اذا ما دعي زائر اجنبي الى مركز المخابرات المركزية الاميركية سي. آي. ايه في لانغلي في ولاية فيرجينيا فان سائقه سيبدو مثل مدير بنك تحت التدريب، بقميص ابيض ناصع اللون وربطة عنق سوداء. وستكون السيارة من موديل حديث تشع من نظافتها. كما ان الكتابة على باب السائق ستشير الى ان السيارة حكومية. وفي هذا ما لا يوحي اطلاقاً بالسرية او التكتم! هذا أنا الآن اجلس في سيارة لا تحمل اية علامة اطلاقاً، ولا بد انها قطعت عشرات الآلاف من الكيلومترات، وغطى الوحل جوانبها. انني في طريقي الى عمارة كولياشيني لين. اما السائق فهو شخص عادي جداً ويرتدي سترة من الصوف لاتقاء البرد، كما انه بحاجة ماسة الى حلاقة. وعمارة كولياشيني تقع في منطقة مهملة من موسكو القديمة ولا تحمل اية علامة او اشارة. وليس هناك اي حرس يمكن للمرء ان يشاهده. والمصعد فيها مركب في بيت الدرج كما هو الحال في بيوت باريس قبل الحرب العالمية الاولى وعلى الدرجات تجد السجاد وقد ثبت بقضبان حديدية مثلما كان الحال في اوروبا قبل عهد الثورة. اما الاثاث فهو من النوع الثقيل المتين. هذه العمارة هي احد المراكز التابعة للمخابرات السوفياتية الكي. جي. بي سابقاً والروسية حالياً. وفيها استقبلني الجنرال فاديم كيربيشنكو. ويتألف المبنى من ستة طوابق. وكان في السابق منزلاً لطبيب ثري في العهد القيصري قبل ان يهرب الى اوروبا الغربية عقب الثورة البولشفية، ثم اصبح منزلاً لابوموكوف الذي كان نائب بيريا المعروف باسم الجلاد وأول رئيس لجهاز "كي. جي. بي" وقد قرر بيريا اعطاء ابوموكوف رتبة جنرال في الثالثة والثلاثين. وفي هدوء المكتبة في هذا المبنى وضع هذا الشاب الذي كان مرهوب الجانب قوائم بأسماء اعداء الثورة لاعدامهم. وقد قال لي مضيفي الجنرال انه اضطر ذات ليلة الى البقاء في المكتبة بعد ان طالت الاجتماعات ولم يعد في مقدوره الذهاب الى بيته. ولكنه لم يستطع النوم اطلاقاً تلك الليلة لأن الغرفة كانت مليئة بالاشباح في رأيه. المخابرات السوفياتية تضم اجهزة للمخابرات العاملة في الداخل وأخرى للمخابرات الخارجية العاملة في دول العالم. ومن الفروق بين سي. آي. ايه وبين المديرية العامة الاولى في كي. جي. بي. المخابرات الخارجية ان كل ضابط من الثانية يتحدث لغتين اجنبيتين على الاقل بطلاقة ولكن بلكنة تشرحها وتفسرها قصته الخاصة التي يستخدمها ستاراً لطبيعة عمله كما ان كي. جي. بي. قامت بمهماتها بموازنة متواضعة الى درجة لا تكاد تصدق، وبرواتب اقل كثيراً حتى من رواتب العاملين في منظمات مثل منظمة العفو الدولية. وتطلب الوكالة من الشباب والشابات ممن يتدربون للعمل في مديرية "س" اي ضباط المخابرات غير الديبلوماسية ان يدرسوا اعمال الكتاب والمؤلفين الاميركيين والبريطانيين عن كي. جي. بي. وتحليل ما يرد فيها من معلومات مضللة وما فيها من اخطاء. ونظراً الى ان جميع المؤلفين الغربيين اخطأوا في ذكر اسم عائلة الجنرال كيربيشنكو مع انه ارفع الضباط المحترفين في المخابرات السوفياتية، فان هذا يعني ان كتاب جون بارون وضع على عجل وأن الكتّاب الآخرين كرروا اخطاءه. اما لماذا قال فورسايت ان كيربيشنكو توفي عام 1985 بينما لا يزال على قيد الحياة ولا يزال يعمل حتى اليوم في المخابرات، فهو أمر ربما كان نتيجة خطأ حقيقي او ربما كان نوعاً من معلومات التضليل المقصودة. كيف كانت مديرية المخابرات الخارجية السوفياتية وكيف هي الآن؟ ان كتاب "داخل كي. جي. بي" الذي نشره في لندن عام 1990 احد ضباط المخابرات السوفياتية وهو فلاديمير كوزيتشكن فيه تعرية لها مثلما كان كتاب "عن طريق الخداع" الذي وضعه فيكتور اوستروفسكي تعرية للمخابرات الاسرائيلية. اذ انه صور نقاط ضعف كي. جي. بي ونقاط قوتها، وأظهر انها ليست مرهوبة الجانب بتلك الدرجة التي كان يتصورها الآخرون. ان ضباط المخابرات السوفياتية لا يتندرون هذه الايام حين يتحدثون عن احتمال تحويل سجن "لوبيانكا" الشهير الى فندق للسياح القادمين من الغرب. كما انهم يخلطون الهزل بالجد حين يقولون لك: "الاجرة مئة دولار لذا نمت في سرير، ومئتا دولار اذا نمت على حصيرة قذرة وسجن "لوبيانكا" هو اشهر سجون المخابرات السوفياتية.