سرني ان يلقى بعض أعمالي الفكرية الاهتمام من الباحث الفرنسي ريشار جاكمون، وان تكون مقالتي النقدية لبيار بورديو نشرت في "أفكار في 15/6/99 استأثرت منه أيضاً بالرد والتعليق نشر في الصفحة نفسها في 28/6/1999. ومما زاد من سروري ان من انتقدني هذه المرة ليس عربياً، دلالة الى عالمية النقاش حول قضية المثفف، وهو نقاش يتجاوز خصوصية البلدان والهويات أو الأوضاع والسياقات، بقدر ما يتجاوز ثنائية الغربي والشرقي أو الفرنسي والعربي. فالأفكار لا جنسية لها، وان كانت المعطيات والتجارب لها خصوصيتها أو فرادتها، خاصة اليوم حيث يتداخل المحلي والكوني وتتسع حركة تبادل الأشخاص والأفكار وأساليب العيش، بفعل ثورة المعلومات والاتصالات. من هنا فإن ما يقوله بورديو اوتشومسكي أو فوكوياما حول أوضاع العالم ومشكلات الساعة أو حول أوضاع المثقفين ومشكلات الحقل الثقافي يخصني بقدر ما يخصني ما يقوله صادق جلال العظم أو حسن حنفي أو محمد عابد الجابري. وعلى هذا النحو أتعامل مع ريشار جاكمون، إنني لا أعده مستعرباً، وان كان يكتب بالعربية، وانما أعده واحداً من أهل البحث والمعرفة، انخرط معه في المناقشة العالمية الدائرة حول قضايا الفكر والأدوار المنوطة بأهله، فشلاً عن الموقف من الحقيقة، وهي قضية تستأثر باهتمام المثقفين والناس أجمعين. أعترف بأن نقدي لبورديو كان من الممكن ان يكون أكثر هدوءاً أو أقل تهجماً، نظراً لأنني أقدر اسهاماته المعرفية واستثمرها في كتاباتي ومساجلاتي. والأهم لأن الهجوم على الغير في معرض المناقشة العلمية، ينبني على ادعاء الواحد بامتلاك الحقيقية. وهذا موقف لا أنفك عن نقده، اذ لا يمكن لأحدنا ان يقبض على حقيقة الواقع أو الأمر، بالمعنى الماروائي أو اللاهوتي. فالأولى اذن ان يعمل المرء على اخراج قناعاته ومواقفه، على نحو عقلاني تداولي، وبصورة تغني النقاش حول القضايا المثارة بقدر ما تتيح ممارسة حيوية التفكير، بحيث لا يكون ثمة شيء خارج عن نطاق التناول والجدل، بما في ذلك ما نسميه القيم العليا للحقل الثقافي، التي هي مسلمات تحتاج الى اعادة النظر والتفكير للكشف عن جوانبها الدغمائية والعقائدية. ومن هذا المنطق كانت مداخلتي مع بيار بورديو، في ما يتعلق بحملته على وسائل الاعلام. فإن عالم الاجتماع الكبير وان تحدث عن تجربته الفاشلة مع التلفزيون الفرنسي، فإن ما يعبر عنه ليس شأناً فرنسياً بحتاً وانما هو نقد يطال في النهاية أداة من أدوات الاعلام والاتصال يستخدمها جميع الناس وتترك أثرها في حياتهم وفي ثقافتهم. وهو يلتقي في موقفه مع أكثر المثقفين والدعاة الذين يحملون على وسائل الاعلام في البلاد العربية والاسلامية. صحيح ان الآراء تتباين وتتلون، بين هذا البلد وذاك، أو بين هذا المثقف وسواه، إلا أنها تصدر عن نفس الموقف الايديولوجي، السلبي والعدائي، في التعامل مع هذا الاختراع التقني، اذ تجد فيه آلة للهيمنة والرقابة كما يقول بورديو، أو أداة لتسطيح الوعي والثقافة كما يقول الجابري، أو وسيلة من وسائل الغزو الثقافي الغربي كما يقول الزعيم الايراني علي خامنئي. هذا ما حاولته في نقدي لبورديو: ليس الهجوم عليه، بل كشف موقفه العدواني واللاعقلاني من وسائل الاعلام. وأنا في ما انتقده لا أتبنى آراء خصومه في الحملة ضده، ولكني اعبر في النهاية عن رأيي وانتج موقفي، خاصة وأنني منخرط منذ زمن في نقدي للمثقف النخبوي والعضوي. ونقدي يسجد رؤيتي للامور وطريقتي في التفكير، كما ان آرائي تنبع من معايشاتي وتجاربي، بقدر ما تنبع من قراراتي ومشاهداتي ككاتب ينتمي الى بلده ومحيطه، بقدر ما يندرج في عصره ويمارس خصوصية على نحو عالمي تماماً كما يفعل بورديو، ومن باب أولى ان يكون هذا شأن من يشتغل بالفلسفة، ممن يهتم بالمفاهيم الأولى والقضايا العامة التي تستأثر باهتمام الناس بصرف النظر عن جنسياتهم وخصوصياتهم الثقافية. ولذا فإن السؤال عن مسوغ نقدي لبورديو، في سياق هجومه على التلفزيون والهجوم المضاد عليه، لا معنى له إلا اذا كنا نعتبر ان الجدل حول دول المثقف ومفاعيل وسائل الإعلام يخص الفرنسيين وحدهم من دون سواهم، وهذا الرأي يصدر عن ثنائية الاستشراق والاستغراب التي يعمل بها المستشرقون والكثيرون من المثقفين العرب، وهي ثنائية خادعة على الصعيد المعرفي، أحاول فضح هشاشتها والتحرر من أسرها. لا تحتاج الحقيقة الى إعادة تأسيس بقدر ما تحتاج الى اعادة نظر في معنى الأساس نفسه. فلطالما اشتغل أهل الفلسفة وعشاق الحقيقة بالتأسيس والتأصيل، من لدن أرسطور الى ابن سينا، ومن ديكارت الى كنط، ومن هيغل الى هوسرل. ولكن ماذا كانت النتيجة؟ التناقضات والاحراجات من حيث منطق المفهوم، أو الفضائح والانتهاكات من حيث سلم القيم. ولا عجب اذ لا يخلو تأسيس من حجب وتمويه، أو اختزال وتبسيط، أو تعسف واعتباط، أو تهميش وإقصاء. واليوم تتصدع محاولات بناء الحقيقة والعقل على أسس راسخة من القوانين الخالدة، بفعل الانفجارات المعرفية التي شهدتها الحداثة الفكرية في مظم الميادين والمجالات. وذلك يحمل على تجاوز منطق التأسيس، بقدر ما يغير الممارسة الفكرية ذاتها، اذ لا يعود التفكير بحثاً عن نموذج أصلي أو مبدأ ماورائي أو اساس متعال، ينبغي تمثله والتطابق معه أو تطبيقه والعمل بموجبه، وانما يمارس كصناعة وتحويل للمعطيات، من رغبات ولغات أو من موضوعات وأدوات، من خلال الخبرات المعاشة والممارسات الحية، أي لا يمارس كأداة للقبض على الواقع والتثبت منه، بقدر ما يمارس كقدرة على ابتكار امكانات يعاد معها انتاج الواقع بخلق الوقائع في حقل من الحقول المجتمعية المختلفة والمتعددة. هذا ما يفعله علماء الاجتماع: انهم لا يطبقون على الواقع بنظرياتهم، وانما هم يخلقون وقائع معرفية يتغير معها المشهد المعرفي بقدر ما يتغير الواقع الاجتماعي. وهكذا لا تحتاج الحقيقة الى اعادة تأسيس بقدر ما تحتاج الى تغيير يطاول مفهومها، كما يطاول سياسة التعامل مع منتجات الفكر من المقولات والنظريات. فالأفكار ليست مرايا الحقيقة الواقعة بقدر ما هي شبكات مفهومية يتغير معها موضوع المعرفة أولاً، والأدوات المعرفية ثانياً، والذات المارقة ثالثاً، والأحرى القول الفاعل المعرفي. وهذا شأن الفعل المعرفي الخلاق: انه ذو طاقة تحويلية مثلثة الوجه. اما الاشتغال بالتثبيت والتأسيس، فإنه خداع معرفي يحول الواقع الى مثل ومجردات، فالأجدى ان نغير مفاهيمنا ونتحول عن أفكارنا. ولعل الاهتمام بالتأسيس النظري والمنطق القبلي أو المتعالي هو الذي يفسر تراجع فرنسا واميركا أمام العقل الاميركي الذي هو عقل ذرائعي بقدر ما هو عملاني وتحويلي. وسيستمر هذا التراجع ما دام الأوروبيون، وكما هو شأن العرب وامتيازهم، يشتغلون بنفي المتغيرات كي تصح أوهامهم، أو يحيلون المفردات الى ايقونات مقدسة، فيما الاميركيون يتعاملون مع كل تغير بوصفه فرصة، ويتعاملون مع الأفكار لا كأسماء جامدة أو كسجون لغوية بل كأفعال حية ومتحركة، أو كأنساق وبنى هي دوماً قيد التعديل والتطوير أو التغيير والتحول. تشهد المجتمعات البشرية تحولات تاريخية هائلة وجذرية اطلقت عليها اسماء مختلفة: موجة الحاسوب، المجال التلفزيوني، الحقل الميدياني، ثورة المعلومات، التقنيات العددية، وأياً تكن التسميات، نحن إزاء قفزة حضارية تتمثل في ظاهرة الحوسبة والأعلمة والعولمة، لا يمكن اختزالها من خلال مقولات الليبيرالية الجديدة أو آليات السوق العمياء أو طغيان وسائط الاعلام، على ما يصرخ المذعورون من المثقفين في فرنسا وفي العالم العربي على السواء. من يفعل ذلك يسدل الستار على عقله وينصب الأفخاخ لنفسه بقدر ما يشهد على جهله بما يحدث، ذلك ان ما يحدث لا يجابه برجمه ولا بالتسبيح بحمده، بل بإخضاعه الى لغة الفهم الذي هو منبع الامكان. بذلك لا يجري نفي الوقائع، ولا الاستسلام لها، بل تقرأ قراءة خصبة، لابتكار امكانات جديدة للتفكير والعمل. هذا شأن كل حدث خارق أو تحول هائل: معه ينفتح امكان أو تخلق فرصة. ولا يمكن ان نفكر أو نعمل بعده كما كنا نفعل قبله. وعلى هذا النحو يمكن التعامل مع الحقل الاعلامي الذي نخشى منه على ثقافتنا ومهننا المعرفية. انه يحمل العاملين في فروع المعرفة على اعادة ترتيب علاقتهم بأفكارهم ومشاريعهم، بقدر ما يخلق الامكان لممارسات معرفية جديدة، أي انه يغير علاقة المرء بمهنته ومهمته في آن فلا يمكن للعقل الاكاديمي، بعد ثورة المعلومات ان يشتغل كما كان يشتغل قبل هذه الثورة، اذا لم يشأ أهله ان تصبح أفكارهم هي عوائقهم ومصدر عجزهم أو عزلتهم. وهذه هي حال التلفزيون: انه ليس آلة شيطانية تولد الهيمنة أو الفساد، وانما هو ذو حقيقة مزدوجة كما هو شأن أي واقع، أي هو امكان وفرصة. وأثره يتوقف على كيفية استعماله وعلى الامكانات التي نستخرجها منه، ومنها أنه يخلق الفرصة أمام الجميع للمشاركة في المناقشة الوطنية أو المحادثة العمومية، بحيث لا يعود الشأن العام أمراً تحتكره النخب الثقافية أو السياسية. بيد ان بورديو المناضل السياسي يتناسى ما يقوله بيار بورديو العالم الاجتماعي عن ازدواجية الحقيقة. وهذه حال بورديو في موقفه من الدولة. ان هواجسه النضالية تسوقه الى العودة على أعقابه والتراجع عن مقولاته، فبعد ان قضى الشطر الأكبر من حياته الاكاديمية يدمر مفهوم الدولة التي هي برأيه "مؤسسة لتدمير الكائنات"، يعود الآن لكي يدافع عن الدولة لمواجهة العولمة والليبرالية الجديدة. وهذ هي حصيلة التهويمات التحريرية: التخبط بين المواقف. مثل هذا المأزق يمكن الخروج منه بتجاوز المنطق الايديولوجي في التعامل مع واقعة الدولة، نحو منطق الحدث ولغة المفهوم. فالدولة لم تكن شراً كما كان يرى اليها بورديو من قبل، ولا هي الملجأ والملاذ كما يتعامل معها الآن. انها واقع سلطوي تحتاج، في عصر العولمة والشركات المتعددة الجنسية، الى اعادة ابتكار على نحو يتغير معه مفهوم السلطة وممارستها، وبصورة تتيح لكل فعل اجتماعي ممارسة سلطته. هذا ما تتيحه العولمة الخارقة لحدود الأوطان والمجتمعات: امكانات سياسية تخفف من هيمنة الدول. ولكن بورديو والذين يقفون في صفه لا يرون وسط الرؤية نفسها. القيم المتصلة بالحقيقة والحرية والعدالة والكرامة، ليست هي القيم العليا لأهل القطاع الثقافي من كتاب وأداء أو من فلاسفة وعلماء، بمعنى انها ليست حكراً على هؤلاء، وانما هي تعني كل الناس. وليس أحد أولى بها من أحد، بل كل امرئ يمارس علاقته بها ويخلص لها، من خلال مهنته وميدان عمله أو من خلال انخراطه في العمل العام والمناقشات العمومية... يستوي في ذلك العاملون في الحقل الثقافي والعاملون في بقية الحقول. بهذا المعنى ما من فاعل اجتماعي إلا وله صلة ما بالحقيقة وشقيقاتها من القيم الاخرى، وذلك من خلال مساهمته بانتاج المعنى والقيمة أو المعرفة والسلطة أو الثروة والقوة. هذا ما يفعله عالم الاجتماع بنظرته التي يتغير معها وعي الناس لاجتماعهم وروابطهم، وهذا ما يفعله رجل الاعلام من خلال قنواته وشبكاته وبرامجه التي تتيح العمل اليوم بسرعة الفكر. وهذا ما يفعله الروائي بخلقه حيوات جديدة من خلال عوالمه السردية وشخوصه الروائية، وهذا ما يفعله رجل الاعمال أو المال من خلال أسواقه ومشاريعه الاستثمارية، وهذا ما يفعله لاعب الكرة من خلال انجازاته على أرض الملعب في التصويب والتسديد. ممارسة الوصاية النخبوية أو الوكالة النبوية من جانب المثقفين على الناس، باسم الحقيقة والحرية والعدالة، قد ولى زمنها، مثل هذه المهمة النضالية قد استنفدت نفسها وفقدت مشروعيتها. فبعد قرن من ولادة المثقف الحديث، تنهار المشاريع الايديولوجية والدعوات الطوباوية لتغيير العالم وتحرير البشر من القهر والتسلط أو من الاستلاب والاستغلال أو من التهميش والإقصاء، فضلاً عن الحراسات الهشة للهويات والدعوات الفاشلة لتحقيق مجتمع الرفاه والسلام. وهكذا فالحصاد الآن هو الانهيار والتراجع، على ما يشهد المثقفون على انفسهم بأنفسهم. اذ كانوا قبل عقود يقارعون الرأسمالية، فإذا بهم يجدون أنفسهم أمام الرأسمالية المتوحشة كما يقولون. إزاء هذا الاخفاق هناك من يشعر بالإحباط، وهناك من لا يحسن سوى تكرار شعاراته الجوفاء ومثله الخاوية، وهناك آخرون يعودون الى التمسك بأفكار وقيم ومواقف أفنوا أعمارهم في النضال ضدها، كما يفعل الآن الغرقى من المثقفين الذي يتمسكون بخشبة الدولة لمقاومة طوفان الشركة. كل ذلك يشهد على ان الانهيارات والتحولات انما تكتب نهاية المثقف داعية التنوير والتحرير. والنهاية لا تعني ممارسة الدور القديم بشعارات جديدة، بقدر ما تعني التخلي عن دور الوصي على القيم، ففي عصر المعلومة، لم نعد نحن رسل الحقيقة والهداية، بل مجرد وسطاء، بين بعضنا البعض، أفراداً وجماعات أو حقولاً وقطاعات. ومفردة "الوساطة" التي يزدريها دعاة الحرية والمساواة من النخب، تعني اشتراك الناس في انتاج المعنى والقيم، وانخراطهم في المناقشات المتصلة بالقضايا العامة، وتخلي الواحد عن هواجسه الخلاصية وادعاءاته النبوية التي تجعله يتصرف بوصفه وكيلاً عن الآخرين يفكر ويحلم عنهم، أو ينوب عنهم في الدفاع عن حقوقهم باعتباره أدرى منهم بمصالحهم. مثل هذه المهمة اثبتت فشلها، لأنها انتجت الأسوأ من استراتيجيات السيطرة والأكثر خداعاً وزيفاً من محاولات التلاعب بالعقول. وإذا كان بورديو ينتقد اليسار الفاشل، الذي لا ينفك عن نقده، مستفيداً من نقده هو بالذات، فإنني أرى انه يقف على نفس الأرض مع الذين ينتقدهم، لأن أطياف المثقف النخبوي صاحب الدور النبوي ما زالت تستحوذ على تفكيره ونضالاته. هذا ما تشهد عليه مواقفه على رأس ما سمي الحركة الاجتماعية الجديدة في فرنسا، فبعد احد التحركات التي قام بها جمع من العاطلين عن العمل، ينضم اليهم بورديو، لكي يشكرهم ويشيد بقيم العمل النضالي الذي حقق بفضلهم ما يشبه "المعجزة الاجتماعية". ومعنى الشكر ان بورديو تصرف إزاء العاطلين بوصفه أولى منهم بقضيتهم، على طريقة أنا أولى منكم بأنفسكم، مع ان الأولى ان يشكروه لأنه ساند قضيتهم، هم المهمشون وهو الذي يقطف ثمار حركتهم فيمارس نجوميته وتزداد سلطته المعنوية والرمزية. وتلك حصيلة الدفاع عن حقوق المهمشين والعاطلين عن العمل من جانب عالم الاجتماع الكبير: ان يحضر وسط المشهد كي يتواروا هم وراء الصورة، ان يصبح هو حديث الناس فيما هم يندرجون تحت مقولة مغفلة هي "العاطلون عن العمل"، باختصار ان تلقى ألقابه وصوره ونصوصه المزيد من الانتشار سواء على الساحة الفرنسية أو على الساحة العالمية، بوصفه مطلقاً لحركة اجتماعية جديدة فيما هم يبقون مجهولي الاسماء معدومي الألقاب. أما حقوقهم ومطالبهم، فإنها تبقى حبراً على ورق، أو لا يتحقق منها سوى الفتات. ذلك ان مشكلة البطالة تحتاج معالجتها الى عمل جماعي تشارك فيه كل الفاعليات المجتمعية، أي يتجاوز المثقف المستلب بوهمه المساواتي ودوره النرجسي، الباحث عن جمع أو جمهور، يحرضه ويقوده ان يتحدث باسمه ويدافع عن حقوقه. من هنا فإن بورديو يخدع نفسه وسواه عبر نضالاته، بقدر ما ينتهك ما يدعو اليه، ولا عجب في ان يكون المآل كذلك: فمن نمارس الوصاية عليه وننطق باسمه يبقى في موقع الضعيف والقاصر أو الفقير والعاجز، بقدر ما نتصرف نحن من موقع البطل والنجم أو المنقذ والمخلص أو القوي والمزدهر. وتلك هي قواعد اللعبة وعلاقات القوة، التي لا يحتاج تغييرها الى حركة اجتماعية سلمية أو ثورية، تزيد المهمش تهميشاً، بقدر ما يحتاج الى تحولات بنيوية قطاعية ومجتمعية تتغير معها خارطة رؤوس الأموال وطرق انتاج المعرفة والثروة والقوة. خلاصة القول ان ما نحتاج اليه ليس القفز فوق الوقائع، بل اعادة النظر في المهنة المعرفية والمهمة النضالية، في ضوء ما يحدث من الانفجارات في القيم والمعارف والتقنيات. فلا يمكن مجابهة عالم جديد يتشكل مع انبثاق الانسان العددي والعصر الاعلامي، بالتهويمات الماورائية والأطياف التنويرية للمثقف الانسانوي المدافع عن الحرية والعدالة والمساواة، وانما الأمر يحتاج الى سياسة فكرية جديدة حتى لا تتحول المقولات الى عوائق، كما يحتاج الى علاقة جديدة مع المعنى حتى لا تتحول قيم الحقيقة والعدالة والمساواة الى اسماء على غير مسمياتها أو حتى لا تكون تغطية لإعادة انتاج ما نعمل على تغييره. فالأولى ان نغير نموذجنا في التفكير والعمل، لابتكار لغة جديدة في ادارة الافكار والقيم والحقائق، اذ لا يمكن بعد الآن احياء دور المثقف الا على سبيل الزيف والادعاء بعد ان استهلكت مقولاته واساليبه. هذا ما أراه في نهاية هذه المطارحة، مع ريشار جاكمون، صديق الفكرة الحرة والمناقشة المفتوحة على النحو الذي يجدد الطرح ويوسع مجال التداول بقدر ما يثري عالم المعنى والمفهوم. * كاتب لبناني.