يضع كتاب "ميادين التغيير" مفاهيم الثورة وتصورات المثقف على محك النقد. والإشكاليات المطروحة في الكتاب لا تتغافل عن إشكاليات التاريح والواقع، بل هي أسئلة تحاول اختراق الواقع العربي بكل زخمه الثوري وأحلامه الديمقراطية. في تقديمه للكتاب يقول مؤلفه شتيوي الغيثي إنه بعد عامين من ثورات العالم العربي في 2011، بدأت تتكشف إشكاليات عدة في فهم سياق الدولة الحديثة. ولم يكن الوضع السياسي في البلدان التي حصلت فيها الثورات العربية بأحسن حال من الأنظمة السابقة التي ثارت على استبدادها الجماهير. كما يتحدث كذلك عن تلاشي بعض الأحلام الرومانسية في صناعة دول عربية حديثة على المدى المنظور القريب.
جدلية الديمقراطية والتنمية حصل جدل واسع، خصوصاً بين مثقفي الخليج العربي، حول مدى علاقة الديمقراطية والتنمية، وأول من أثار هذه القضية الإعلامي تركي الدخيل، حيث يعتبر أن غاية الديمقراطية هي التنمية فيقول ما نصه: الديمقراطية "وسيلة لتحقيق الاستقرار والتنمية والثراء الاجتماعي، بينما يتعامل معها على أنها غاية الغايات. يتحمس بعض الناشطين في الخليج بالدعوة إلى الديمقراطية من دون أن يأخذ بالاعتبار الشروط الثقافية التي لا بد أن تتوافر عليها، ودون أن يدرك، من جهة أخرى، أن الغايات التي ستأتي بها الديمقراطية موجودة ومتحققة أساساً في الخليج. حين نأتي إلى التنمية ومستوياتها في العالم العربي سنجد أن الدول التي اتخذت التنمية مساراً مثل دول الخليج هي أغنى الدول وأكثرها استقراراً، على حين أن الدول الديمقراطية، أو التي تزعم أنها كذلك هي أقل الدول نمواً وأكثرها تفككاً وتشوهاً". هنا يجادل الدخيل حول فصل علاقة الديمقراطية بالتنمية على اعتبار أن التنمية هي الأصل، في حين يذهب آخرون منهم الكاتب حسن الدقي، رداً على الدخيل، إلى قلب المعادلة، بحيث تكون التنمية تابعة للعمل الديمقراطي، على اعتبار أن الديمقراطية هي ضمان لاستمرارية تلك التنمية. والحقيقة أن الرأيين، إذا ما قرأناهما في سياق خارج سياق السياسات الأيديولوجية المتصارعة، فإنهما يحملان شيئاً من المعقولية الفكرية الواقعية، والتي تساندهما الكثير من التجارب السياسية المختلفة بين دول الشرق والغرب، فبعض التجارب الشرقية: كوريا وغيرها، قد سبقت التنمية الديمقراطية بسنوات طويلة (تحوّلت كوريا الجنوبية إلى النظام الديمقراطي لاحقاً)، كما أن الصين تعتبر قوة اقتصادية خطيرة على مستوى العالم أجمع، ومع ذلك لا تحظى بأي عمل ديمقراطي، بل إن الحريات التعبيرية مقيّدة جداً فيها، لكن بقيت الصين دولة قوية ومؤثرة اقتصادياً وسياسياً، ما يجعل الحديث عن الديمقراطية غير وارد في النمو الاقتصادي. كما أن دول الخليج سبقت التنمية إليها من غير التحوّل إلى الديمقراطية، وفي إمارة دبي تحديداً نموذج تنموي نحتاج الوقوف عنده كثيراً. أما في الكويت، كونها الوحيدة التي تحاول الجمع بين الديمقراطية والتنمية في الخليج العربي، فإننا أمام وضع مختلف نحتاج فيه إلى الاستعانة "بشاهد من أهلها"، حيث يوضح لنا د. محمد الرميحي الأمر الحاصل في الحالة الكويتية، إذ نراه يقر بأن الممارسات الديمقراطية معطلة للتنمية لأسباب عديدة، منها: أن الممارسات الديمقراطية أضافت إلى البيروقراطية بحكم كثرة تفاصيل القانون حتى أُثقلت بالبيروقراطية التي كادت أن تكون ممانعة لأي مبادرة تنموية، إضافة إلى أن الممارسات الديمقراطية زكت الولاءات الطائفية والعشائرية والمناطقية، كما غابت الكفاءات الوطنية في المناصب الحكومية، ما قلّص من فرص التنمية لاقتصار الخدمات على الضمانات الولائية، ما يجعل دبي هنا مقابلاً تنموياً للكويت وديمقراطيتها في الخليج، كما هي المقابلة بين ديمقراطية الهند وتنموية الصين.
المثقف وسؤال التغيير استلزم الحديث عن المثقف في الواقع العربي بحكم الحديث الجاري عن التحوّلات العربية، فالتغيير كان سؤال المرحلة، وأصبح ما يدور في العالم العربي من تغيّرات مفاجأة للمهتمين في المجال العام. ويبرز الحديث عن المثقف كسؤال داخل سؤال التغيير ذاته، فما حصل كان أكبر من المثقف ونظرياته التي وقفت عاجزة عن فهم الحدث ثقافياً وسياسياً، على الرغم من أن المثقف كان أحد أهم المتعاطين مع السياسي وقوفاً تبريرياً، أو نضالية ضدية، أو حتى أولئك الذين فضّلوا الاشتغال الثقافي خارج التماس السياسي مع السلطة. قد كان المثقف من أكثر المتفاجئين بالأحداث، والمتغيّرات الثقافية التي طرأت كسؤال على المستوى الفكري، أو المستوى الاجتماعي، أو التقني، أو حتى السياسي... وفي هذا السياق.. انتُقِد المثقف العربي لأنه اعتبر في صف الاستبداد في المتغيّرات الحديثة ضد الجماهير، حتى ظهرت قوائم أسماء بارزة إعلامياً وفنياً وثقافياً دعموا الأنظمة ضد الثورات الشعبية، والتي عُرفت بمسمى "قوائم العار".
التعددية السعودية والتواصل تبدو من المفارقة الحديث عن التعددية والاختلاف والتواصل في مجتمع كالمجتمع السعودي، الذي تشي صورته العامة بنوع من التماثل الثقافي، الذي ينقض الفكرة الأساسية لهذه الورقة، حيث يرى البعض أن هذا المجتمع أقرب إلى تمثله لهوية واحدة. الحديث عن فكرتي الاختلاف والتواصل تحتاجان إلى أرضية تعددية هي في الأصل تعددية الهويات المختلفة، في حين كان هذا المجتمع يحمل هويته الخاصة، التي يمكن اعتبارها هوية جامعة أمام هويات مخالفة له في العالم كله، بمعنى أنه يمكن أن تبرز تلك الهوية كممثل تعددي تجاه تعدد الهويات الأخرى في العالم أجمع، لكنه ليس من السهولة جعل الفرضية التي تصلح للمختلف فكرياً ودينياً خارج مساحة هذا الوطن هي ذات الفرضية في الداخل السعودي. هذا الاعتراض وجيه، ما يمكن أن يهدم آخرُ الفصل أوّلَه، فبعض الكُتّاب يعتبر أن هذا المجتمع يغلب عليه خطاب واحد، وهوية واحدة، كنوع من النمطية الاجتماعية والفكرية، ما يعني غياب البعد الإنساني، فالكاتب السعودي محمد بن علي المحمود مثلاً يقرر أن " فقدان المشروعية الإنسانية يتم عندما يتقدم سؤال الهوية - أية هوية - على سؤال الإنسان أي على حساب الإنسان. عندما يبدأ التنميط بإيديولوجيا الهوية ينتهي الإنسان الفرد المحقق للمعنى الإنساني ومن ثم ينتهي الإنسان". ثم نجده في نفس السياق يقول: بأن "المجتمعات المحافظة - والمنتجة للأصولية بالضرورة - مجتمعات نمطية، يشكل التنميط جوهر حراكها المعلن وغير المعلن، من حيث كونها ترتكز على وحدة القيم الصادرة عن وحدة الرؤية المرجعية. هي مجتمعات تقوم على وحدة الهوية وصرامتها التي تقيم تمايزاً حاداً بين الداخل والخارج". السؤال هنا: ما مدى تطابق هذه الحالة في المجتمع السعودي؟!. برأيي أنه يصعب علينا توصيف المجتمع السعودي بحالة واحدة، حتى وإن كانت هذه الحالة ذات فاعلية كبيرة في تشكيل المجتمع، سواءً سميناها تقليدية، أو محافظة، أو سلفية، خصوصاً مع غياب الدراسات المعمقة عن حالة المجتمع السعودي من حيث ثنائية المحافظة ذات الهوية الواحدة والاختلاف المتعدد، فالتحولات الفكرية كانت، ولا تزال، تشكل بينة هذا المجتمع وتسوقه نحو سياقات مختلفة بعضها يسير في خط حداثي، والآخر يسير في ارتداد ماضوي، وما بين هذه التقدم والتأخر تتشكل غالبية المجتمعات العربية، وليس المجتمع السعودي فقط، إلا في اختلاف النسبة بين ذلك التقدم أو ذلك الارتداد. من السهولة بمكان أن نقول عن المجتمع السعودي إنه يحمل هوية إسلامية واحدة، فهذا من قبيل المسلم به اجتماعياً قبل أي تسليم آخر؛ إضافة إلى كونه سعودياً يحمل هوية سياسية محددة؛ لكن الاختلاف ينشأ من بعد هذه "الهوية المركبة الكبرى". المجتمع السعودي على الرغم من أن له هويته المركبة: الهوية الدينية (الإسلام) والهوية السياسية (السعودية)، إلا أنه - في رأيي- يحمل في داخله عدداً من الهويات الصغرى التي لها فاعليتها في تشكيل هويته الأكبر. ظهرت بعض الكتابات السعودية التي تحاول أن تصف تعددية المجتمع السعودي كتقسيم إقليمي وسوسيوثقافي مثل مناطق نجد والحجاز ومنطقة الأحساء والمناطق الشمالية والجنوبية، ما يمكن أن تتحدد من خلالها بعض الهويات المختلفة من قبيل الاختلافات اللغوية والعادات والتقاليد، الشيء الذي يقربه من الاختلاف الاجتماعي. في حين ظهرت كتابات أخرى تعيد تقسيم هذا المجتمع حول المرجعيات الفكرية مثل الحداثة والصحوة والسلفية والقومية والليبرالية وغيرها، إضافة إلى بعض الكتابات التي تعيد تقسيم هذا المجتمع على أساس مذهبي أو طائفي من قبيل المذاهب السنية الأربعة: الحنبلية والشافعية والمالكية والحنفية، منضافاً عليها المذهب الجعفري والإسماعيلي في الطائفة الشيعية. هذا التنوع الذي فصلته بعض الكتابات السعودية يعطينا مساحة من الاختلاف الثقافي والديني والسياسي والإيديولوجي داخل هوية إسلامية / وطنية جامعة، ما يعني أن سؤال التعددية حاضر في الاختلاف السعودي، إلا أنه اختلاف من قبيل ذاك الذي يمكن أن ينطمس داخل شكل من أشكال التنميط، لكن تقنيات التواصل الحديثة فتحت المجال لبروز ذلك الاختلاف الثقافي بشكل أظهر من ذي قبل، مهما كانت عمليات الهيمنة و"المركزية المحلية" إذا ما أردنا مقابلتها مع المركزية الغربية. كل هذه الاختلافات الجوهرية يمكن أن نسميها في شكل من أشكالها "آخراً" أو "هوية" أمام هويات أخرى متعددة داخل السياق السعودي المتجاور. يبقى التواصل بين هذه الهويات المتعددة في السعودية مرهوناً بالفاعلية الثقافية والمؤسساتية داخل ما أسماه هابرماس في نظريته التواصلية ب"المجال العام"، حيث الجميع مشاركاً بما هو صالح للعام، وليس الصالح الخاص.
التغيير في نظر المثقف كانت فكرة التقدم هي المحور في سؤال التغيير المطروح في أفكار المثقفين، كمقابل لحالة التأخر، أو التخلّف الحضاري، الذي كان عليه المجتمع الإسلامي بكل زخمه الثقافي حين كان موضع تفوق ثقافي وحضاري سابق. لقد كان التغيير صورة ذهنية لدى المثقف على اعتبار وثوقية مطلقة يحملها، وحقيقة يريد نشرها بين الناس، فينطلق في نقد الواقع، وضرورة تغييره إلى الأفضل. واشتركت جميع التيارات الفكرية في ضرورة هذا التغيير مع اختلاف في المرجعيات والمآلات الفكرية. وإن كانت جميع هذه الأيديولوجيات تختلف من مكان إلى مكان، كما تختلف في جمود بعضها على ذاتها، أو تصحيح بعضها من الداخل، أو حتى انهيار بعضها؛ إلا أنها ما زالت هي الأفكار التي تروّج في العالم العربي بين تبني أو نقد متبادل.
سؤال التعددية السعودية من قبيل البدهيات عند كثير من الناس أن المجتمعات البشرية في حال عديدة من الاختلافات العرقية والدينية والأجناس وغيرها، والواقع المشاهد يثبت هذه البدهية الثقافية، رغم أن الاختلافات العديدة جعلت الجنس البشري يتباعد في بعض جوانبه أكثر مما يتقارب. وإذا ما افترضنا صحة هذه المقدمة المنطقية في نظرنا، فإن الاختلاف يأخذ في عدد من الصور والأشكال التي يمكن أن تتحدد كتمثيل مادي أو رمزي لمفهوم الاختلاف الثقافي بين أبناء الجنس الواحد. ونقول "بين أبناء الجنس الواحد" لأن الاختلاف إذا كان ظاهراً في الجنس الواحد، فمن الأولى أنه أظهر لدى غيرهم من الأجناس البشرية الأخرى.
نقد المثقف تصور المثقف لذاته كمالك للحقيقة جنح به إلى الوصاية الفكرية على المجتمع، لذلك وقع المثقف بنوع من "خداع الأفكار الكبرى" كما يقول علي حرب. وتكمن أزمته الثقافية عند علي حرب أيضاً في نخبويته الثقافية، وإشكالية هذه النخبوية، كما يقول نصاً، هي: "أن تتشكل نخبة تدعي القبض على الحقيقة، أو المعرفة بأسباب التغيير، أو امتلاك مفاتيح النجاة والخلاص، مآله اتخاذ الجماهير كاحتياطي بشري للتعبئة والتجييش والتنظيم، أو كحقل اختبار للمشاريع العقائدية والأحلام الثورية، أي اتخاذها آلة لتحقيق إستراتيجية النخبة للاستيلاء على الدولة والمجتمع"، وهذا الكلام لا ينطبق فقط على المثقف من الخطاب الإسلامي فقط؛ بل يشمل كل الخطابات الثقافية الأخرى ذات الفكر التنويري الليبرالي أو القومي الاشتراكي بوصفها نوعاً من الوصاية الفكرية التي يمارسها المثقف على أفراد المجتمع، الذين ليسوا في الأخير، إلا وقوداً بشرياً لأفكار المثقف. ويتعدى نقد علي حرب للمثقف إلى أبعد من ذلك حيث يدعو إلى تفكيك مقولة التقدم ذاتها. لقد تحوّل المثقف العربي من حالة "النقد المعرفي" إلى حالة من "الممانعة الثقافية" للأفكار التي يحملها؛ كنوعٍ من الجمود الفكري، أو حراسة ثقافية لمقولاته الطوباوية، في الوقت الذي كان يحاول فيه التغيير ليجد ذاته الثقافية تتغيّر، وليجد أفكاره تنهار بأسرع مما كان يتصور. ولا يعني ذلك في نقدنا للمثقف هنا أن ذلك ينطبق على الجميع، لكن الكلام كان يدور حول تلك الرؤى التي أخذت طابع الطوباوية الفكرية والمشكلات من الناحية التطبيقية، بحيث أدت إلى ما يمكن أن نسميه ب"الفصام الثقافي" - إذا صحت التسمية - بين المجتمع والمثقف.
الاختلاف والتواصل ينشأ مفهوم الاختلاف من علاقة التماثل والمغايرة، سواء على مستوى جوهر الأشياء المادية، أو على مستوى العلاقات الإنسانية فيما بينها. ومع تطور الفكر الحديث الرافض لأشكال الهيمنة الفكرية والاستعمارية فقد جرت العديد من محاولات المراجعة الفكرية لكثير من عمليات التوحيد والهيمنة الفكرية تحقيقاً لتمثيل الهويات الثقافية المتعددة المعبرة عن ذاتها بأشكال عديدة، ما أنشأ في الدراسات الحديثة مفهوم الاختلاف؛ خاصة في دراسات ما بعد الاستعمار، ودراسات ما بعد البنيوية، التي جرى التصالح على تسميتها "ما بعد الحداثة" كمساءلة فكرية نقدية لبعض مقومات التنوير الغربي، أو الحداثة الغربية الفلسفية على وجه الخصوص. يسعفنا قليلاً الفيلسوف جيل دولوز في فهم فكرة الاختلاف من خلال مفهومي "التكرار والاختلاف" حيث التكرار إعادة تمثيل الشيء، أو هو إعادة إنتاج النسخة أو النموذج، في حين يكون الاختلاف هو الابتعاد عن هذا التكرار، أو هو الابتعاد عن الهوية المفترضة للشيء، والفلسفة هي عملية تكرار؛ أي وضع تمثيل متكرر. وبعبارة أبسط يمكن القول: بأن الاختلاف نفي لنمذجة الهوية على اعتبار أن الهوية تكرار للمُثُل. وعلى كل حال، فليس مفهوم الاختلاف إلا محاولة لنقض عملية التمثيل والتكرار. ويتوسع مفهوم الاختلاف ليشمل كافة التعبيرات الإنسانية الفكرية والمعرفية والأدبية والدينية وغيرها. كما يطرح الاختلاف نفسه كمعطى سياسي في تشكيل الدولة الحديثة؛ خاصة مع تصاعد العمل الديمقراطي في العديد من الدول الغربية والشرقية، بل وحتى بعض الدول العربية بعد ثوراتها التي تصالح الخطاب السياسي على تسميتها ب"الربيع العربي". والاختلاف بوصفه تعددية ثقافية وفكرية يحقق أرضية سياسية ديمقراطية على اعتبار أن مفهوم الدولة الحديثة تسمح بشيء من المطالبة بالاختلاف أو ب"الحق في الاختلاف" كما يقول محمد المصباحي. وفي خضم هذا العدد الهائل من الاختلافات والهويات المتعددة تنشأ متوالية من الأسئلة من قبيل: إلى أي حد يمكن قبول هذا الاختلاف؟ أو إلى أي مدى يمكن الحد من تشظي هذه الهويات بحيث لا يتحوّل إلى صراع ثقافي أكثر منه اختلافاً ثقافياً مقبولاً؟ أي كيف يمكن الحديث عن انسجام ثقافي أو سياسي بينها على تعددها؟.
الهوية بوصفها اختلافا يستلزم الحديث عن الوجود البشري، وعلاقة الذات بالآخر، أو علاقة ال"الأنا" وال"أنت"، أو علاقة ال"أنا" وال"هو"، الذي ذُكرت عالياً عن مارتن بوبر إلى أن يكون سؤال "الهوية" حاضراً في اختلاف الذوات، فذات الشيء منظوراً إليه بذاته هو هويته التي تتحدد فيه عن هويات أو ذوات الأشياء الأخرى. والهوية هي علاقة جدلية ثنائية بين الذات والآخر، فكما تتحدد هوية الذات من ذاتيتها، فكذلك تتحدد من تمايزها النافي بالضرورة لعلاقتها بالذوات الأخرى. هنا يصبح الاختلاف نوعاً من مغايرة الهوية أياً كانت تمظهراتها لتمظهرات هويات الآخرين. ومن المفارقة برغم الكثير من دعوات التعددية في العصر الحديث، فإنها جاءت في أكثر لحظات الدعوات المتعولمة التي تطمح إلى وحدة الجنس البشري، بمعنى أن الدعوة إلى الوحدة افترضت الحديث عن الاختلاف، والحديث عن الاختلاف افترض الحديث عن الهوية. لقد أعطى مفهوم الهوية بعض الشعوب فرصة تمييز ذاتها، وإلى أن تختلف عن غيرها وترتكز عليها كاختلاف ثقافي، وتعددية ثقافية لابد منها، لتأكيد الذات تجاه ذوبانها في الآخر المختلف، ومن هنا كان محور تركيز دعاة التعددية؛ إلا أن هذه الفكرة لها ما يخالفها في الأفكار الغربية، ف"على عكس المؤمنين بالتعددية الثقافية، يرى جاكوبي، وهو أحد أهم مؤرخي الأفكار في الولاياتالمتحدة، أن العالم يمضي من دون توقف نحو "التماثل الثقافي"، لا الاختلاف الثقافي..."، لكن الإشكالية في مسألة التماثل ما تزال مطروحة في تعميق سؤال الذوات عن هوياتها، فالتماثل يعني مماثلة الشيء لشيء آخر، والمماثلة لا تعني المطابقة، وعلى ذلك فما يزال سؤال الهوية هو سؤال في صميم مفهوم الاختلاف، إن لم يكن هو الاختلاف بعينه. والحديث عن الثبات والتحوّل والتماثل والهوية يجرنا إلى الحديث عن مسألة أخرى، وهي مدى علاقة هذه الهويات بعضها ببعض، ومدى قوة ثباتها، أو تحوّلها أمام هويات الآخرين، وأسئلة الهويات تجاه ذاتها ومكوناتها. يسعفنا في ذلك الفيلسوف تشارلز تايلور الذي يدعو إلى "سياسة الاعتراف"، سواء من قبل الذوات مع بعضها، أو الهويات المختلفة، "وذلك لأن الاعتراف يمثل حاجة فردية أولية ويشكل قاعدة لتسيير التعدد الثقافي والاختلاف الثقافي في المجتمع... وأنه من غير الممكن الحديث عن الاعتراف إلا بعد الانتهاء والانقضاء والاندثار وتراجع المراتب الاجتماعية القائمة على فكرة المكانة والمنزلة الموروثة". ويتضح من هذا الكلام أن الهويات المتعددة بحاجة إلى نوع من "التنازل الثقافي" عما يمكن أن نسميه ب"الأصالة" وجمودها على ذاتها، واضطرارها إلى الانفتاح على الهويات الأخرى. شتيوي الغيثي كاتب وشاعر سعودي صدر له - قشرة الحضارة - إشكاليات الثقافة السعودية وتحولاتها - لا ظل يتبعني .. مجموعة شعرية