ولهذا فهم جميعاً يتعاطفون مع الفلاحين ومع العسكريين. وكانوا جميعاً يؤمنون بمبدأ وهو ان حكم مصر يعني وجوب وجود دولة جيدة التنظيم تعطي المزارعين دوراً مهماً. وقلت في تقاريري الى موسكو ان عبدالناصر والسادات ومبارك كانوا مختلفين عن بعضهم البعض مع ان خلفياتهم كعسكريين وكأبناء عائلات فلاحين موسرة واحدة. لقد بدأوا بالطريقة نفسها لكن النتائج كانت مختلفة لكل منهم. ولمعرفة نقطة التحول التاريخية في العلاقات المصرية - السوفياتية لا بد لك وان تعود الى عهد عبدالناصر. كان عبدالناصر يعتقد ان عليه من اجل حل مشكلات مصر والانتصار على اسرائيل، ان يبدأ اولاً بتطبيق اصلاحات داخلية. فقد ابلغ سفيرنا، حين كنت مترجماً بينهما، انه يجب ان يكون لمصر جيش قوي لأنه لا يمكن لبلد ان يكون قوياً الا اذا كان جيشه قوياً. كما انه اولى اهتماماً كبيراً بالتعليم العالي والتنمية الزراعية والصناعية. وفي الوقت نفسه ابلغنا اعتقاده ان توحيد العرب كافة سيقود الى تحقيق النصر لهم على اسرائيل. ولهذا لجا الى الوحدة مع سورية عام 1958 وحاول السيطرة على اليمن، ولكن هذا أدى الى نشوب صراع بينه وبين الدول العربية الاخرى.
كان عبدالناصر مثل نهرو ومثل تيتو. فالثلاثة اسسوا حركة عدم الانحياز. لكن عبدالناصر لم يستطع تحقيق النصرعلى اسرائيل او حل المشكلة الفلسطينية. وعندما توفي عام 1970 كانت الضفة الغربية ومرتفعات الجولان وقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء ترزح كلها تحت الاحتلال الاسرائيلي. اما السادات فقد بدأ البحث عن الاسباب الجذرية لفشل عبدالناصر. كان في وسعه ان يقوي جيشه من خلال استمرار العمل مع المستشارين العسكريين السوفيات، لكنه لم يكن يؤمن بأن الجانب العسكري وحده سيحل المشكلة مع اسرائيل، بل رأى ان العوامل السياسية أهم. كذلك كانت سياسته الداخلية مختلفة. فعبدالناصر بنى قطاعاً عاماً قوياً من الصناعة في البلاد لكن القطاع كان يعاني من مشكلات كثيرة حين توفي. ولهذا بدأ السادات يفكر في افضل الطرق لاجتذاب رأس المال من الدول العربية الغنية. ورأى في البورجوازية المصرية قاعدة سياسية جديدة. وباختصار خرج بنتيجة مفادها ان المهم هو حل مشكلات الشرق الاوسط بالسبل السياسية لا العسكرية، مع الحفاظ على القوة العسكرية لانجاح العمل السياسي.
وقرر السادات ان المفتاح لحل المشكلة مع اسرائيل يكمن في ايدي الولايات المتحدة، وليس في ايدي السوفيات او الاسرائيليين او العرب. وهكذا بدأ اتصالاته مع هنري كيسينجر وريتشارد نيكسون. ورغم ماضيه الثوري ضد بريطانيا فانه كان حريصاً على ان يكون مقبولاً لدى الغرب. كذلك لم يكن لديه اي تعاطف خاص مع الاتحاد السوفياتي".
الاولوية لسيناء
ويتابع كيربيشنكو كلامه فيقول: "لقد كتبت كل هذا الكلام في التقارير التي بعثت بها الى موسكو. ولم يكن السفير السوفياتي في القاهرة آنذاك فلاديمير فينوغرادوف يتفق معي في الرأي دائماً، لكن ذلك لم يبدل موقفي. ومما ذكرته في تقاريري ان السادات اتخذ قراراً، في ضوء دراساته لمختلف الاوضاع الاقليمية والدولية، انه يجب ان يركز جهوده على تحرير سيناء واخراج الاسرائيليين منها على اساس ان تحرير سيناء اسهل من حل اية مشكلة اخرى من مشاكل ازمة الشرق الاوسط، وعلى اساس، ايضاً، ان سيناء هي الاهم بالنسبة الى مصر. وعلى هذا الاساس رفض السادات السعي الى حل النزاع العربي - الاسرائيلي ككل وبشكل شامل، وأعطى الاولوية في سياسته لتأمين وضمان مصالح مصر قبل غيرها.
ومن هذا المنطلق، ايضاً، رأى السادات ان الحل السياسي للنزاع مع اسرائيل يجب ان يبدأ بعمل عسكري، فبدأ يخطط لشن حرب محدودة ضد اسرائيل. اذ قرر انه ينبغي عليه اظهار قوته وتلقين الاسرائيليين درساً لكي يدركوا قوته ويقتنعوا بالتالي بالتفاوض معه. وهكذا كانت حرب 1973. ان العالم اجمع شاهد كيف قطع الجيشان السوري والمصري مراحل بعيدة في التطور وقد ابلى الجيشان بلاء ممتازاً في حرب 1973 بفضل المساعدة التي كانا حصلا عليها من المستشارين السوفيات. كما ان الجيشين حققا في بداية الحرب انتصارات مهمة. وفي الوقت نفسه بعث السادات من يجسّ نبض الغرب ويبلغه انه مستعد لبدء حوار مع اسرائيل. وأدى اغلاقه بعثتنا العسكرية الى اكتساب هذا المسعى مصداقية لدى الغرب. كما ان كتاب بارون جعل انعدام ثقة السادات في السوفيات أمراً يلغي الاحترام في الغرب لأنه صوّر البعثة السوفياتية على انها وكر للجواسيس وخيانة للثقة المصرية فيها. وكان الكتاب تضليلاً ناجحاً. ولا بد لي من الاعتراف بأننا لم ننجح اطلاقاً في اتقان فن التضليل مثلما نجح خصومنا فيه. صحيح اننا لجأنا الى التضليل لكننا لم ننجح مثلهم، وقد وجهوا تهماً خطيرة ضدنا لكنها كانت مختلقة. اننا رعينا ودعمنا القوات المسلحة المصرية وغيرها من القوات ولكننا لم نساعد الارهاب ابداً. ومن اعنف كتب التضليل التي وضعت ضدنا رواية فريدريك فورسايت. حبكة الرواية تقول ان "مهاجرين غير قانونيين" من السوفيات الذين كانوا يعملون معي هربوا سلاحاً نووياً الى بريطانيا، وفجروه قرب قاعدة أميركية. ويقود هذا الحادث الى موجة من السخط ضد الاميركيين والى تولي الحزب الشيوعي البريطاني السلطة في البلاد. ولكن الحقيقة هي ان هذه الرواية لا صلة لها على الاطلاق بما تقوم به المخابرات السوفياتية في بريطانيا.
ولا شك ان فورسايت استشار احد الذين انشقوا علينا مثل اوليغ غورديفسكي او فلاديمير كوزيتشكن. وفي تقديري ان غورديفسكي هو الذي كتب كتاب: "كي. جي. بي: القصة من الداخل" بالتعاون مع كريستوفر اندرو. وأنا اعتقد ذلك لأن غورديفسكي اقل دقة من كوزيتشكن، مع انني لم التق شخصياً ابداً مع غورديفسكي. ومن الواضح ان الذي ساعد فورسايت على وضع كتابه لم يكن يعرفني شخصياً".
تدريب رجال المخابرات العربية
وقلت لكيربيشنكو ان كتباً عدة عن المخابرات السوفياتية ذكرت ان عبدالناصر والرئيس حافظ الاسد لم يكونا يعلمان بأن المخابرات السوفياتية كانت تدرب ضباط المخابرات المصرية والسورية فهل هذا امر ممكن؟ اجاب: "في الثاني من ايار مايو 1958، حين كان عبدالناصر في موسكو، عرضنا عليه خبراتنا في مجال المخابرات، فأعرب عن رغبته في تدريب بعض موظفي مخابراته في هذه البلاد. وبعد ذلك كان يطلب تقارير بصورة منتظمة عن تقدم تدريبهم.
وبالنسبة الى الرئيس الاسد كان الأمر مشابهاً، اذ لم يسبق لنا ان عملنا مع احد اطلاقاً من دون موافقة حكومته. وكانت كل الشروط تبحث على اعلى المستويات مع جميع البلدان. كما اننا لم نكن البادئين بهذه الاتصالات في معظم الاحوال".
قلت له بغض النظر عن عدم التقائه مع سامي شرف، فقد كان شرف عاملاً ايجابياً في العلاقات المصرية - السوفياتية. وسألته كيف استطاع كيربيشنكو تنظيم شبكة في مصر من دون الالتقاء مع سامي شرف؟ رد بقوله: "كان شرف يعرف بوجودي لكنه لم يكن بيننا اتصال. فهل كان عاملاً ايجابياً من وجهة نظرنا؟ ان الاشخاص الذين اعتقلهم السادات في 15 ايار مايو 1971 كانوا اناساً اسندت اليهم الصلاحية للابقاء على جودة العلاقات مع الاتحاد السوفياتي. وكانوا جميعاً زاروا موسكو مرات عدة في مهمات حكومية. والشخصيات الرئيسية بينهم هي: نائب الرئيس علي صبري، وشعراوي جمعة نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية والأمين العام للاتحاد الاشتراكي العربي، وسامي شرف الذي كان المنسق العام لجميع الاجهزة الخاصة. وكان لدي اتصال مع رؤساء الاجهزة المصرية الخاصة ولكن لم يكن هناك شبكة بالمعنى الحقيقي للكلمة. اذ كنت مسوؤلاً عن امن جميع المؤسسات والمرافق السوفياتية في مصر. وكنت ضابط الاتصال مع اجهزة الامن لجميع اجهزتنا الرئاسية والحكومية بما في ذلك امن كبار المسؤولين السوفيات حين يزورون مصر. وبالطبع كانت لنا علاقات سرية مع بعض المصريين وكنا نحصل على معلومات من خلال تلك القنوات. كما ان الكثيرين من مواطنينا كانت لهم صلات وعلاقات مع مصريين. وكان الديبلوماسيون السوفيات ينقلون الي معلوماتهم. وكنا نحصل على قدر كبير من المعلومات من وسائل الاعلام. وكان عبدالناصر يعرف عن نشاطنا الاستخباري. اذ كان علينا ان نتصرف بتستر لكي نتجنب اعطاء اي اساس للتذمر والشكوى لا سيما بعد ان اصبحت العلاقات السوفياتية - المصرية ودية جداً ولم نكن نرغب في افسادها.
وكانت الجالية السوفياتية في مصر ضخمة. ولذا كانت تصلنا المعلومات حتى من ادنى المستويات. وكان مستشارونا العسكريون لهم وجود في مختلف اسلحة الجيش وعلى كل المستويات. ولهذا كان لدينا مصادر كافية للحصول على المعلومات هناك من دون استخدام مصادر المخابرات المدنية. لكن المشكلة كانت تتمثل في تحليل كل ما يتجمع لدينا. والآن وقد بدأت في كتابة مذكراتي اخذت ادرك ان جمع المعلومات اسهل كثيراً من تحليلها. وهكذا كان وجودنا راسخاً وقوياً في مصر. ومن الطبيعي ان تكون هناك استفزازات. فمثلاً اعتقل المصريون اميركياً يونانياً وطردوه، ولكن الاميركيين هم الذين خططوا لذلك. وإثر ذلك اعلنت مصر ان ثلاثة مستشارين عسكريين سوفيات غير مرغوب فيهم لأنه كان لهم كما قيل صلات مع اليوناني الذي كان يعمل في الانشاءات العسكرية ولديه اتصالات مع عسكريينا. وقيل ايضاً ان الثلاثة اعطوا اليوناني معلومات نقلها بدوره الى اسرائيل - عن تحديد اهداف مصرية للقصف وما الى ذلك - وكان ذلك استفزازاً ذكياً وماهراً. اذ ان رجالنا لم يفعلوا شيئاً، كما ان اليوناني لم يفعل شيئاً ايضاً. ولكن لما كان اميركياً فان القصة بدت مقنعة. ولما كان الاميركيون انفسهم هم الذين كشفوا احد مواطنيهم للمصريين فان هذا كان شيئاً جيداً من جانبهم، كما انه يشير الى ان مستشارينا من ذوي الرتب الدنيا والرواتب المنخفضة يمكن لاسرائيل ان تغريهم، وبالتالي فان من الخطر وجود المستشارين السوفيات على اي مستوى. كذلك نشر الطرف الآخر تقارير مفادها ان الروس كانوا يهربون الذهب الى خارج مصر فبدأت عمليات تفتيش دقيقة لأمتعة المستشارين العسكريين السوفيات في المطار. وكل ما كان معهم هو مجرد مجوهرات عادية. وهكذا فان الجانب الآخر كان قلقاً من "شبكتنا". لكن الصحيح هو ان شبكتنا كانت تتألف في معظمها من انفسنا، ومن ابنائنا".
ماذا قلت لأندروبوف؟
وعدت بالجنرال كيربيشنكو الى السبعينات. اذ ان المنشق فلاديمير كوزيتشكن الذي يعيش بهوية جديدة في بريطانيا قال عام 1990 ان السفير السوفياتي في مصر عام 1972 فلاديمير فينوغرادوف كان يرفع تقارير باستمرار الى موسكو يقول فيها ان العلاقات السوفياتية مع السادات ستظل جيدة، بينما كان كيربيشنكو يتوقع ان يقطع السادات العلاقات العسكرية مع موسكو. وحين ثبتت صحة ما توقعه كيربيشنكو نقل فينوغرادوف الذي كان عضو اللجنة المركزية للحزب ليشغل منصب نائب وزير الخارجية دون تكليفه بأي واجبات. وتبعاً لما يقوله كوزيتشكن فان رئيس الوزراء اليكسي كوسيغن قال: "رفّعوا المسؤول المعتمد في القاهرة الى رتبة جنرال وأعيدوه الى موسكو ليتولى منصباً رفيعاً". وأدى ذلك كما يقول كوزيتشكن الى ان يصبح كيربيشنكو سيد الجواسيس السوفيات عام 1974. فهل هذه القصة صحيحة اذن؟
يقول كيربيشنكو: "نعم الى درجة ما. اذ ان السفير فينوغرادوف وديبلوماسيين آخرين، وليس السوفيات وحدهم، توصلوا الى نتيجة مفادها ان مصر لا يمكنها الاستغناء عن مساعدة السوفيات لها. وكان فينوغرادوف يعتقد ان السادات يناور لارضاء الولايات المتحدة لكنه يريد الاحتفاظ في الوقت نفسه بالمساعدات السوفياتية. لكنني ارسلت تقارير مناقضة في مضمونها لتقارير فينوغرادوف قلت فيها ان السادات بدأ يبتعد عن موسكو وانه يضع في رأس اهتماماته استعادة سيناء وانه سيحتاج الى المساعدة الاميركية للضغط على اسرائيل في هذه المسألة. وقلت لاندروبوف ان هذا هو تحليلي للوضع. وفعلاً كنت مصيباً وإثر ذلك تمت ترقيتي الى رتبة جنرال.
وأنت تسألني ما اذا كان تحليلي قد استند الى معلومات من اشخاص مصريين. كلا، اذ ان الاشخاص الذين يذكرهم بارون مثل سامي شرف كانوا معتقلين اصلاً. لكنني درست القيادة المصرية بدقة - وكما قلت لك، كان لدينا طبعاً بعض العملاء في مصر قبل ان تنشأ العلاقات الودية الجيدة معها. لكن ما توصلت اليه كان نتيجة تحليل. اذ انني مثلاً فسرت طرد اصدقائنا المصريين من مراكزهم على انه جزء من خطة اوسع - لأن اعتقالهم لم يكن له اي اساس او مبرر. فقد اعتقل السادات الناس الذين كانوا على اتصال بالقيادة السوفياتية وكانوا يعارضون "إعادة النظر في العلاقات" مع الاتحاد السوفياتي. صحيح انني اعاني من قصر النظر ولكنني استطيع ان ارى الى ابعد من انفي. وبدا لي ان كل ذلك يعني شيئاً واحداً. قلت لاندروبوف رئيس المخابرات آنذاك: كان عبدالناصر سياسياً من الوسط ويضع مصر اولاً ولكن برنامجه اشمل وأوسع. اما السادات فهو ينتمي الى اليمين المتطرف. فهو معجب بهتلر وكتب عنه باعجاب في مذكراته. وهو يشير الى ان ما يعجبه في تشرشل وستالين صفاتهما الاستبدادية. وكان يحاول فعلاً تقليدهما. كان السادات معجباً بالخداع. وأوضحت لأندروبوف مثلاً ان محادثات عبدالناصر مع القادة السوريين كانت تختلف كلياً عن محادثات السادات معهم. اذ ان السادات كان دائماً يلف ويدور ويراوغ. دعني اقول لك شيئاً: حين كان السادات يتحدث من الاذاعة كنت اطفئ كل شيء آخر في الغرفة وأسكت كل ضجة اخرى فيها مثل الهاتف وجهاز التكييف وأي جهاز او آلة اخرى، وأنصت ليس لما يقوله فحسب، بل ولصوته. اذ انني كنت استطيع دائماً ان اعرف متى سيكذب. وكان في الوسع ان يكون السادات ممثلاً جيداً او ممثلاً في الميلودراما. وحين يبدأ التمثيل كنت اقول لنفسي: انه سيكذب الآن. ودعني اقول لك ان نسبة العمل التحليلي في المخابرات في ازدياد مضطرد. اذ ان المعلومات لا قيمة لها عادة من دون تحليل".
الاسبوع المقبل: الحلقة الثالثة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.