لقد ولى الزمن الذي كان يقول فيه المثقف الحقيقة للناس، لأنه لم يعد يعرفها أكثر منهم! هكذا يوضح فوكو موقفه من المثقف، وفي ظني أن هذا التصور أصبح ملحاً أكثر مما سبق عندما أشاع فوكو هذه الفكرة عن ذلك المثقف، فساحة الثقافة اليوم أصبحت أكثر اتساعاً مما يقدر عليه المثقف الراكن للدعة الذي يعيش أوهام نخبويته المزعومة، فمفاعيل الثقافة ومفاصلها باتت تُبتكر وتُبنى من شريحة أكبر، لا تتخذ لذاتها صفة الثقافة كزعم ذاتي، أو بعبارة أدق، فالمنظومة الثقافية الفاعلة، المنتجة لنسيج الثقافة الطاغي، لا تريد أن تتسم أو تتوشح لباس مسمى المثقف، فقد اهترأت التسمية بفعل اهتراء مقوماتها من ادعيائها المتكلسين، الذين باتوا يسترجعون هيأتهم المطرزة بوهم النخبة، وادعائهم الممجوج بتملك الحقيقة التي ظلوا سنين ممتدة يفخرون بحمل لوائها، والتبشير بمعطياتها التي لم تنتج ثقافة فذة، بل أصّلت لامتهان فكرة المثقف، وإصرار مريب لتشكيل هذا الصنم/ المثقف، الذي لا يضر ولا ينفع. لقد تجاوزت الثقافة لدينا دور الوصاية ونبذت مفهوم الحارس القيم عليها، وهذا لم يحدث فقط لأن الثقافة تعدت بوسائطها وسُبل إنتاجها فكرة البناء الفردي والنخبوي لنسيجها الممتد لأصقاع المجتمع ومغاوره، ولكن المثقف فقد أفضليته في إنشاء هذه الثقافة بشكل أو بآخر، وذلك تبعاً لمفاعيل سيسيوثقافية وممارسات سلوكية معينة، أفضت إلى تخلي الثقافة كمكون معرفي عن سادنها ومنتجها المزعوم. فقد أدى سلوك بعض المثقفين لدينا إلى انتفاء أهليتهم لإنتاج الثقافة، أو إقامة علاقة مبررة مع مفهوم الثقافة. استكانت النخب المثقفة لهوامش الفعل الثقافي، وسُحرت بوهم المسمى، ففاق نضالها من أجله، النضال المفروض في إغناء مادة الثقافة وتلقيح زواياها، والشغل على إنتاج وابتكار مواضع فعلها من رفع مستوى الوعي المجتمعي، وإذكاء مفاهيم التعامل المعرفي، وإنتاج الطاقات المسلحة بالفكر التنويري الذي يضمن للمجتمع ارتقاءه وتمكن عراه التي تشكو التفكك. بات من المشهود في وسطنا الثقافي هذا التناحر على حفظ المَيّزة الرمزية، والمكانة الشخصية التي تصطبغ بمسمى المثقف، هذا التشخيص الذي أفرز أصناماً جامدة ليس لها أدنى علاقة بحراك أو تفاعل، مع منظومة إنتاج الثقافة، أو التحلي بأخلاقها التي تنبثق من صيرورتها الغنية، فبات البحث عن موقع يضمن التسمية شغلٌ شاغل لمدعي الثقافة، أو من سقطوا في وحل تخليهم عن الالتئام مع الثقافة كمكون معرفي فائق، لتتحول معارك الثقافة ليس للبحث والتدارس حول فعاليتها، وليس للدفاع عن أفكارٍ قد بُذلت المجهودات العقلية لابتكارها والتبشير بفاعليتها أو ممارستها، ولكن الحوارات أضحت تُبذل في سبيل إضرامها للمرجعيات الشخصية أوالانتماءات الأيديولوجية، والمحافظة على الغنائم الفردية، والتشبث بمجد السلطة التي تمليها مسميات أُفرغت من معانيها، كالكاتب والمثقف والمفكر، فجاز لنا بعد ذلك أن نعلن البينونة الكبرى التي شقت أواصر الالتحام بين المثقف كمفهومٍ عريق يضرب بجذوره في عمق التاريخ الحديث، وبين الثقافة التي ارتأت لها بعلاً غير الذي خطب ودها في بادئ الأمر، فأهمل مقومات فتوتها، وفضّل عليها رمزية اقتيادها والتبجح بمسماها. لكن الثقافة كابنة شرعية لحراك المجتمع والأفراد الذين يقدّرون وهجها وزينتها، ومقدرة تأثيرها، ارتمت في حضن آخر، ينجز مفاصلها، ويبني هيكلها ومعمارها بعيداً عن وهج التسمية، وعن تغرير السلطة التي تُنتزع من شرعيتها، لتُمارس على نحوٍ يدّعي جهل العامة بها، ما يفضي إلى احتكار القول بها. وكأن الناس مغيبون تماماً عن اعتمالات نشاطاتهم الاجتماعية ونتاجات تفاعلهم مع محيطهم من شواهد معرفية، تنتجها التقنية الحديثة بيسر بالغ، يتفوق على ما يُعد في بوتقة المثقف المنعزل الذي طلب ود الرياسة والمكانة، فاهترأت أدواته ولم تقو على إنتاج قيمة ثقافية معتبرة. إن نسيج الثقافة اليوم يُنتَج بعيداً عن مخيلة التعالي، وينزل لمستوى الحدث والفرد المتعاطي مع ما حوله"لم تعد مهمة المثقف مقتصرة على اختزال المسمى وبيع الوهم على الناس على أنه الحقيقة المحضة، المنحدرة من أعالي غروره الذي تنامى بفعل غياب المنافس الحقيقي، فلقد احتكر المثقف الصوري كما أريد أن أسميه، فعل الثقافة لسنين ممتدة، كان المجتمع فيها لا يقدر على إبراز منتجه الثقافي المهم، وهنا أشير إلى نقطة بالغة الأهمية، وهي أن فعل إنتاج الثقافة لم يكن معطلاً في ما سبق، إبان تسلط المثقف الصوري على ساحة الحدث الثقافي، ولكن المؤسسات النخبوية، والتفاف المثقفين الصوريين على أنفسهم، منع تلك المحاولات الفتية لإظهار منتجها الثقافي، كما أن محدودية الوسائط كانت عائقاً كبيراً يواجهه أفراد المجتمع الذين مُورس عليهم الإقصاء من سدنة الثقافة وحراسها"لكن الوضع قد تغير الآن، فقد تعددت الوسائط وأصبحت ذات جدوى، وتقنية عالية وفائقة، تفوق أدوات المثقف الصوري الذي ارتكن لمنظومته الجامدة، اذ أفرز هذا الارتكان نزوعاً للتفرد بالقيمة الثقافية، وإلى الإعلاء من شأن الصفة والمسمى، فغاب المثقف وانفصل عن الثقافة، وظل يصارع من أجل الإبقاء على الصفة الرمزية، فيما كانت الثقافة تستحث الخطى نحو أفق أرحب، ومساحة شاسعة، تنبت فيها ثمارها. والآن لم نعد بحاجة لاحتكار الثقافة وفرض هيمنة المثقف على مجريات العملية الثقافية، فقد باتت مخرجات المجتمع تجد سبيلاً نحو توطئة فذة لمفهوم ثقافي مثمر وممتد، استطاع بمقوماته المتحررة من قيد السلطة أن يضطلع بمهمة التنوير بعيداً عن ادعاءات النخبوية والطوباوية، فصنع مادته القادرة على مقاومة الخطاب المتوحد، الذي يدعي امتلاك الحقيقة، ليفرضها في قالب سلطوي نخبوي يفرض سطوته المعرفية"تلك السطوة التي ترعرعت في كنف أوهام قلق التنوير وسوس المجتمع، وادعاء مهمة انتشاله من جهله المركب. لكن المسألة الخطرة التي غابت عن النخبة الواهمة هي أن العالم يتغير بعيداً عن ضجيج شعارات ومقولات أولئك المثقفين المتسلطين، وأن إشكالات الثقافة ومقومات إنتاجها كانت تعتمل بعيداً عن دائرة سلطتهم المزعومة، راضخة لشروط اعتمالها الحقيقية، وهي حركة المجتمع الأصلية، التي تفرض إحداث التغيير، وبلورة التنوع المفهومي على أصعدة عدة، كاللغة والفن والسياسة والأدب التي تنتج تفاصيلها بعيداً عن زيف المقولات، وطوباوية الشعارات"وما ذلك التحرك إلا نتيجة حتمية، لعزلة المثقف المخاتلة، التي أسست لإقصائه عن بوتقة اشتغال الحراك الثقافي الاجتماعي، وأسهمت في إلقائه بعيداً عن مدى تحقيق مقولاته المتعالية وحراكه غير المتناغم مع طبيعة الحركة الاجتماعية والإنتاج الثقافي. بقي أن نؤكد على علو قيمة المنتج الثقافي المتجرد من لوازم الرمزية الثقافية، المتمثلة في احتكار الإنتاج الثقافي، ذلك المُنتج الذي تخلى عن وهم السلطة، وآثر الاختلاط بمقومات اشتغال المادة الثقافية، وأسس مقولاته وخطابه على قاعدة صلبة تستمد قوتها من القرب من حراك المجتمع، فنجح في كسب الرهان الحقيقي للثقافة والفكر، وهو ابتكار الأسئلة ودرسها على مقربة من محيط تفاعلها واعتمالها، اذ أسس هذا النتاج لقطيعة جدلية، كانت مثار مراجعة علاقة المثقف بمحيطه قديماً، وكانت هي إحدى الإشكالات التي كانت تُطرح في التساؤل عن جدوى تنفيذ المشاريع الثقافية الكبرى، التي في نظري نجح في فك تشابكها، مُنتج الثقافة الجديد، الذي تحرر من أسر التعالي على عقلية المجتمع، ولامس بشكل واقعي حاجات الساحة الثقافية، فأعلن عبر نجاحه الساحق، انتهاء زمن الوهم الثقافي باقتدار. * كاتب سعودي.