كثير من الحجاج والرحّالة والأدباء والفلاسفة الذين ارتحلوا إلى القدس أرادوا أن يعبروا عن تجربتهم من زاوية"مشكلة تكوين صورة"، وكان ذلك أيضاً شأن المصور الفوتوغرافي الذي أراد التقاط صورة للأشياء على نحو ما هي عليه بالضبط"للآخر نفسه في واقعه الفعلي والحيوي". وكان هؤلاء يريدون الانغماس في اكتشاف الآخر وأن"يلمسوا بأصابعهم حضارات أخرى ومعارف جديدة، وكان من شأن هذا الانغماس، أن يسمح بوفرة من التفاصيل الإثنوغرافية في مؤلفاتهم وكتاباتهم، كنتائج تجربة مباشرة وقريبة مع الآخر، تطورت إلى رغبة في اتصال مباشر وفيزيقي مع الغريب والعجيب والمثير جداً. ويحسن بنا الوقوف مع الكم الهائل من الأساطير التي ساقها الموروث الشعبي في كتابات المؤرخين والرحالة عن مدينة القدس العتيقة لنلاحظ أنها لم تتكون دفعة واحدة"إنما استمر كل جيل يضيف إليها من خياله ما يوائم تصورات عهده، وما يزيد من تأثيرها في أذهان محبيها، لذلك فإن الروايات والأفكار التي راجت وتكونت عن مدينة القدس أو بيت المقدس، تباينت في ما بين الكتابات التاريخية، ووفقاً للزمان والأحداث أحياناً، في تناول للأساطير جملة واحدة من دون تفاصيل محددة متتابعة، فكأنهم بدأوا بالنهاية، فاختلط الأول بالآخر من دون اعتبار للمراحل التطورية التي يمكن أن تكون المدينة المقدسة مرت بها ومن دون حساب للعوامل والظروف الموضوعية التي كان محتملاً وجودها وراء كل خطوة انتقالية. لم تخل سيرة مدينة القدس وأخبارها من فكرة الشخصيات الحارسة والطلاسم التي كانت تلازم بناء المدن العريقة وعمارتها، سواء قبل الطوفان أو بعده. فنجد ان الروحانيات والجن والشياطين وحكاياتهم المستمدة من الأساطير لها دور في الروايات الخاصة ببناء المدينة وأسوارها وعيونها ومساجدها وأبوابها القديمة، وتخلق نوعاً من الغموض على المستوى الزمني والمكاني للمدينة تحاول فيه مثل تلك الأخبار خلق صيغة زمنية ومكانية قد يكون لأحداث الرواية فيها نوع من المعقولية بالمعنى العادي. مثال ذلك ما رواه الكثير من الرحالة والمؤرخين عن عجائب المدينة المقدسة بقولهم:"ومن العجائب التي في بيت المقدس السلسلة التي جعلها سليمان بن داود عليهما السلام معلقة من السماء إلى الأرض شرق الصخرة مكان قبة السلسلة الموجودة الآن"، وفيها يقول الشاعر:"لقد مضى الوحي ومات العلا ** وارتفع الجود مع السلسلة". وكانت تلك السلسلة لا يأتيها رجلان إلا نالها المحق منهما ومن كان مبطلاً ارتفعت عنه فلم ينلها، وملخص حكايتها مع اختلاف فيها أن رجلاً يهودياً كان قد استودعه رجل مئة دينار فلما طلب الرجل وديعته جحد ذلك اليهودي فترافع إلى ذلك المقام عند السلسلة فأخذ اليهودي بمكره ودهائه فسبك تلك الدنانير وحفر جوف عصاه وجعلها فيها فلما أتى ذلك المقام دفع العصا إلى صاحب الدنانير وقبض على السلسلة ثم حلف بالله لقد أعطاه دنانيره ثم دفع إليه صاحب الدنانير العصا وأقبل حتى أخذ السلسلة فحلف انه لم يأخذها منه ومس كلاهما السلسلة فعجب الناس من ذلك فارتفعت السلسلة من ذلك اليوم لخبث الطويات وحكي غير ذلك وجعل سليمان تحت الأرض بركة وجعل فيها ماء وجعل على وجه ذلك الماء بساطاً ومجلس رجل جليل أو قاض جليل فمن كان على الباطل إذا وقع في ذلك الماء غرق ومن كان على الحق لم يغرق. ومن العجائب التي كانت أيضاً في بيت المقدس في الزمان الأول ما حكاه صاحب"مثير الغرام"من أن الضحاك بن قيس صنع به العجائب الأولى اذ انه صنع به في ذلك الزمان ناراً عظيمة اللهب، فمن عصى الله في تلك الليلة أحرقته تلك النار حين ينظر إليها والثانية من رمى بيت المقدس بنشابة رجعت النشابة إليه والثالثة وضع كلباً من خشب على باب بيت المقدس فمن كان عنده شيء من السحر إذا مر بذلك الكلب نبح عليه فإذا نبح عليه نسي ما عنده من السحر والرابعة وضع باباً فمن دخل منه إذا كان ظالماً من اليهود ضغطه ذلك الباب حتى يعترف بظلمه والخامسة وضع عصا في محراب بيت المقدس فلم يقدر أحد أن يمس تلك العصا إلا من كان من ولد الأنبياء ومن كان سوى ذلك أحرقت يده والسادس كانوا يحبسون أولاد الملوك عندهم في محراب بيت المقدس فمن كان من أهل المملكة إذا أصبح أصابوا يده مطلية بالدهن وكان ولد هارون يجيئون إلى الصخرة ويسمونها الهيكل بالعبرانية وكانت تنزل عليهم عين زيت من السماء فتدور في القناديل فتملأها من غير أن تمس وكانت تنزل نار من السماء فتدور على مثال سبع على جبل طور زيتاً ثم تمتد حتى تدخل من باب الرحم ثم تصير على الصخرة فيول ولد هارون تبارك الرحمن لا إله إلا هو فغفلوا ذات ليلة عن الوقت الذي كانت تنزل النار فيه فنزلت وليسوا حضوراً ثم ارتفعت النار فجاؤوا فقال الكبير للصغير يا أخي قد كتبت الخطيئة أي شيء ينجينا من بني إسرائيل أن تتركنا هذا البيت الليلة بلا نور ولا سراج؟ فقال الصغير للكبير تعال حتى نأخذ من نار الدنيا فنسرج القناديل لئلا يبقى هذا البيت في هذه الليلة بلا نور ولا سراج فأخذ من نار الدنيا واسراجاً فنزلت عليهما النار في ذلك الوقت فأحرقت نار السماء نار الدنيا وأحرقت ولدي هارون فناجى نبي ذلك الزمان فقال يا رب أحرقت ولدي هارون وقد علمت مكانهما فأوحى الله تعالى إليه هكذا افعل بأوليائي إذا عصوني فكيف افعل بأعدائي". ويعلق الرحالة ناصر خسرو على عجائب قبة السلسلة بقوله:"وبعد قبة الصخرة قبة تسمى"قبة السلسلة"وهي السلسلة التي علقها داود عليه السلام والتي لا تصل إليها إلا يد صاحب الحق، أما يد الظالم والغاصب فلا تبلغها، وهذا المعنى مشهور عند العلماء". ما يهمنا في تلك الروايات هو انشغال الوجدان الشعبي بقصص الأنبياء التي لم تشبع حاجات هذا الوجدان الروحية، فراح يضيف من تصوراته وموروثاته إلى تلك القصص التي حفظتها لنا كتابات الرحالة والمؤرخين، بخاصة في سياق حديثهم عن كل ما يتعلق بسليمان إذ سيظل اللقاء الأسطوري بينه وبين ملكة سبأ واحداً من أكثر اللقاءات إثارة للخيال وحتى لكاتب التاريخ، فإن هذا الخيال يشكل لا محالة عنصراً أساسياً من عناصر اللقاء، يصعب إن لم يكن مستحيلاً إقصاؤه أو تبريره على حد سواء. وما دام هذا اللقاء جرى في ظروف أسطورية مفرغة من أية ممانعات واقعية يمكن أن تكبح خيال المتلقي، أو أن تفرض عليه شروط قراءة خاصة، فقد ظلت القصة محتفظة بسحر لا يقاوم، ومفتوحة باستمرار لضروب شتى من التأويل وألقت بظلالها على كثير من الحوادث التاريخية الأخرى التي ارتبطت في الذهنية الشعبية بالنبي سليمان وما يرتبط به من آثار ومدن شارك في بنائها وبخاصة قصة بناء مدينة بيت المقدس وما فيها من عجائب وآثار ومحاريب. وفي كل تلك الآثار السليمانية تكفل الإخباريون الإسلاميون وغيرهم بوضع تفاصيل مدهشة عن تلك الآثار ذات الطابع الغرائبي المفعمة بالسحر. وطور الإخباريون اليهود في عصر الإسلام ورددها من بعدهم الإخباريون من المسلمين سلسلة من القصص والمرويات عن تلك المدن أو الآثار المرتبطة بالنبي سليمان بما أضفى عليها في النهاية، هذا القدر من الخيالية. كما أن حقل الأساطير العربية الذي ظل باستمرار مفتوحاً أمام تقبل المروّيات والأحاديث والقصص من دون السؤال عن مصدرها، أتاح حتى لرجال دين ثانويين وإخباريين هامشيين أن يكونوا في عداد بُناة أرضية ميثولوجية عربية ذات طابع ديني، مُتقبلة، ومُروَّج لها على نطاق واسع في كتابات المؤرخين والرحالة، ولعلنا نتلمس أثراً لهذا في سياق حديث الكثير من الرحالة عن عصا الأنبياء التي أشار إليها الموروث الشعبي في سياق حديثه عن عجائب بيت المقدس بقوله:"وضع عصا في محراب بيت المقدس فلم يقدر أحد يمس تلك العصا إلا من كان من ولد الأنبياء". أما في ما يتعلق برواية الموروث الشعبي عن السلسلة التي في بيت المقدس، فهي تؤكد أن الموروث الشعبي في ذلك الزمان كان على معرفة ويقين بأن ليس هناك اختلاف بين اثنين على أن المال والتجارة عنوان للشخصية اليهودية بل للوجود اليهودي، في كل مكان من العالم، حتى أصبحت مفردات التجارة والصيرفة والربا لصيقة بالفرد اليهودي وبسلوكه الملتوي. ومن أجل المال والتجارة يمارس الدهاء والمكر والاحتيال تحت أسماء الشطارة والذكاء وحسن التصرف واستغلال الفرص. ولعل رواية السلسلة تفصح عن دلالات ارتباط اليهودي بالذهب واستعداده لأن يفعل أي شيء في سبيل الحصول على الذهب بطرق مشروعة أو غير مشروعة. كما نجد في الرواية أنها رسالة من الموروث الشعبي في المنطقة بأن المال من دنانير الذهب الأصفر لا وطن له، وهو رفيق دائم لمن يحمله. واليهودي حريص على حمله معه ولو في عصاه، فهو يشتري ويبيع ويقرض بربا فاحش، ويقدم المساعدات للحكام والولاة والقادة لتمويل حروبهم وبالتالي أصبح المال الذهبي أساس التجارة وعصب الاقتصاد في العصور القديمة والوسطى، وبالتالي ألغى المال حدود المكان والزمان، كما لا تخلو الرواية من أن اليهود وأهل الذمة في القدس وجدوا الوسائل العادلة التي تحمي حقوقهم في حال اختصامهم مع الآخر وهو ما وجده اليهودي من وسيلة عادلة حين اختصمه صاحب الدنانير أو في سياق الحديث عن باب اليهود الذي يمنع الظلم. وربما كانت رسالة تحذير من الموروث الشعبي للاحتراز في التعامل مع اليهود في شكل أو في آخر. قصارى القول إن تاريخ القدس وإن بدا مترعاً بالخيال، يتضمن مع ذلك عناصر قابلة للقراءة في كل مرة يمكن فيها حلّ بعض المصاعب التقنية المتعلقة بواقعية الحدث التاريخي نفسه، ومن دون الحكم عليه، على مجرد حكاية أو أسطورة. فتصديقنا للروايات الشعبية الخيالية والاستمتاع بقراءتها، سيكونان ممكنين فقط عبر اكتشاف حقيقة الراسب الثقافي، الفعال والمستمر في مجتمعنا العربي المعاصر. إنه على رغم كل شيء تاريخنا الذي يخصنا، وقد نسجت الميثولوجيا حوله خيوطها المتشابكة المعقدة. * كاتب مصري