ذاكرة كبار السن تحمل الكثير من الصور الموحشة عن طرق الحج، فالخوف كامن هناك والموت تخبئه صحراء الطريق، وكان كثير من الناس يترددون عن المشي على الأقدام إلى الحج خوفاً من التعرض للصوص أو الوحوش في الطرق الصحراوية المؤدية إلى مكةالمكرمة. ويقف عبدالرحمن المجدع شاهداً على تلك المرحلة، إذ يروي ل"الحياة"تجربة حجاج ذلك الزمان، قائلاً:"إن مشاق الرحلة ومتاعبها كانت تودي بحياة بعض الحجاج، وكان المريض يتألم ويتوجع حتى يموت، ولا نبدأ الرحلة إلا بعد توفير الأكفان وأدوات تجهيز الموتى ودفنهم"، ويتابع: "أذكر أن أحد الحجاج توفي بعد مرض ألم به في طريق العودة عام 1357ه فقمنا بتجهيزه من غسيل وتكفين وحفرنا له قبراً ودفناه في الصحراء وواصلنا السير". ويتذكر العم محمد الحازمي 103 أعوام، أن الحج كان يرتبط في تلك الأزمان بالكثير من البدع والخرافات والجهل، ويقول متهكماً"لا أدري كيف كان يسمي الناس في ذلك الوقت ما يقومون به حجاً، فقد كان البعض يعطي كل من سمعوا أنه ذاهب للحج تمائم ومعاليق من جلد يتم وضعها في أعناق الصغار والكبار لكي يغسلها بماء زمزم ويمسح بها على جدار الكعبة، ثم يحضرها عند عودته معه، وهذا ما جعل البعض يستغل جهل الناس لكي يتاجر بتلك التمائم أو تلك التعاليق". ويضيف"كان الحجاج عندما يعود الواحد منهم يعود منهكاً متعباً وقد تراجعت صحته بسبب الجوع والعطش، فقد كان كل الزاد الذي يحملونه معهم الدقيق وقربة الماء، ويسيرون بالقرب من غدران المياه أو الآبار قدر المستطاع، ولذلك كثيراً ما كانت أعداد منهم يتم الفتك بها بالقرب من تلك الآبار والغدران، وكان أكثر ما يحصلون عليه عند وصولهم إلى البيت الحرام هو التزود من ماء زمزم فكانوا يحملون قرب المياه على ظهورهم ليشربوا منها في عرفات وفي مزدلفة ومنى لندرة المياه في تلك المواقع، ولعل المبيت في مزدلفة كثيراً ما يشهد موت بعض الحجيج ممن أرهقهم السير وحرارة الأجواء أو نتيجة لفقدهم أو انتهاء ما كان في حوزتهم من المياه". ويواصل الحازمي الحديث:"تلك الأيام ما عرفت الأمن والأمان، ووالله ما يعرف قيمة نعمة الأمن إلا من عاش تلك الأيام الغابرة، أين الحج زمان وكيف الحج الآن، نحن لم نعرف الأمن والأمان إلا في عهد آل سعود، لقد كان حال الحجاج قديماً مخيفاً لوجود بعض قطاع الطرق، كانوا يرمون الحاج ويردونه قتيلاً ثم يفتشونه ليسرقوه، لذلك لم يكن عدد الحجاج كثيراً مثلما هو الحال الآن والحمدلله". وكما كانت المياه شحيحة والأمن معدوماً كان الحصول على الأضحية أيضاً شحيحاً ليس لقلة الأغنام وإنما لعجز الناس عن شرائها، كما يقول"م.السحيمي":"كان الناس في يوم النحر يتوافدون على منى وهو يُمنّي نفسه وعياله الجياع بقطعة لحم يتمكن من الحصول عليها ومع ذلك ربما عاد لعياله ولا يحمل تلك القطعة لقلة النحر، لذلك لم تكن تجد بعد مغادرة الحجاج يوم النفرة أثراً لأي ذبيحة نحرت هناك، والحمدلله على حال الحج الآن، والحمدلله على نعمة الأمن والخير في حكام بلدنا". أما العم سالم مكي 85 عاماً ممن أدوا فريضة الحج سيراً على الأقدام يقول:"مشينا من المدينة إلى مكةالمكرمة في الليل كنا نقطع جبلاً ويستقبلنا جبل آخر، وهكذا حتى وصلنا إلى الحرم الشريف الذي كانت تمتد حوله بعض الأشجار أو الشجيرات البرية، حيث كان الحجاج يتخذون منها مقاماً أو سقيفة تخفف عنهم حرارة الشمس، أما في منى فلم يكن هناك رمز للشيطان، وإنما كانت هناك كومة تراب أو حصى نقوم برجمها، وكنا نحمل الماء معنا". أما صديق العم سالم محمد ملا 90 عاماً يقول:"كنا نقطع الطريق برفقة الجمالة وندفع أجرة لهذه الرحلة مبلغاً وقدره خمسة ريالات، خوفاً من السباع التي كثيراً ما كنا نفقد بعض أقربائنا أو مرافقينا بسبب افتراسها للبشر، كنا نضطر للقيام بعملية حراسات وخصوصاً في الليل، حيث ينام الجميع ويبقى أحدهم مستيقظاً لكي يحميهم من الذئاب التي كانت تتحين فرصة للانقضاض على الناس، وكانت تحوم حولنا أثناء النهار ولا نجد وسيلة لمكافحتها سوى العصا التي لا تجد أحداً يسير من دونها، وكان عدد الحجاج قليلاً جداً سواء كان ذلك في الحرم أو في المشاعر المقدسة حتى أنني أذكر كنت أرجم الشيطان وجهاً لوجه".