سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الجنرال كيربيشنكو يروي ذكرياته للمرة الأولى في الصحافة العالمية . "الوسط" تستجوب كبير رجال المخابرات الروسية في الشرق الأوسط : سنوات العمل السري مع العرب والفلسطينيين 1
* اسرائيل حصلت على اسرار عسكرية روسية اتاحت لها ضرب القوة الجوية السورية * الغرب اتهمني بأنني جنّدت جميع وزراء عبدالناصر لمصلحتي! * عرفات ممثل ممتاز... أما أبو نضال فرفضنا اقامة علاقات معه للمرة الاولى يتحدث "كبير الجواسيس السوفيات" في الشرق الاوسط الى أية مطبوعة عربية او روسية او اجنبية، ويكشف اسراراً ومعلومات دقيقة ومهمة عن التغلغل السوفياتي في العالم العربي وفي صفوف الفلسطينيين، وعن الدور الذي لعبته المخابرات السوفياتية في الشرق الاوسط خلال السنوات الثلاثين الماضية، وعن العلاقات التي قامت بين المخابرات السوفياتية ودول وجهات عربية عدة. الرجل اسمه الجنرال فاديم اليكسييفيتش كيربيشنكو، وهو يشغل حالياً منصباً رفيعاً في المخابرات الروسية في موسكو، اذ انه "كبير مستشاري" يفغيني بريماكوف مدير جهاز المخابرات الخارجية في روسيا. وقد خص الجنرال كيربيشنكو "الوسط"، من دون غيرها من المطبوعات العربية والاجنبية في العالم، بذكرياته، ووافق على استقبال مراسل المجلة في واشنطن راسل وارن هاوي وعلى قضاء اسبوع كامل معه في موسكو اجرى خلاله زميلنا حواراً طويلاً مع كبير "الجواسيس" السوفيات ننشره على حلقات. وفي الحلقة الاولى يكشف الجنرال سراً كبيراً ومذهلاً عن حرب تشرين الاول اكتوبر 1973 لم يسبق احد ان تحدث عنه من قبل. وفي ما يأتي الحلقة الاولى من ذكريات كيربيشنكو: كان السؤال الاول الذي وجهته الى الجنرال فاديم اليكسييفيتش كيربيشنكو: "هل سبق لك ان تحدثت في اي وقت مضى الى اي صحافي اجنبي؟" وأجابني الرجل الذي كان طوال 18 سنة أرفع ضباط جهاز المخابرات الخارجية في الاتحاد السوفياتي روسيا الآن والذي يشغل حالياً منصب كبير مستشاري يفغيني بريماكوف مدير جهاز المخابرات الخارجية في روسيا: "لم يسبق لي اطلاقاً ان تحدثت الى اي اجنبي. وباستثناء ظهوري مع مجموعة اخرى من الضباط في مؤتمر صحافي اخيراً، لم تكن هويتي معروفة لأي صحافي روسي ايضاً". وأضاف: "هذه هي المرة الاولى التي اتحدث فيها الى اي صحافي في العالم سواء كان روسياً او عربياً او اجنبياً، عن تجربتي الطويلة في الشرق الاوسط وذكرياتي مع الزعماء والمسؤولين العرب الذين عرفتهم. وهذه اول مرة اسمح لأية مطبوعة في العالم بأن تسجل ذكرياتي هذه وما تتضمنها من اسرار ومعلومات مثيرة عن الشرق الاوسط وعن شخصيات عربية مهمة معظمها لا يزال على قيد الحياة". ويبدو واضحاً من الحوار الطويل الذي اجريناه مع كيربيشنكو ان هذا الرجل ارتبط بالعالم العربي واقام علاقات وثيقة مع العرب، تماماً كما فعل تي. اي. لورنس لورنس العرب او الرحالة الشهير ويلفرد تيسيجر او سواهما من الذين خدموا في المنطقة العربية واحبوها. ويعترف كيربيشنكو بأن العالم العربي كان "حياته". والتأثير العربي امتد الى عائلته نفسها: فابنه سيرجي يشغل حالياً منصب الوزير المفوض الرجل الثاني في السفارة الروسية في الرياض، لكنه ليس ضابط مخابرات لأنه ليس مسموحاً للأب والابن بالعمل معاً في المخابرات الروسية. اما زوجته فهي التي ترجمت الى الروسية اعمال الروائي نجيب محفوظ. كما ان ابنتيه التوأم من مواليد القاهرة واحداهما تقوم بتدريس اللغة العربية في الاكاديمية العسكرية في موسكو. كيربيشنكو معجب بعدد من القادة العرب. مدينته المفضلة هي القاهرة. وحين تسأله عن الاطباق والمأكولات العربية التي يفضلها يكاد لعابه يسيل. قالت لي ان زوجته قرأت جميع الاعداد التي صدرت من "الوسط" وانها تعتبر ان اختيار اسم "الوسط" للمجلة كان موفقاً جداً. اسبوع كامل امضيناه مع الجنرال كيربيشنكو في موسكو كشف خلاله من المعلومات والاسرار عن الدور السوفياتي في الشرق الاوسط ما لم يكشفه اي رجل مخابرات سوفياتي حتى الآن. الجنرال كيربيشنكو رجل مليء الجسم، يعاني من قصر النظر وانحسار في شعر الرأس، وهو في السبعين من عمره. وشفتيه ترتسم ابتسامة فاترة حين يعترف بأنه يشعر بارتعاش من فكرة جلوسه عدة ايام لاجراء مقابلات معه للمرة الاولى في حياته. ومن المرجح ان تكون هناك اسئلة سيحجم عن الاجابة عنها لأسباب امنية كما يقول. ولكنه يعد بأن تكون اجاباته عن جميع الاسئلة الاخرى صادقة وصحيحة. وهكذا قررنا اتباع جدول من المواعيد التي تتلاءم مع ارتباطاته وواجباته. اذ اننا سنتحدث نصف يوم، كل يوم لمدة اسبوع. وبدأت بأن طلبت منه الحديث عن نفسه وعن حياته، فقال: "أنا من كيرسك التي تقع على بعد حوالي 800 كيلومتر عن موسكو قرب الحدود مع اوكرانيا. واسم عائلتي اوكراني في لفظه ولكنني روسي. خلال الحرب كنت اريد ان اصبح طياراً، ولكن لم يكن لدينا العدد الكافي من الطائرات لجميع اولئك الذين اكملوا تدريبهم، وتأهلوا للطيران. ولهذا اصبحت مظلياً. واثناء التحاقي بالجيش بدأت بتنظيم نفسي لفترة ما بعد الحرب، فأدركت انه يجب علي ان ادرس. كان والدي ووالدتي يعملان في السكك الحديد، ولكنني أردت ان انجز ما هو افضل من ذلك لكي يفخرا بي. ولم اكن متأكداً مما سأدرس: الادب الروسي ام الشؤون الدولية؟ وبعد الانتصار في الحرب استفسرت من جامعة موسكو عن الدراسات الشرقية. وذهبت الى المعهد للاستفسار فالتقيت بمدير المعهد. رحب بي بحرارة وقال: "اننا بحاجة الى أناس من أمثالك - من الضباط الشباب الذين يهتمون بالأدب وبالناس". فقلت له انني لم استعد لامتحان الدخول، ولكنه طمأنني وقال انه واثق من انني سأجتاز الامتحان. وهذا ما حصل. قبل ذلك لم تكن لدى اية فكرة عن العالم العربي. وقدمت طلباً للدراسة في قسم الدراسات التركية مع ان هذا لم يكن فيه الكثير من الاثارة بالنسبة الى روسية، اذ اننا طالما حاربنا في عهد القياصرة ضد تركيا. ولكن كان هناك الكثيرون من المواطنين السوفيات الذين يتكلمون التركية - فهناك خمس جمهوريات سوفياتية لغتها تركية. وحين نصحني بعضهم بمحاولة تعلم اللغة العربية قررت الاخذ بهذه النصيحة. وهكذا كان الامر صدفة. وفي المعهد التقيت زوجتي فالري نيكولايفنا. اذ بدأت الدراسة العربية في سن الخامسة والعشرين بينما كانت هي بدأتها في سن السابعة عشرة. وسرعان ما تفوقت علي. وهي تحمل الآن شهادة دكتوراه في فقه اللغة. وفي وسعي القول انها الاخصائية الرائدة في الادب العربي في بلادنا. وهكذا كان اختيار الشرق الاوسط بالنسبة الي اختياراً عشوائياً، ولكنني سعيد لذلك الاختيار، وانا مدين بالعرفان لأولئك الذين نصحوني بدراسة العربية. لقد مضى علي الآن اربعون عاماً في المخابرات. بدأت في تونس خلال فترة المشكلة الجزائرية، حين كانت جبهة التحرير الوطني الجزائري تتخذ مقرها في تونس، ثم أقمت في مصر مرتين من عام 1954 الى 1960 ومن عام 1970 الى 1974. اي عشر سنوات. وشهدت كل الحروب. ومن 1960 الى 1970 كنت في انحاء اخرى من افريقيا السوداء. وبين 1974 و1991 كنت نائب رئيس المديرية العامة للمخابرات الاجنبية في الاتحاد السوفياتي. وتوليت مسؤولية الضباط والعملاء الذين لا يتمتعون بالحصانة الديبلوماسية. والآن ها انا كبير مستشاري المدير الجديد لجهاز المخابرات الاجنبية يفغيني بريماكوف الذي كان رئيس مكتب الشرق الاوسط لصحيفة "برافدا". واعتقد ان اول نجاح لي كان في اليمن. وكان ذلك عام 1975 حين كنت سكرتيراً ثانياً في سفارتنا في القاهرة وكان سفيرنا فيها معتمداً ايضاً في اليمن. اذ كانت مسؤوليتي اقامة علاقات مع اليمن ومرافقة السفير حين قدم اوراق اعتماده الى الامام. ولهذا التقيت ولي العهد اليمني الأمير محمد سيف الاسلام البدر. وكان صديقاً للاتحاد السوفياتي. وكانت الملكة اليزابيث الثانية دعته الى القيام بزيارة رسمية الى لندن وقضاء اسبوعين هناك. وطلب مني ان أرافقه كحارس شخصي. وحين وصلنا الى لندن ذهل سفيرنا هناك يعقوب مالك عندما شاهدني بين حاشية الامير، فقال لي "كيربيشنكو، لماذا لا يستخدم الأمير حرساً من أبناء شعبه؟" قلت له: "إنه يقول انهم جميعاً جواسيس للانكليز". علاقتي بالمخابرات المصرية ويمسك كيربيشنكو بكتاب صدر في الغرب منذ سنوات عن "الكي. جي. بي" اي المخابرات السوفياتية لمؤلفه جون بارون، ويقول لي ان بارون يتحدث عنه في هذا الكتاب لكنه يخطئ في اسم عائلته. ويضيف: "بارون يزعم في كتابه انني كنت، خلال وجودي في القاهرة، اتحكم بالمعلومات الاستخباراتية التي كانت تصل الى الرئيس جمال عبدالناصر، وانني كنت مسيطراً على سامي شرف الذي شغل لفترة من الفترات منصب وزير شؤون الرئاسة المصرية، وتولى مسؤولية التنسيق بين جميع اجهزة المخابرات المصرية. لكن ما يقوله بارون هو تضليل ذكي. لقد نشر كتاب بارون عام 1974، وجاء فيه انني جندت جميع وزراء عبدالناصر واستخدمتهم لأغراضي واهدافي الخاصة ضمن مسؤولياتي في المخابرات السوفياتية. وهذا ليس صحيحاً، فلم تكن لي علاقة مع سامي شرف على رغم انني رأيته مرة في حفل استقبال. لكننا لم نتحدث معاً ابداً. وقد اعتقله السادات في شهر ايار مايو عام 1971 مع عدد من الآخرين الذين كانوا على صلة وثيقة بعبدالناصر وبموسكو. والصحيح انني كنت على اتصال مع المخابرات المصرية. وقد حصلوا على بعض الحقائق ثم بنوا عليها قصة. لكنني لم ألتق اطلاقاً بسامي شرف". ويعرب كيربيشنكو عن اعتقاده بأن نشر كتاب بارون هذا عام 1974 "جاء لتبرير ما فعله السادات قبل حرب اكتوبر 1973 حين طرد الخبراء السوفيات من مصر". وكان كيربيشنكو المسؤول الاول عن المخابرات السوفياتية في مصر خلال فترة عمله في القاهرة. ويتناول بعد ذلك كتاباً للمؤلف البريطاني فريدريك فورسايت يحمل عنوان "البروتوكول الرابع" ويقول فيه فورسايت ان كيربيشنكو قتل في حادث سيارة عام 1985، ويتطرق الى علاقاته مع سامي شرف. ويعلق الجنرال على ذلك فيقول: "حسب فورسايت فأنا ميت منذ 7 سنوات. كتابه يتضمن معلومات خاطئة عني، لكنه كان مصيباً في شيء واحد وهو انه تمكن من تحديد رتبتي وموقعي في جهاز المخابرات السوفياتية". نحن وعرفات وحبش وانتقلنا في الحوار من الكتب الى منطقة المغرب العربي. سألته: * ماذا كانت التعليمات الاساسية المعطاة لك من قبل ادارة المخابرات السوفياتية بالنسبة الى المغرب العربي؟ أجاب: "سياستنا هي مساعدة جميع الحركات الوطنية على تحقيق الاستقلال في بلادها، في افريقيا وفي الشرق الاوسط. كنا نحارب النظام الاستعماري ولم يكن لدينا حافز محدد. اذ لم يكن في الوسع الحصول على مكسب من المنطقة في ذلك الحين. كنا نريد تكوين اصدقاء لنا، تولينا بناء سد اسوان في مصر حين تراجعت الولاياتالمتحدة عنه. كانت اوامرنا تقضي بمساعدة الآخرين، اذ ان بناء الصداقات في العالم العربي كان مهماً من الناحية السياسية بالنسبة الينا في صراعنا الرامي الى وقف نفوذ الولاياتالمتحدة وحلفائها في الشرق الاوسط. كان الشرق من وجهة نظرنا الباب الخلفي لحلف شمال الاطلسي. لقد اعتبرنا الشرق الاوسط نقطة الضعف للحلف الاطلسي. وكنا نشعر بصداقة طبيعية تجاه الدول العربية. كانت علاقاتنا ودية فعلاً، ولكنها لم تكن موثوقة. وقد التقيت عرفات للمرة الاولى حين زار سفارتنا في القاهرة، وهو زارها مرات عدة بين عام 1970 و1974. ومن الطبيعي اننا قمنا بدراسة شاملة للقيادة الفلسطينية. صحيح ان جورج حبش كان قريباً منا ايديولوجيا، لكن منظمة التحرير الفلسطينية كانت هي القيادة للحركة الفلسطينية، ولا يزال لنا معها علاقات طبيعية. ان الكثيرين من الناس قالوا ان عرفات انتهى. ولكن هذا الحكم كان نتيجة سطحية دراساتهم وعدم عمقها، فعرفات سياسي عريق وله وزنه. وقد اثبت ذلك ببقائه وصموده كل هذه السنوات، وبالمحافظة على تركيبة منظمته عبر كل المحن. ولا يزال هناك دور مهم لمنظمة التحرير. اذ ان 114 دولة تعترف بها، اي اكثر من الدول التي تعترف باسرائيل. وانا اعتقد ان اسرائيل ستصمد. ولكننا نعرف يقينا ان فلسطين ستبقى. لقد واجه ابو عمار طوال حياته الخير والشر. وهو مضطر للمناورة، لذا فهو يخطئ من حين الى آخر. وهكذا فإن تأييده صدام حسين بعد احتلال الكويت كان خطأ جسيماً. ياسر عرفات يسعى الى تحقيق توافق عام في اطار الحركة الفلسطينية. وقد ينجح احياناً او يفشل. لكن عرفات في نظري هو اكثر الزعماء الفلسطينيين واقعية. "في تقاريري الى مركز موسكو للمخابرات السوفياتية قلت ان سلوك عرفات امام الناس قد يعطي الانطباع بأنه رجل غير جدي، فهو لا يحلق مثلاً، وربما يبدأ الحلاقة الآن بعد اصبح له زوجة شابة. ولا يعرف احد اين سينام عرفات كل ليلة. وقد تكون الامور تغيرت قليلاً الآن بعد ان تزوج. ولكن لا بد له من اتخاذ احتياطات. وربما كان صحيحاً انه اذا ما اغتيل عرفات على ايدي شخص اشتراه الاسرائيليون، فإن رئيس وزراء اسرائيل، اياً كان، لن يظل في الحكم. ومعنى هذا الكلام انه ربما كانت هناك قوى داخل اسرائيل يمكن ان تتآمر على قتل عرفات لكي تضمن موت رئيس وزرائها وتنهي عملية السلام". ويتابع كيربيشنكو حديثه عن عرفات فيقول: "ابو عمار ممثل ممتاز. فهو يستخدم دائماً اي مناسبة لكي يبين ان له شعبية واسعة واتصالات واسعة ايضاً. وهو ينتهز كل مناسبات التصوير الفوتوغرافية، كما انه يستخدم اتصالاته ومعارفه. ولهذا فهو لا يزال قوة لها وزنها، ان الفلسطينيين سيحصلون على حكم ذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة. فالرأي العام بدأ يميل الى جانبهم. ان كل اوروبا تقريباً، من بروكسيل حتى موسكو، تقف الى جانبهم. وكان الاعتدال الذي اظهره عرفات خلال السنوات الاخيرة عاملاً مساعداً على هذه النزعة، مثلما كان الاعتدال الذي اظهرته كل الدول العربية تقريباً. اذ ليس هناك اي زعيم عربي يريد القاء اسرائيل في البحر. وكل شيء يشير الى قرب اتخاذ قرار واقعي مقبول للجميع - ربما لا يتحقق الحكم الذاتي هذا العام او العام المقبل، ولكنه سيتحقق قريباً". ابو نضال والارهاب وسألت الجنرال اذا كان يعتقد ان ابو نضال صبري البنا اقام علاقات مع المخابرات الاسرائيلية فأجاب: "أنا لا اعرف اذا كان ابو نضال عمل لحساب اسرائيل. ولكن من الواضح ان الاسرائيليين يرحبون بعناصر مثله لأن تطرفه يغذي تطرفهم. ونحن لا نقيم اية صلة معه اطلاقاً". * وماذا عن جورج حبش؟ يرد كيربيشنكو: "انا شخصياً لم يسبق لي اطلاقاً ان التقيته. لكن وكالة سوفياتية مختلفة كان لها صلات مع حبش لتنظيم المساعدات له. وكانت هناك اتصالات ديبلوماسية واستخبارية سوفياتية معه. وحبش رجل على قدر كبير من الثقافة. وكان في الوسع اتهامه قبل عشرين عاماً بالارهاب واختطاف الطائرات. الا ان وضعه في فئة الارهاب نفسها مثل مناحيم بيغن هو في منتهى السخافة والحماقة. ومع ذلك، لا بد من القول انه في كل مرة كان يلتقي فيها ممثلونا بالقادة الفلسطينيين، كنا نقول لهم دائماً انه لا علاقة لنا بالارهاب. ومن الطبيعي ان الطرف الآخر نشر معلومات مضللة ومغايرة في الصحف. ولكن هذا امر طبيعي ايضاً لأن جميع اجهزة المخابرات تلجأ الى التضليل. ومن السهل تزويد الصحافة الحرة بالمعلومات المضللة، مثلما يسهل تزويد الصحافة الخاضعة للاشراف الحكومي. ولو اننا ارتبطنا بالارهاب بأي شكل لخسرنا الشيء الكثير". ويتابع الجنرال حديثه فيقول: "لقد اتهم الغرب السوفيات بأنهم شجعوا عبدالناصر عام 1967 والسادات عام 1973 على شن الحرب ضد اسرائيل. وهذا ليس صحيحاً. تذكر ان السادات طرد الخبراء السوفيات عام 1972. الاتهام الثاني الذي وجهه الغرب الينا هو اننا ايدنا الارهاب العربي ودعمنا ومولنا تنظيمات ارهابية فلسطينية وعربية. وهذا غير صحيح. اننا كنا دائماً نحذر القادة العرب من مخاطر الحرب، لقد عززنا قواتهم المسلحة، ولكننا اوصيناهم بعدم استخدام تلك الاسلحة الا اذا تعرضوا للهجوم. وكنا نخشى الحرب دائماً لأن العلاقات السوفياتية - العربية كانت تمر في فترة حرجة ومعقدة وصعبة بعد كل حرب. كذلك لم يكن بيننا وبين ابو نضال اي اتصال ابداً. وحين كنا نكتشف ان هذا الشخص او ذاك ممن كانوا يزورون سفاراتنا، هم من العاملين فعلاً مع ابو نضال، كنا نحذر بعثاتنا لكي تتجنبهم. فقد كنا نخشى دائماً ان يكون هذا الشخص عميلاً يوجهه الطرف الآخر لاستفزازنا، لأن تطرفه كان يخدم اسرائيل على خير وجه. هل يعني ذلك ان سياستنا تجاه الشرق الاوسط لم تتغير طوال السنوات؟ نعم، ولا. ان السياسة الخارجية لروسيا الآن تبحث عن منهج جديد بعد ان انتهى العداء بيننا وبين الولاياتالمتحدة. فالسياسة الخارجية السوفياتية كانت تقوم على اساس الانتشار على نطاق عالمي شامل. وهو امر يفوق طاقاتنا ومواردنا، اما اليوم فنحن بحاجة الى نهج جديد يتلاءم مع وسائلنا ومواردنا. اذ لم يعد في وسعنا مثلاً منح اية تسهيلات ائتمانية. ونحن لا نريد ان نخسر علاقاتنا الجيدة في الشرق الاوسط، ولكننا نريد علاقات اقتصادية تعود علينا بقدر اكبر من النفع. وباختصار: في ما يتعلق بفلسطين، يمكن القول ان مبادلة الارض بالسلام، والحكم الذاتي عملية لا يمكن وقفها. فهذا الامر سيرضي جميع الدول: الدول الغربية وغيرها، وفلسطين نفسها، والى درجة كبيرة اسرائيل. لقد قال ديفيد بن غوريون ذات مرة، ان اسرائيل ستبدأ في الشعور بالخوف من العرب عندما يتعلمون الوقوف في صف واحد امام الباص. وهذه ملاحظة دقيقة جداً ومهمة جداً. فإذا كانت تعني ان عدم الانضباط والتفرق بين العرب من الامور التي اعاقت تحرير فلسطين، فهذه مسألة معقدة ومن الصعب الاجابة عنها. ولكنها تتطرق الى الاسباب التي جرّت الى الهزائم المختلفة التي مني بها العرب. فالعرب شجعان ولكنهم يفتقرون الى التنظيم الجيد والانضباط. وقد كان لهذا الافتقار دور في هزائمهم". سرّ كبير من حرب 1973 وهنا يكشف كيربيشنكو سراً كبيراً عن حرب تشرين الاول اكتوبر 1973 فيقول: "كانت بداية حرب عام 1973 ناجحة. لكن النصر لم يتحقق لأنه لم يكن هناك تنسيق حقيقي بين انور السادات وحافظ الاسد. اذ ان السادات لم يستخدم قواته لمساندة السوريين مثلما نصحناه ان يفعل، ولهذا تحولت الحرب الى مأساة بالنسبة الى السوريين. اما المصريون فقد تفادوا الهزيمة نتيجة التدخل الاميركي. وهكذا فإن حرب اكتوبر اظهرت انعدام التنسيق. واذكر ان وزير الدفاع المصري ابلغ احد المستشارين العسكريين السوفيات في حرب عام 1967: "ان استراتيجيتكم معقدة جداً. اننا لا نستطيع ان نفعل اكثر من شيء واحد في وقت معين". "وكمثال على الافتقار الى التنظيم، سلاح الجو السوري. اذ لم يكن هناك مطعم للضباط. وهكذا كان الطيارون يغادرون القاعدة لشراء شيء رخيص لا قيمة غذائية له. حتى في الحرب العالمية كان لدى طيارينا حلويات كجزء من الوجبات. وأنت تسأل عن المهارات النسبية للطيارين، والخصائص النسبية للطائرات، وما اذا كانت اجراءاتنا الالكترونية المضادة والاجراءات المضادة للاجراءات المضادة في الطائرات السورية جيدة مثل المعدات الاميركية في الطائرات الاسرائيلية. الواقع ان جميع الطيارين في كل مكان متطوعون، ولهذا فإن كل الطيارين شجعان. ولقد كان الطيارون السوريون بمستوى القدرة كالطيارين الاسرائيليين. والمعدات؟ في اكتوبر تشرين الاول عام 1973 كان لدى السوريين طائرات ميغ -21 ومشتقاتها الاخرى. وكانت طائرة ممتازة جداً آنذاك، ومعادلة لطائرة فانتوم -4. وكان الطيارون على درجة عالية من التدريب والتأهيل. اذن لماذا حلّت بهم الهزيمة؟ هناك ثلاثة اسباب. نقطة الضعف السورية الاولى هي ان عملية صنع القرارات كانت تستغرق اكثر مما ينبغي من الوقت. اذ كانت الحاجة تدعو الى قرار من السلطات الاعلى لكل حركة صغيرة. ولم يكن للطيارين اي حرية في اتخاذ القرارات. قد تقول ان هذا ينطبق ايضاً على الطيارين السوفيات، وان الطيار لا يستطيع حتى ان يشغل طائرته من دون تعليمات من الارض. ربما كان هذا صحيحاً. لكن السوريين بالغوا جداً في تطبيق هذا المبدأ. النقطة الثانية هي ان الاسرائيليين كانوا يطيرون على ارتفاعات منخفضة، ولهذا تجنبوا الرادار ودمروا المطارات السورية. وقد تقول انكم كنتم - كالاميركيين - تطيرون في الحرب العالمية الثانية على مستوى رؤوس الاشجار من اجل تجنب شبكات الرادار والنيران المضادة للطائرات، صحيح. ولكن سلاح الجو السوفياتي لم يفعل ذلك. وآخر الاسباب الثلاثة هو ان الاجراءات الالكترونية المضادة، والاجراءات المضادة لها كانت مجال قوة لدى الاسرائيليين ونقطة ضعف عند السوريين. الا ان المشكلة تكمن في المخابرات، ذلك ان المخابرات الاسرائيلية كانت على غاية الكفاءة في سورية. كما ان اعتراضاتها الرسائل السورية كانت ممتازة. وكان للاسرائيليين "الموساد" او "أمان" المخابرات العسكرية جواسيس داخل سورية يرسلون تقارير الى الاجهزة الاسرائيلية المختصة. لكن اهم العوامل اطلاقاً التي اضعفت السوريين في المواجهة مع الاسرائيليين رجل اسمه الكسندر غريغوريفتش تولكاشييف. هذا الرجل كان عالماً سوفياتياً رائداً في مجال الالكترونيات، لكنه كان ايضاً جاسوساً يعمل لمصلحة المخابرات المركزية الاميركية السي. آي. اي لقد اكتشفنا لاحقاً ان الكسندر هذا زود المخابرات الاميركية بجميع المعلومات المتعلقة بما لدينا من الكترونيات ورادار ومعدات طيران وقياسات جوية، بما في ذلك حتى اجراءاتنا المضادة والاجراءات المضادة لاجراءاتهم المضادة. وقامت المخابرات الاميركية بدورها بتزويد اسرائيل بكل ما حصلت عليه من الكسندر، الامر الذي يعني انه كان يستحيل على سورية ان تنتصر في الحرب الجوية ضد اسرائيل عام 1973 ومع انه كانت هناك عدة عوامل ضد سورية عام 1973 ساهمت في الهزيمة الجوية السورية فإن اهم تلك العوامل على الاطلاق هو الكسندر غريغوريفتش تولكاشييف. وقد تسأل اذا كنا استطعنا اكتشافه من خلال جواسيسنا في المخابرات الاسرائيلية. وهنا اقول ان هناك اموراً لا استطيع حتى الآن التحدث فيها. ولكنك تعرف ان لنا مثل اولئك الجواسيس. فنحن نرسل آلاف اليهود الى اسرائيل كل شهر. فهل ما يثير الدهشة اذن ان يكون بينهم بعض الناس الطيبين؟ وها أنت تسألني اذا كنا أمسكنا به واعدمناه. ويضحك الجنرال، نعم، بالطبع. لكن هذا كان بعد فوات الاوان، اذ ضبطناه عام 1985 مع اميركي يعمل تحت ستار ديبلوماسي اسمه بول ستومبوش. ويبدو ان غريغوريفتش فعل ما فعله من اجل النقود. وبعد اكتشافنا له قمنا بإعدامه. وهذه هي المرة الاولى التي نكشف فيها هذا السر".