أن تكون واحداً من حراس "اليقين" الذي انعقد عليه إجماع الناس أو أن تتلبس قناع الآخر و"نسبية" ثقافته وتعددية مساءلاته، تلك هي الإشكالية "المَرَضية" التي يعالجها عبدالإله بلقزيز في كتابه "نهاية الداعية"، والذي يدعو فيه "مالك الحقيقة" لأن يصمت وينسحب من المشهد بهدوء ليفسح فرصة للمثقف الباحث كي يزود ثقافته بمساهمة هي في عوز إليها. فتاريخ المثقف العربي الحديث هو تاريخ صلته بالمعرفة والجمهور والحاكم؟ وهي صلات تأسست في فراغ الثقافة العربية الحديثة، وفي محَن الأصالة والمعاصرة والدين والعلم والاكتفاء الذاتي والانفتاح ورفض الآخر أو التثاقف والتناص والسرقة. ونحن في الحالين إزاء صنفين من المثقفين: مثقف شعبوي يقدس الجمهور ويمحضه الولاء، وآخر "نخبوي" يحتقر "العامة" ويمارس التشنيع على وعيها "المتخلف"، بحيث يبدو الخلاف بينهما خلافاً فكرياً، والحقيقة أنه خلاف سياسي. فالمثقف النخبوي هو الذي يسند لنفسه دوراً رسولياً - خلاصياً - في حين أن الشعبوي هو الذي يعلن عن استقالته الفكرية لأن الجمهور هو مستودع الحقائق. وإذ يتحدث بلقزيز عن دور المثقف الداعية يغفل دور الجمهور من دون أن يرى الى غوغائية هذا الجمهور وعدم فاعليته. فهو جمهور مستهلك، غير منتج، وهو جمهور الإذعان لا التحدي، وجمهور التخلف لا "التصويب"! كيف لا! وما زالت الأمية في تفشيها تبلغ الثمانين في المئة!! وقد برر المثقف التقليدي، في إطار المجتمع العربي الوسيط، نفسه وحرفته بأنه واحد من حراس الحقيقة التي انعقد عليها الإجماع، فارتضى عرض عقله ولسانه لخدمة السلطان وسكت عن جوره وبطشه ونافح عنه ضد الخصوم والرعية، ويستوي في ذلك النصيون وأهل الرأي، المتصوفة والفلاسفة. من هنا فإن مثقفي بغداد والبصرة والكوفة والقاهرة وتونس ومراكش وفاس وقرطبة وإشبيلية كانوا في حركة صعود تاريخي - حضاري نحو الشغوف والعالمية. أما المثقفون العرب الحديثون فخرجوا الى الوجود عقب السقوط الحضاري "العظيم" مستندين الى جدار متآكل وقواعد مهترئة بحيث لم يعد أمامهم سوى أن يختاروا أحد أمرين: أن يهاجروا الى الماضي بحثاً عن نقطة ارتكاز يقفون عليها أو أن يكونوا ذاهلين عن التاريخ ومقبلين على حضارة أو ثقافة "الآخر" بما فيها من اغتراب و"ألينة". وفي الحالين معا، وجد المثقفون الحديثون أنفسهم مأزومين، بل قل أصواتاً عديمة تبشر بحضارة لم يكونوا من منتجيها ولا يملكون أن يدافعوا عنها أصالة بل نيابة، فصار عليهم أن يكتبوا على هامش التاريخ. ففي العصر الكلاسيكي كانت حيازة الحقيقة التي جاد بها الوحي مما منح المثقف العربي الشعور الحاد باطمئنان لا يهزه قلق. أما المثقف الحديث فقد تهاوت بين يديه يقينيات المعرفة الإنسانية القديمة وبات النسبي هو المحور المعرفي الوحيد الذي يستنهض مغامرة التفكير أو مغامرة التساؤل. مثقف الأمس كان جاهزاً للجواب عن أي شأن من شؤون الدين والدنيا، لأنه نشأ في مجتمع أمي يقدس الكلمة، أما حفيده المقذوف به في مرجل التحول فلم يعد صاحب الرأسمال المعرفي النادر، فثابر وتوهم ولم يعترف بهزيمته. الدور الطوباوي وكان من مفارقات الحداثة أن يتكلم المثقفون كثيراً في كل شيء وأن يفردوا لأنفسهم دوراً طوباوياً وهم في التلهف على السلطان وعلى نزر قليل من المال. فصارت النخبة عاقراً وتبرم بها المجتمع وحسبها عالة على المال العام الذي حرف "بغير وجه حق" في تكوين شرعية سقيمة الهمة، وبات صمت المثقفين مطلباً كي يستقيم أمر السياسة. وقديماً كان يردد "مثقف الشرع" بأن العلماء هم خير ورثة"، وهكذا اليوم فإن الوطنيين والقوميين والاشتراكيين والديموقراطيين والليبراليين يدعون بأنهم سَدَنة الحقيقة وأهل مهمة عظيمة في الوحدة والتنمية والعدالة والديموقراطية، فهم المبشرون بالتاريخ وأصحاب الخطاب الواحد الأحد، وقد غاب عنهم أنهم حشروا الناس والمجتمع في "كيمياء فكرية" تختلط فيها الملحمة بالبنائية على نحو لا يتقنه إلاّ المثقف العربي. فمن المواضيع التي يتقنها ويولع بها المثقف الحديث حرية الرأي والنشر والتعبير في مجتمع أمّي تشغله مشكلات الرغيف والعيش والسكن والمرض. من هنا فإن عبدالإله بلقزيز لم يعد مشغولاً بالخطاب الثقافي بقدر انشغاله بأمراض المثقفين المزمنة والمستعصية ومنها: النرجسية، والإيمان المطلق بالذات، وشيوع الصيت وذيوعه وحالات جنون العظمة وفقدان التوازن. هذا وتشكل "السادية" واحدة من الظواهر المرضية التي يعانيها الوسط الثقافي العربي إذ يبدو المثقف السادي مثقفاً نقدياً نزاعاً الى المساجلة والمناظرة ولكنه سرعان ما يتحول الى الشتم البذيء وإيذاء المخاطب في أخصّ ما يشعره بهويته. وهكذا يصير أحسن سبيل للدفاع هو الهجوم، لأن الفوبياء الثقافية أو فكرة المؤامرة هي حال من الرهاب. فالمؤامرة على الثقافة العربية من أكثر الأفكار ازدهاراً في خطاب المعاصرة: إذ إن الغرب يتآمر على الاسلام، والامبريالية والصهيونية تتآمران على الأمة والوطن والعروبة، والحداثة تتآمر على الهوية والأصالة. وفي هذه الحال تتلبس خطاب المثقفين فوبياء مرتعبة من "الآخر" الذي يتحول الى مشجب تعلق عليه "الأنا" كل مشكلاتها الذاتية فتستقيل من المسؤولية وتهرب الى الأمام. لذا تتزايد اليوم حاجة المثقفين الى التحرر الذاتي والاعتصام بأخلاق النسبية وإرادة الإصغاء والحوار والحدّ من المطلقات اليقينية. من هنا فإن تاريخ المثقفين العرب الحديث صار بحاجة الى إعادة تدوين وإلى إعادة كتابة كنقد الأوهام والأساطير التي صنعها أولئك المثقفون عن أنفسهم وعن قيمة "بضاعتهم"، خصوصاً أن فئة منهم انتدبت نفسها للدفاع عن مشروع النهضة والتقدم فضلاً عن التبشير به والانتصار له. فنحن إذ نفتح ملف هؤلاء يصعقنا "الفقر المعرفي المزمن" الذي يعانيه أصحاب الإنتاج والإبداع والعطاء، الذين تنكروا لتاريخهم الوسيط وانصرفوا الى سيل من النصوص المترجمة، والبحث عن أسئلتهم في الفكر الغربي، وهم في أفضل الأحوال يعيدون إنتاج المقولات الغربية بعد تدوينها معربة. من هنا صارت المعضلة الأضخم التي يواجهها المثقفون العرب هي انحدار مستوى الأداء النظري لديهم بحيث لا نكاد نعثر على كتابة نظرية بالمعنى الصحيح أي على كتابة تجنح نحو التجريد والتنظير والبناء المفهومي للمعرفة والصوغ النسقي للأفكار. فخطابهم هو خطاب وثوقي مطلق، وأفكارهم منزهة عن الشك والنقد ولا مجال فيها للتحوّط والحذر، وكأني بهم ينتهون الى "إنتاج ميتافيزيقا الحقيقة المطلقة" وتحويل المجال الفكري الى "مقاولة" بالمعنى الكامل للكلمة. ونشأ في جوف هذا الحصاد مناخ من حرب أهلية فكرية عنوانها الانسداد الثقافي وأولى علاماته المخيفة الإرهاب الفكري، وصارت مقالات التخوين وفتاوى التكفير المتقاطرة مثالاً حاداً لذلك المشهد. وقامت "القيامة الثقافية" منذ دبّ العياء في العقل، وازدهرت غرائز الافتراس في النفوس والأقلام، وتحول المثقفون الى "ميليشيات فكرية" مسكونة بهاجس الإبادة، وانسحب المخاطب من قواعد اللغة ليخلي المكان الوحيد الأوحد للمتكلم، واحتل المتكلم صدارة مونولوج فارغ ممتد في العبث. وليس صحيحاً أن الذين صنعوا هذا الجحيم هم دعاة الأصالة الذين حرصوا على تسفيه فكرة الحداثة بل إن الجحيم يمتد الى سلالة الحداثيين الذين أنتجوا سيلاً من مفردات العنف والعدوان ضد "السلفية" وضد "الأصولية". إذاً، لا ملائكة في هذا المشهد، فالجميع سواسية في إثم الإقصاء والتدمير. وكان كل يظن أن مالك الحقيقة لا يجادل، وأن سلاحه الأنسب تسفيه رأي غيره، وتحويل أتباعه الى "شرطة ايديولوجية" تنظم الرقابة والعقاب في أوساط أهل الرأي. ومن الثابت أن استمرار هذا المأزق التاريخي يعود الى إخفاق مشروع النهضة، واستعار الصخب بين دعاة الأصالة ودعاة الحداثة، والجدل بين الفكر الديني والفكر العقلاني وبين دعاة النظام المدني العلماني الحديث أو عدم التخلي عن الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة وفكرة الشورى. هذا وإن تعريض الإنتاج الفكري للنقد يحتاج الى مراجعة: أسطورة الدور الإرشادي، وأسطورة الدور الطوباوي ثم أسطورة الدور العلمي المحايد، فعلى المثقف العربي الحديث أن يقرّ ويعترف بانهيار نظام "الإقطاع المعرفي" بواسطة التحولات التكنولوجية التي جعلت المعرفة في حوزة الجميع واستغنت عن خدمات المثقف وأضعفت سلطته المعرفية. فالانهيار الإقطاعي للمعرفة صاحَبَهُ وتلاهُ انهيار "الثقافة الدعوية" التي لا تقدم إدراكاً للعالم بل تنتج مواقف منه، لأن الداعية لا يخاطب "عقل" جمهوره بل يخاطب "وجدانه". ويأتي أخيراً الدور العلمي المحايد ليؤكد نهاية "المعتكف" في سبيل البحث عن الحقيقة والمعرفة، لأن مثقف عدم الانحياز مثقف منحاز بامتياز. فاعتكافه دليل على انتصار الفردانية فيه، وفي ذلك الكثير من الالتباس. ويبقى السؤال الأهم بعض التعرض لهذه الحالات المرضية المزمنة: ماذا تبقى من دور للمثقف اليوم؟ لقد صار المثقف في وضع من التهميش الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. فحيث انتمى المثقفون الى الطبقة الوسطى التي أنتجها قيام الدولة الحديثة بدأت أسس هذه الطبقة تتخلخل لأن سوق القيم الثقافية أصبحت اليوم تطلب المعلومات لا الرأي، والمعلومات لم تعد كنزاً راقداً في أدمغة المثقفين بل صار في وسع الجميع الحصول على المعلومات دون لجوء الى المثقفين. هذا ما يعنيه الانخراط في العولمة، أما المؤسسات الوطنية فقد أصبح المثقف في عرفها ثرثاراً ثقيلاً على نفس صاحب السلطان وهو لا يريده إلا تحفة أو أثراً من الأثريات لاستكمال المشهد. غير أن فئة من المثقفين الرافضين للانضواء في جوقة الإنشاد المأجود انسحبت من المشهد وراحت تبني عالماً موازياً تعيد فيه تشكيل الأحداث وتأثيث الأمكنة وتصريف الأزمنة، وليس هذا العالم سوى العالم الرمزي: عالم الإبداع والأدب، وكان هذا هو الاحتجاج الحضاري الأجمل على بريرية المؤسسة وعدم السقوط في الاختلال العقلي الكامل والإدمان والجنون. التسوّل الفكري ولكن التهمة العظمى هي التي يوجهها عبدالإله بلقزيز الى المثقفين الأكاديميين، لأن فئة كبيرة منهم انشغلت بموجات فكرية لمجرد أنها جديدة، الأمر الي تُهدر معه فرص العودة الى المتون والمصادر الأساس للفكر الإنساني الحديث، بحيث نعاين اليوم كيف ينغمس مثقفون كثيرون بصرعات ما بعد الحداثة من دون أن يكونوا قرأوا أصول الفكر الحديث، وكأن عملهم يقوم على "التسول الفكري" من الغرب وهو تسوّل يفجر نقيضه باستثارة دعوات كثيفة الى الانكفاء وحماية الذات من الغزو التغريبي. ويخلص عبدالإله بلقزيز الى ثلاث ملاحظات اعتراضية على دور المثقف وسلطته ومنها: دعوته للخروج من الاغتراب والتشرنق والإقرار بمعاناته "السيزيفية" في الموضوعية والنسبية وتحاشي الممارسة السادية، وخلع قميص الداعية والاعتراف بالهزيمة لأن الهامش لم يعد واسعاً أمامه ليقوم مقام صاحب التسويغ والتشريع لقيام الدولة والسلطة، لقد بات قصارى جهده أن يظفر باعتراف السلطة هو الذي كانت شرعيتها تتوقف على اعترافه بها. أخيراً، وبعد عرضنا لمقولات عبدالإله بلقزيز التي عالجها بدقة ولو بكثير من الإطالة والتكرار في أحيان كثيرة والاكتفاء بالتنظير من دون اقتحام قلاع المثقفين وتسمية الدعاة منهم أو السماسرة، لا بدّ من الإشارة الى اثنين ممن شغلتهم علاقة المثقف بالسلطة وهما سماح ادريس في كتابه "المثقف العربي والسلطة في روايات التجربة الناصرية" دار الآداب 1991، وإدوارد سعيد في كتابه "صور المثقف" دار النهار 1994.وإذ يستشهد سماح ادريس بآيزنستادت يقول: "يتوهم المثقفون أنهم غالباً أوصياء بالقوة أو بالفعل على ضمير المجتمع، ولكنهم لا يكونون كذلك إلا إذا كان ذلك الضمير معادياً للنظام القائم". فالسلطة هي أكبر لغز لم نستطع لحدّ الآن فك ألغازه. نتصورها دائماً على شكل مؤسسات وهياكل موضوعية نحن ضحاياها ومناهضوها البررة" ولكن لماذا انتظرنا كل هذه السنوات والانتكاسات، كل هذا المدّ والجزر لنبدأ في تلمس حيوية الحوار، نصطف عشائر ونتراشق بالألقاب البذيئة واليافطات الجاهزة، نتشكل كنائس ورهبانيات تمارس الطرد في حق الرأي الآخر باعتباره بدعة وزندقة. أما إدوارد سعيد فرأى أنه من غير الممكن وجود شيء يدعى مهنة فكرية فليس هناك آلهة يعبدها المثقف الحق ويستلهمها هدياً ثابتاً لا يتزعزع. أخيراً إذ شغلت علاقة المثقف بالسلطة بعض أدبيات نهاية القرن، فإن إشكالية بلقزيز انحصرت في حدود الأصالة والمعاصرة، وإشكالية ادريس كانت تطبيقية، أما إشكالية سعيد فكانت رؤيا تنظيرية عالمية. * المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء 2000.