صلاة الجمعة في السابع من ذي الحجة لسنة 1421 ه الموافق للثاني من آذار مارس لسنة 2001 كانت مميزة، فهي أول صلاة جمعة أديتها في الحرم المكي، والمصلون يحيطون بالكعبة المباركة كما يحيطون بالمسجد الحرام وتتوالى الصفوف في الشوارع والساحات المكية لمسافة تزيد على الكيلومتر. وتتعاقب الدوائر خلف بعضها بعضاً والجميع يستقبلون الكعبة المباركة، صلاة واحدة تجمع مُصلين من أبناء كافة الأمم والشعوب وكل اقاليم العالم ومختلف ألوان الجنس البشري وجميع المستويات المادية فقراء وأغنياء والثقافية. فالأميون الى جانب العلماء. والجميع على صعيد واحدٍ جامع تجمعهم صلاةُ الجماعة في يوم الجمعة، وتتجلى لأصحاب العقول صورة الجامعة الاسلامية القائمة على المحبة والعدل والمساواة. وجميع الحجاج يمكنهم ان يشربوا من ماء زمزم حيث وُزِّعت برادات الماء في مختلف انحاء الحرم المكي والأمكان المحيطة بالحرم، والجمعيات الخيرية توزع ماء زمزم على ضيوف الرحمن في بلد الرحمة في أماكن وجودهم. وهذه قضية مُدهشة تحارُ فيها العقول، بئر زمزم في منطقة قاحلة أرضها حرة حجارتها بركانية سوداء، أرض لم تألفها الطيور قبل تدفُّق ماء زمزم في ميلاد النبي اسماعيل بن أبي الأنبياء ابراهيم الخليل عليهما السلام. ها هنا ترك أبو الأنبياء عليه السلام، زوجه هاجر، وفي غيابه ولدت واحتاجت الماء لتدبُّر أمور الوليد ركضت الى جبل الصفا تلتمسُ الماء ثم سعت بين الصفا والمروة ولا سيما بين العلمين مثنى عَلَم الأخضرين. وكررت السعي سبع مرات ولما عادت الى وليدها وجدت ماءَ زمزم يتدفق بجواره، وقصدت الطيورُ الماء، واستدلت جُرهمُ على الماء بحركة الطيور، وعلى مقربة من ماء زمزم بنى ابراهيم واسماعيل البيتَ، وما زال مَقامُ ابراهيم شاهداً الى جوار الكعبة يصلي المصلون خلفه ويستقبلون القبلة ويقرأون قوله تعالى "واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى". لعل الأمر الغريب هو غزارة مياه زمزم التي يشرب منها أكثر من مليون ونصف المليون من الحجاج ولا ينقص منسوب مياهها بفضل من الله تعالى. بعد صلاة الجمعة انتشر المصلون في شوارع مكةالمكرمة كالسيل في كل مكان والجامع المشترك بينم هو الوفاء والخشوع وذِكرُ الله تعالى في هذه الأيام المعلومات. وبعد صلاة المغرب زار مكان تواجدنا معالي الشيخ صالح بن عبدالعزيز بن محمد بن ابراهيم آل الشيخ وزير الشؤون الاسلامية والأوقاف والدعوة والارشاد وتميز لقاؤنا معه بالحب والإخلاص وبعد أداءِ صلاةِ المغرب حاضَرَ بالحجاج فوعظهم وتحدث عن انواع العلوم الشرعية التي تُصلح الراعي والرعية، ثم فتح باب الحوار وأجاب على أسئلة الحجاج ثم وُدِّعَ بمثل ما استقبل به من حفاوة وتقدير. صلى مَنْ بمكّة المكرمة العشاء وبعد صلاة العشاء تحدّث الوُعاظ عن يوم التروية والذهاب الى منى في الثامن من ذي الحجة، ثارت لواعجُ الشوقِ الا متى حاولت ان انام ولكن النوم نَفَرَ فسهرتُ الليل حتى الفجر، فصليت مع الحجاج في مسجد الفندق. وبعد الصلاج تحدث الشيخ عبدالله ابن عبدالعزيز الخُضَيْر عن يوم التروية، وبعد ذلك تناولَ الافطارَ المفطرون وحانت ساعة مغادرة مكة، فاستقلينا حافلة مُكيَّفة نهبتِ الطريق الى منى وشاهدنا على جانبي الطريق جبالاً وشعاباً جرداء لا يتوقَّعُ مَنْ يُشاهدها أن بئر زمزم خلفها، ولما أشرفنا على منى شاهدنا خياماً يدهشُ الناظِرَ ترتيبُها الهندسي على رغم كثرتها فهي تتسع لأكثر من مليوني حاج. وتخترق صفوف الخيام شوارعَ للسيارات وممرات للمشاة، وشكلت الخيام وحدات سكنية متكاملة المرافق التي يحتاجها الحجاج، أما الخيام فقد فرشت بالسجاد وزودت بالفرش والأغطية والوسائد والمناشف وآلات اطفاء الحريق الفردية وصنعت سواتر الخيام وقبابها من مادة الامينط المقاومة للاحتراق، وزودت بالمكيفات للتبريد، ونورت بالمصابيح الكهربائية، وخصصت خيمتنا لعشرين نسمة، أما أرضها ففرشت بست سجادات، وجُهزت لباب الخيمة ستارة تفتح وتغلق، وخصصت بين المضارب خيامٌ لمراكز التموين الذي قدمته مجاناً حكومة خادم الحرمين الشريفين كما خصصت بعض الخيام للعسس، وبعضها للمرافق العامة، وأعمدة جميع الخيام صنعت من المعدن المُثبت بالأرض، وزودت الخيام بأجهزة انذار الحريق وفتحات التهوية، كُلَّ ذلك تمَّ تنفيذاً لتوجيهات خادم الحرمين، وأشرف على تنفيذها رجال المملكة العربية السعودية. صلينا الظهر جماعةً في الخيمة في الساعة الواحدة والربع ظهراً وأمّ المصلين الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز الخُضَير. وفي الساعة الثانية حان وقت الغداء وتدفقت الخيرات على الخيمة شأنها شأن غيرها، وجبة غداء ساخنة قوامُها الرز واللحم والفطائر وحولها مياه باردة وفواكه شملت التفاح والموز والبرتقال. أكل الجميع وبقي الطعام وجاء عمال النظافة فجمعوا من الخيام كل خوان، وقصدنا أماكن الوضوء فإذا هي عديدة وجهزت كل دورة مياه بدوش لمن أراد ان يستحم، أما الميضأة أي الشادروان ففيها الكثير من صنابر المياه. غسلنا أيدينا وعُدنا الى خيامنا، وفي طريقنا شاهدنا خيام حجاج فيتنام الذين استضافهم خادم الحرمين الشريفين لهذا العام. انهم مسرورون والسرور بادٍ على سماهم. وفي الممرات بين الخيام انتشرت صهاريج الماء المبرد، وثلاجات مملوءة بالمرطبات الباردة، وتناولها مُتاح لمن يشتهيها، نعم مُرطبات باردة في ثلاجات منى هدية من خادم الحرمين الشريفين الى حجاج بيت الله حينما شاهدتها حمدت الله وقرأتُ قوله تعالى: "وأما بنعمة ربِّكَ فحدِّث". وقرب مركز المياه يوجد باب الطوارئ رابطت على مدخله سيارات الاسعاف على الشارع العام الاوتوستراد الذي يعبر في منطقة مخيمنا ويصل الى مكة العاصمة المقدسة. كل شيء متوافر حتى الورق النشاف، ومكبرات الصوت، والهواتف النقالة تصل بين الحجاج وذويهم، وزُوِّد المخيم بالارقام التي تحمل على أعمدة مرتفعة يستهدي بها الحجاج الى أماكن اقاماتهم. الى اعلام الدول وحملات الحجاج التي تُعدُّ بالمئات دول ولغات والجامع المشترك هو شهادة ان لا إله الاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله. كان حينا في مخيم منى ما بين جبل من الشمال وجامع الخيفا من الجنوب الى الشرق من مَجَرِّ الكبش، وكان مدخل حينا ما بين الراقمين 28/أ و28/ب. أدينا صلاة الظهر جماعةً ثم تناولنا طعام الغداء الذي يتيسر مثله لأجدادنا وابائنا في مثل هذا الوقت وبمثل هذا المكان. ثم صلينا العصر، والصلاتان رُباعيتان غير أنهما تُصليان قصراً في منى. كانت الحركة متواصلة في منى فالطريق العام الأوتوستراد على مدخل المخيم تعج به السيارات والمرابطون في المستوصف على مدخل المخيم يقِظون وحراسة باب المخيم مستمرة، وحركة الحجاج متواصلة داخل الخيام وفي ممرات المخيم نهاراً وليلاً والمياه المبردة متوافرة على مدار الساعة. وفي ممرات المخيم توجد مراكز الشاي والسكر والقهوة والمرطبات متوافرة على مدار الساعة والناسُ ما بين مُهللٍ ومُكبر ومُسبح ومصلٍّ وآكلٍ وشاربٍ. مستيقظٍ ونائم. آن وقت صلاة المغرب فصليناها جماعةً، حيث تقام الجماعات في الخيام، وبعض الحجاج يُصلى في غير خيمته، وبعد ذلك آن وقت صلاة العِشاء فصلينا، وبعد العِشاء جاء العَشاء واستمرت حركة العبادة. لم أنَمْ في الليلةِ الماضية، ومع ذلك سهرتُ حتى الثانية عشرة، استمر صوتُ المكيفِ هادراً، ولكننا نمنا، وكلما استيقظتُ أشاهدُ مُصلٍ قائماً في جوف الليل، وبعد الصلاة يدعو الله لنفسه وللمسلمين. استيقظت من نومي في الرابعة من صباحِ يوم الأحد التاسع من ذي الحجة 1421 ه الموافق للرابع من آذار. وقصدت الميضأة فكأن الحجاج لم يناموا الحركة مستمرة الجميع يتوضؤون وعدت الى الخيمة، ولما حان الوقت رُفع الأذان في مِنى وصلينا الصبح جماعة في خيمتنا ثم جاء طعام الافطار من النواشف مع المرطبات والشاي والحليب وحتى القهوة العربية. الجميع ينتظرون لحظة النَّفر من المخيم في مِنى، والأحاديث متشعبة تشمل الفقه وقضايا الحياة بما فيها وسائل الاعلام وما تجره من نعمٍ ونِقَمٍ على المسلمين. ثم جاءت الحافلات فنقلتنا من مخيم منى وانطلقت في الساعة 30.8 صباحاً واتجهت القافلة نحو عرفة. اتجهت حافلتُنا غرباً حتى شارع الحج - خارج مِنى - ثم دارت يميناً ومرّت على يسار جبل النور الذي فيه غار حراء، وكان في الجهة اليُمنى سُوقُ مواشي مكة والمسلخ. ثم دارت الحافلة يميناً واتجهت جنوباً وسلكت طريق المعيصم، وتجاوزت مفرق جسر الملك عبدالعزيز آل سعود الذي يؤدي الى مِنى، ثم مرت الحافلة بشركة تحلية المياه، وتجاوزت المجزرةَ، وصارت منى على يمين الطريق. الحجاج يُلبون في الحافلات وعلى ظهورها وبعضهم يسيرون على أقدامهم والجميع يُلبون: لبيك اللهم لبيك" ووسائط النقل متعددة الأنواع فالآليات بأنواعها، وبعض الحجاج قصد عرفة على ظهور الإبل. دخلت حافلتنا مُزدلفة في الساعة 45.8 الثامنة و45 دقيقة، وصار تقاطع الجسور على يميننا، وصار مسجد المشعر الحرام على يسارنا، وبدت لنا أشجار مزدلفة، وسارت الحافلة على يسار منى ثم مرت بجسر الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله. وبعد عبور مزدلفة اتجهت الحافلةُ جنوباً فمرَّ بالمفرق المؤدي الى الطائف في الساعة التاسعة صباحاً، ودارت الحافلة يميناً واتجهت غرباً فشمالاً فشرقاً، وشاهدنا القُوَّة المُساندة في الحج التي تتمركز الى الشمال من الطريق العام. أخطأ سائق حافلتنا فسلكت طريق ابراهيم الجفالي الذي في حي العوالي، ولما وصلنا الى مدرسة الخليل بن أحمد الفراهيدي اتصل مُرافق الحافلة بقيادة القافلة بالهاتف الجوال، ثم دارت الحافلة الى الطريق العام. وبعد قليل تركنا حافلتنا واستقلَّينا حافلةً أُخرى قُرْبَ محطة القرى وجمعية الأطفال المعاقين، وكانت الحافلةُ الأولى بطابقٍ واحدٍ أما الثانية فبطابقين. ولذلك صعدت الى الطابق الأعلى وجلست في المقدمة على اليمين وتوفرت لي رؤية ما بالطريق وما حوله في شكل أفضل من الأولى. ورُبَّ ضارّة نافعة. السيارات تمُّر بسرعة والطرق من الدرجة الأولى، والجسور تيسر حركة السير، وصهاريج المياه العذبة الخزانات تسير ضمن القافلة. وفي القافلة تستطيع ان تميز مذاهب ركاب السيارات من الحجاج اذ ان سيارات الشيعة مكشوفة لها سُقوف. فمذهبهم يحظر ذلك فهم يحرمون سقف السيارة في الحج ولكنهم يستعملون الشمسية المظلة. وهذا ما أدى اليه اجتهادُهم. تابعت القوافل مسيرها اذ تختلط سيارات نقل الركاب بسيارات الاسعاف، وسيارات نقل المياه وسيارات نقل الأمتعة والأغذية. وصلت حافلتنا الى مفرق جامعة أم القرى في الساعة التاسعة و40 دقيقة، ثم دارت الحافلة يميناً عند الجامعة واتجهت شمالاً ثم شرقاً نحو عَرَفَة، ووصلنا طريق عرفات الدائري الذي يتجه شرقاً على اليمين، ويتجه غرباً على اليسار، وتابعنا المسير فظهرت عرفات على يسار الشارع، وظهر على اليمين مفرق مكةالمكرمةوالطائف، وصار الطريق الذي سلكناه داخل عرفات حيناً وخارجها أحياناً بحسب طبيعة الأرض. وعبرت حافلتنا الطرقات - المفارق التي تدخل عرفات، وبعدما عبرنا الطريق الخامس سلكت الحافلة يسار الاوتوستراد وبدا لنا على يسار الطريق مخيم حجاج جنوب شرق آسيا. ثم عبرنا الطريق السادس، وبعده اتجهنا شرقاً على يسار مصالح المياه، ومررنا بشارع سوق العرب حتى وصلنا مخيمنا في عرفات في الساعة العاشرة فاتجه كل حاج الى خيمته. توزّع الحجاجُ على الخيام في عرفات وانشغلوا بالتكبير والدعاء والصلاة، وصلى الأمراء والوزراء والرؤساء والملوك الذين شهدوا الحج. صلوا الظُّهر في مسجد َنمِرَة في عرفات وأم المصلين سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ وخطب الناس خطبة جامعة مانعة فدعا قادة المسلمين الى تطبيق السياسة الشرعية، ودعا المجاهدين الى تحرير بيت المقدس من الصهاينة وحذّر المرأة المسلمة والشباب المسلم من الوقوع في أحابيل المغرضين الذين يخططون لتدمير الاسلام والمسلمين. وبُثت الخطبة مباشرة بالتلفاز وتناقلتها الاذاعات عبر الأثير. تمكن قسم من الحجاج من النزول في نمرة وبقوا فيها حتى الزوال ولكن الأكثرية لم تتمكن من ذلك لكثرة عدد الحجاج إذ تجاوز المليونين في هذا العام. وقد صلى جميع الحجاج صلاة الظهر وصلاة العصر قصراً وجمعاً في وقت الظهر بأذانٍ واحدٍ واقامتين اقتداءً برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وتطبيقاً لسنته. ثم وقف الناس بعرفة. وعرفة كلها موقف إلاّ بطن عُرَنَةَ واستقبلوا القبلة عموماً وبعضهم تمكن من استقبال القبلة وجبل الرحمة لوقوعهم بين أماكنهم وبين الكعبة المشرفة وأكثروا التلبية والقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويُميت وهو على كل شيء قدير". كما ان الحجاج سبحوا وحَمْدَلوا وهللوا وكبّروا اللهَ كثيراً في عرفات ودعوا الله مخلصين. بقي الحجاجُ في عرفة حتى غربت شمس اليوم التاسع من ذي الحجة 1421 ه الموافق 4/3/2001. ومن الأمور التي تبعث التفاؤل هطولُ المطرِ ظُهراً في عرفة، وفي المساء استمر هطول الأمطار الغزيرة من الساعة السابعة حتى التاسعة مساءً، وتنشق الحجاج رائحة المطر الذي خالط تراب عرفة وما ألذّها من رائحة عطرة، وهطول المطر رطب الجوَّ وأنهى الغبار الذي أثارته القوافل. نَفَرَ الحجاج من عرفة وقصدوا مزدلفة، واتجهت حافلتنا يميناً نحو الشرق فكانت على يسارنا الطريق 8، والطريق 9، وعلى اليمين الطريق 2،3،4،5،6،7، وتابعنا المسير نحو مزدلفة فوصلناها في الساعة 23 مساءً. وأدى الحجاجُ صلاة المغرب ثلاثاً في مزدلفة والعشاء ركعتين جمعاً بأذانٍ واحدٍ واقامتين فور وصولهم الى مزدلفة. ودّعت زملائي في مزدلفة واتجهت نحو المشعر الحرام صحبة الحاج المكاوي عادل البغدادي وأهله فأرشدني الى مكان المشعر الحرام ومسجده، ثم جلتُ وحيداً في مزدلفة وبحثت عن أهالي بلدي طوال الليل فلم أجد أحداً منهم، وصعدت المشعر الحرام قبل صلاة الصبح فجلستُ قليلاً ودعوت بما تيسر ثم نزلت الى المسجد وصليت الصبح جماعةً ثم جمعت 7 حُصيات من مزدلفة ووضعتها في كيس خاصٍّ. وبعد الصلاة قصدت جمرة العقبة مشياً على الأقدام لعلي أصادف بعض أقاربي وكي أنال مزيداً من الثواب جراء المشقة. سيارات الأجرة تتدافع ما بين المشعرِ الحرام ومسجد المشعر الحرام، أصحاب القناعة ينقلون الحاج الى قرب حجرة العقبة وبمبلغ عشرة ريالات سعودية أما الجشعون فبأربعين ريالاً وهنالك من يأخذ عشرين ريالاً أو ثلاثين على الراكب. بعض الحجاج وصلوا جمرة العقبة باكراً وحصل الازدحام المُريع وفي الساعة الثامنة صباحاً تجاوز المزدحمون على رمي الجمرة الكبرى، جمرة العقبة، وعجز رجال الأمن عن ايقاف الموج البشري المتوالي، وتوفي دهساً 22 حاجةً و13 حاجاً، وقارب عدد الجرحى المئتي ولا حول ولا قوة الاّ بالله العلي العظيم. بنت الدولة السعودية طريقاً علوياً وطريقاً سفلياً. والطريقان يؤديان الى أمكنة رمي الجمرات لتخفيف الازدحام ولكن الاعداد تزداد سنوياً ولذلك أصبح من الضروري بناء طريق ثالث فوق الطريق الأعلى لتخفيف أزمة رمي الجمرات. سرتُ نحو الجمرة الكبرى جمرة العقبة ضمن سيلٍ من الحجاج وساقني السيل في الطريق العلوية وكانت الشمسُ قوية وصلعتي مكشوفة ما أرهقني ولا سيما أنني قضيت الليل ماشياً وباحثاً عن الأهل، ووصلت قُرب الجمرة الكبرى، وكانت قوات الأمن تُفوِّجُ الحجاج فتسمحُ لهم بالمرور فوجاً وراء فوج. وكل فوج بحدود ألف نسمة، واندفع فوجُنا نحو الجمرة الكبرى ظنت أنني في مثلث برمودا، أذهب يميناً وشمالاً وأتقدم وأتأخر من دون ارادتي. فالسيل البشري قوي التيار يجرف من يأتي في طريقه حيث يشاء. ساقني التيار الى جدار جمرة العقبة وبدأتُ الرجم وأنا أردِّدُ مع كل حصوة أقذفها عبارة: بسم الله والله أكبر، ولقد حالفني الحظُّ فدفعني التيار الى المكان الأفضل إذ كنت أرمي من ناحية بطن وادي منى والكعبة عن يساري، تأسياً برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وقد سقطت الحصى التي رميتُها في المرمى، وهنالك فقد أكثر من الحجاج نعالهم جراء الازدحام وبعضهم فقد مناشف الاحرام، والنظارات والساعات والحقائب تتساقط ويصعب التقاطها، ولما وقفت للرمي اصابتني حصى كثيرة من الحصى التي رماها الحجاج عن بُعدٍ. وقبل مغادرة المرمى انقذت امرأة مُسنةً أوشكت على الهلاك وأخرجتها من المرمى الى الطريق المؤدية الى منى وهذا فضل من الله تعالى. وأنصح المسلمين بالحج قبل الشيخوخة. سرت ماشياً من عند جمرة العقبة الى مخيمنا في منى وتعبت في شكل لم أعرف له مثيلاً مُنذ أيامي في العمل الزراعي وأعمال البناء قبل سنة 1970. بعد رمي الجمرة بدأ الحجاج نحرَ الأضاحي، مع القول: بسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك وإليك، مع توجيه الأضحية نحو القبلة بعد عرض الطعام والماء عليها. وامتد وقتُ ذبح الأضاحي حتى غروب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق أي استمرت يوم العيد والأيام الثلاثة التي تلته. بعد النحر قصدتُ الحلاق وكان من مُسلمي تايلاند فتولى حلاقة رأسي بالشفرة وساعده زوج والدته، فمساحة رأسي واسعة. وفضلت الحلاقة على تقصير الشعر التزاماً بالسُّنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بالرحمة والمغفرة للمحلِّقين ثلاث مرات ودعا للمُقصرين مرة واحدة. وبعد الرجم والحلاقة تحللت التَّحلُّلَ الأول، وخلعتُ رداء الاحرام وازاره، واستحميتُ وتطيبتُ وصار كل شيء مُباحاً لي الاَّ النساء. بعض الحجاج توجه الى مكة لأجل طواف الافاضة والسعي، أما انا فبقيت في المخيم بمنى، ومساءً صليت العشاء في مسجد الحنيف وعدت الى المخيم ونمت في وقت متأخر. جاء يوم الثلثاء 11 ذي الحجة 1421 ه/ 6/3/2001 فصلينا الصبح جماعة في منى، ورنَّ هاتفي الجوال فإذا بصوت يحيى الدغيم يأتي متقطعاً يسألني عن مكاني، فوصل بعد ساعات. وكان لقاء بعد فراق بلغ العشرين سنة اذ غادر سورية قبلي ولم نَرَ بعضنا، فتناولنا الغداء وبعد صلاة الظهر اتجهنا معاً فرمينا الجمرات الثلاث الصغرى والوسطى والكبرى. ولم أرمِ هذه المرة من المسعى العُلوي بل من الشارع الأرضي وكان الازدحام عادياً من دون ضحايا. وبعد المغرب قصدت ويحيى مخيم السوريين وصلنا خيمة أهالي جرجناز، وكان اللقاء حزيناً فرحة ودموع، الاشكال تغيرت، وبقيت الملامح كرسوم الديار وأطلالها بعد الرحيل. هؤلاء الأهل والأصدقاء والأقارب رحلت عنهم نضارة الشباب وغطى الشيب لحاهم ورؤوسهم، ذهب كبرياء الشباب وحلَّ تواضع المشيب، تعرفت على الجميع لكنني لم استطع معرفة احدهم. تغير شكله. انه أحمد الحسين الذي كان موجهاً في ثانوية جرجناز التي درست اللغة العربية فيها سنة 1982 - 1983، وبعدما جلسنا سويعة أدركت صوته فقلت: أنت من أولاد أبي حُسين. بقيت معهم حتى منتصف الليل وودعتهم وعدت أدراجي ماشياً الى المخيم. ومصادفة شاهدت مخيم القصواء لصاحبه المكاوي محمود هاشم الذي تعرفت عليه في لندن من طريق صهره الجليل عبدالوهاب مظهر حسين الأنصاري ابن كبير مُطوفي الهند، ثم تابعت الى مخيمنا مروراً بجامع الحنيف. ايقظني الحاج عادل البغدادي في الساعة الرابعة من صباح الأربعاء 12 ذي الحجة 7/3/2001 وركبنا سيارته وقصدنا الكعبة وبعد وصولنا افترقنا فدخلت المسجد الحرام وطفت طواف الإفاضة وهو سبعة أشواط تشبه طواف القُدوم وطواف العمرة مع فارق النية. وبعد الشوط الثالث حكمت صلاة الصبح فصلّيتُها جماعة على بُعدِ امتار من الحجر الأسود الذي كنت أراه أثناء الصلاة، هذه الصلاة يختلط بها الرجال بالنساء على صعيد واحد مُقدس حول الكعبة المشرفة. وبعد الصلاة أتممت الطواف ثم صليت ركعتين قرب مقام ابراهيم، وشربت من ماء زمزم وقصدت الصفا فسعيت بينها وبين المروة سبعة أشواطٍ، وتحللت التحلل التام، فحلَّ لي كل ما هو حلال. بعد طواف الافاضة الذي يسمى طواف الزيارة، عدتُ الى منى وهطلت الامطار الغزيرة ومع ذلك رميت الحجرات الثلاث في الساعة الرابعة بعد الظهر وقررت العودة ماشياً فسلكت طريق الحرم الذي يمتد من الجمرات الى الحرم وصليت المغرب في أحد جوامع مكة التي على قارعة الطريق. ولما وصلت الحرم طفتُ طواف الوداع في الساعة العاشرة والنصف ليلاً ثم عدت الى فندق "حياة ريجنسي" ونمت تلك الليلة هناك. غادرت مكة مع الحاج محمود الأشقر الخميس 13 ذي الحجة 8/3/2001 فوصلنا جدة ثم غيرنا السيارة وركبنا سيارة الحاج عبدالعزيز تركستاني وغادرنا جدة الساعة الرابعة بعد الظهر وتابعنا حتى وصلنا المدينة مساءً وزرنا الروضة المبارك حيث يوجد قبر محمد صلى الله عليه وسلم والى جانبه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وعملنا بالمأثور فلما وصلنا المسجد قدمتُ الرجل اليمنى عند الدخول وقلت: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرحيم، اللهم افتح لي أبواب رحمتك. وصليت ركعتين دعوت فيها بالخير لي ولجميع المسلمين والمسلمات كما دعوت بالهداية لغير المسلمين، وسلمت على رسول الله قائلاً: "السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته" "السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك يا خيرة الله من خلقه، السلام عليك يا سيد المرسلين وإمام المتقين، أشهد أنك قد بلّغت الرسالة وأدّيت الامانة، ونصحت الأمة وجاهدت في الله حقَّ جهاده". ثم سلمت على أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما ودعوت لهما وترضيت أيضاً. ثم عدنا الى الفندق بجوار الحرم النبوي. جاء يوم الجمعة 14 ذي الحجة 1421 ه9/3/2001 وصليت الجمعة على سطح توسعة المسجد النبوي خلف القبة الخضراء التي دُفن فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم. وبعد الصلاة زرت البقيع راجياً ان أتذكر الآخرة وقلت: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية. السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، انتم سلفُنا ونحن بالأثر. ثم زرت مسجد قُباء وصليت فيه ركعتين تطبيقاً لسُنّة محمد صلى الله عليه وسلم. استمرت اقامتنا في المدينةالمنورة الى الشمال من المسجد النبوي مسافةً تقلُّ عن مئتي متر، وصلينا الصلوات الخمس في المسجد النبوي جماعة طوال يوم السبت 15 ذي الحجة 1421 10/3/2001. وفي المساء التقينا مع الحجاج الصينيين الذين حجوا هذا العام ضيوفاً على خادم الحرمين الشريفين وتحدث في اللقاء توفيق السديري الوكيل المساعد في وزارة الشؤون الاسلامية والأوقاف والدعوة والارشاد السعودية. ثم عدنا الى الفندق، وفي يوم الأحد بدأ ضيوف خادم الحرمين مغادرة المدينةالمنورة عائدين الى بلادهم. وفي المساء زرت مركز بحوث ودراسات المدينةالمنورة، وقابلتُ مديره عبدالباسط بدر ثم عدت الى الفندق وقررت تمديد اقامتي في المدينة لزيارة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.