يستهل عبدالقادر شرشار كتابه"خصائص الخطاب الأدبي لروايات الصراع العربي - الصهيوني"الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية بعدد من الأسئلة التي تؤدي الى التقوقع على الذات والعداء للآخر كمثل التخيلات التي يسقطها العربي على اليهود والصهاينة وكأنها سمات أبدية لا تتغير! هذه السمات الأبدية يعالجها من العرب، الروائيون، في ما يُسمى بپ"فن الوهم"الذي قال فيه ميلان كونديرا:"ان الإخلاص للواقع التاريخي لا يمنع أن يكون ثانوياً في واقع الروايات وانزياحاتها"! الرؤية العربية للآخر بدأت انحرافها مع طه حسين وتوفيق الحكيم والطيب صالح والطهطاوي ومحمد بلخوجة التونسي الذين أغرقوا كتاباتهم في كثير من الميثية الأسطورية بحكم اصطدامهم الحاد بالغرب، وقد أخطأ هؤلاء الروائيون، اذ شغلتهم صورة الآخر، وأغفلوا البحث عن ذواتهم في ذلك الجدل الحضاري بين الأنا والآخر، حتى صار الآخر منهم هو اليهودي - الصهيوني! أما العالم العربي في الكتابات الفكرية الغربية ومثلها الآداب الاستشراقية فكان فضاء غرائبياً من عوالم السحر والجن والغيب والقوى الخارقة المختلفة والمخيفة، كما تحدثت عنها نصوص الرحلات الاستشراقية القديمة والحملات الصليبية من شعوب"العالم المتحضر"بحيث صار الأنا والآخر عالمين وتاريخين وكيانين من التناقضات: إقبال وعزوف، رغبة في الآخر ورغبة عنه... راحت تتحول في الصراع العربي - الصهيوني الى: الانتقام من الآخر بقتله أو تهجيره من أرضه، أو إلغاء تاريخه وما فيه من آثار حفرها الزمن في جغرافيا الأمكنة، وعبق التاريخ! يتناول عبدالقادر شرشار تعامل الروائي العربي مع قضية الصراع العربي - الصهيوني ويرى أن النص الروائي يمارس حضوراً ايديولوجياً بعضه يناهض الاستيطان ويدينه وبعضه يبحث عن التحاور والتعايش والمجاورة في فضاء مشترك من التباس الأرض وتاريخها! ففلسطين كما يقول ادوارد سعيد هي جغرافيا واحدة بتأولات كثيرة، والاستعمار الصهيوني ليس بدعة بعد أن انقلبت الأبعاد الدلالية لمفهوم"الدياسبورا"."فالدياسبورا"كمفهوم متحول، كان في الأصل يشير الى شتات اليهود منذ عهد موسى وهارون وبعد تحطيم تابوت سليمان، إلاّ أنه منذ نصف قرن صار يدل الى شعب آخر هجّر من أرضه ووطنه، وأُنزل في أوطان ليست منه الوطن! وهذا ما نحته اميل حبيبي في"الوقائع الغريبة"والنهاية العجائبية لبطله سعيد أبي النحس المتشائل الذي امتطى في نهاية الرواية"رأس خازوق"في رحلة صَحِبَهُ بها اخوانه الفضائيون، لعلهم يوفرون له أسباب النسيان، واحتدام الصراع العربي - الصهيوني المشحون بالدسائس والخيانات، ما تسبب في اختلال عقله! وقد تميزت رواية"المتشائل"باتجاهين اثنين: أحدهما يعبّر عن علاقة سعيد الذات الفاعلة بالذات الضدية اليهودية وما في تلك العلاقة من سجال وتصالح وافراط في الولاء لسلطة الاستيطان!! أما الاتجاه الثاني فيطرح قصور الروائي العربي في بناء شخصية يهودية مقنعة وواقعية في ابتعادها عن اسقاطات الخيال الشعبي ومثله الأسطوري. فاليهودي صورة نمطية تتكرر من بداية التعرف اليها الى اختفائها، وكأن اليهودي هو النموذج المطلق للمحتال، والقاتل، والدموي والمغتصب، والبطل النقيض. أما الشخصية النامية الخالية من الثبات في الهوية والمواقف فهي الشخصية العربية المسطحة منها والمدورة، والسجينة وغير الفاعلة، حتى لكأن العرب أشبه بقطيع بشري شبيه بقطيع العبيد السود الذين كان النخاسون يبيعونهم في الأسواق الأوروبية! صورة اليهودي طرحت الحركة الصهيونية ايديولوجياً منذ اليوم الأول لمؤتمر بازل شعاراً يدعو الى ضرورة ربط اليهودي بالأرض كامتداد للإنسان في المكان وفي الدين وفي التاريخ. أما العربي فرأى أن الأرض هي مرجعية زمنية تسكن جسداً، وفيه يقيم المبدع ويعيش ألم الانفصال عن زمن كان ولم يَعُدْ! فعلى رغم مسوّغات الإبداع لروايات الصراع العربي ? الصهيوني بقي النتاج الروائي العربي نزراً ومملاً في المخيال الإبداعي مذ تحولت صورة اليهودي في العالم ليبقى عند العرب ذلك التاجر البشع المنظر، ومعه المرأة اليهودية بصورة المومس الفاتنة بعيداً عمّا لليهود من سلطة تكنولوجية، وقوة عسكرية وحضور سياسي فعال في المحافل الدولية. الى اميل حبيبي، تأتي رواية"كنت جاسوساً في اسرائيل"التي حولها صالح مرسي سيرة ذاتية تحدِّث عن بطولاته لا عن عوالم الجاسوسية في اسرائيل. واذ يفشل الروائيون العرب في اقامة مداميك الرواية التي تحكي الصراع العربي ? الصهيوني، يلجأون الى حقل/ المعتقل الذي يمارس فيه اليهودي هواياته المفضلة في التعذيب والتنكيل، كمقام موحش وسط أرض جرداء وصخور قمراء، بناء ضخم ينتصب كالغول في الصحراء، جدارنه الداخلية مطلية بالكلس الأبيض وحوله سور عالٍ مطلي بالدهان الأصفر، وكأنه قلعة أشباح علّمت المناضلين من الفدائيين أن قلعةً كهذه بإمكانها أن تصير"حديقة معلقة"، حيث صرخ سعيد أبو النحس المتشائل:"دوسي، أيتها الأحذية الضخمة على صدري، اخنقي انفاسي أيتها الغرفة السوداء! اطبقي على جسدي العاجز! فلولاكم لما اجتمعنا في التعذيب والوحدة والعزلة والأمل، ولما رحتُ أوسّع في الكوة الضيقة الوحيدة حتى أصبحت قضبانها المتشابكة جسوراً نحو القمر والحدائق المعلقة"!! في هذا الجو المهيب احتار سعيد كيف ينتسب وقد قال له المعلم الكبير اليهودي ? الصهيوني:"ان احتلالنا أرحم احتلال ظهر على وجه الأرض، منذ تحررت الجنة من احتلال آدم وحواء. فنحن نعامل العرب داخل السجون معاملة أفضل منها خارج السجون. فالسجن فضاء يتيح للعربي الإقامة الدائمة، فيهرب من عقاب الإبعاد الى ما وراء النهر، لذا فإن من دخل السجن تثبت فيه ثبوت الاحتلال الانكليزي". ويضاف الى السجن حقل الحرب بتراكم مفرداته المتكررة كالثورة والهزيمة والموت والقتلى والدماء، وهو حقل متفاوت جداً إذ يكون مختزلاً بانشغال البطل بسيرته ومعاناته الفردية كما في"الوقائع الغريبة"لإميل حبيبي ثم يعود فيمتد كما في"أسطورة ليلة الميلاد"لتوفيق المبيض، وپ"سلام على الغائبين"لأديب نحوي، وپ"المرصد"لحنا مينه، وپ"الحرب في برّ مصر"ليوسف القعيد. لعل العري الصهيوني المقهقه الذي يدغدغ كما في بعض الروايات المقاتل العربي في حقول الدم والأشلاء يقابله التهاب الشعور اليهودي بضرورة الارتباط بالأرض كما في رواية يائيل دايان"طوبى للخائفين"وهي أشبه ما تكون بتحقيق نفسي عن قيام دولة اسرائيل وموجبات استمرارها، اذ تجري أحداث هذه الرواية في قرية صهيونية قرب الحدود السورية اسمها بيت عون، ويدور محور القصة حول تربية الصبية اليهود تربية صهيونية تقوم على ذكريات التهجير والنزوح الى أرض الوعد المقدسة. أما في روايات غسان كنفاني فيشكل الانقطاع عن أرض فلسطين تهديداً بالخيانة والعجز والموت تزداد خطورته بالابتعاد عن الارض تاريخاً وجغرافية كما في البشارة التي حلم بها في"عائد الى حيفا". فغسان العائد يقول:"لم أكن أتصور أنني سأرى حيفا مرةً أخرى"، وإذ يستطرد يقول لزوجته: أنت لا ترينها. انهم يروونها لك، فأنا ومنذ المشارف والمطلات تمرّ أمام حدقتي: المنحدرات والذكريات والأمتعة والمنازل وحرائق المدينة، والصور المعلقة في مكتب الحاكم العسكري حيث الإطار ينغلق على"منظر في الجنة لفاتنة عارية تحيط بها ملائكة صغار"وكأنها اسرائيل الجديدة التي ستمتد من الفرات الى النيل!! ولما تنبه عبدالقادر شرشار الى توظيف الأسطورة في روايات الصراع العربي ? الصهيوني عاد الى لوكاتش وكلود ليفي شتراوس ليؤكد أن"الرواية تفتقر الى نظام واتساع رقعة الأسطورة. فالأسطورة التي في اللاوعي الجماعي هي مجموع كلي ثابت في حين أن الرواية هي تاريخ متغيّر، بل إن التاريخ في الرواية هو نسق مفتوح من العقم والفوضى والهزائم والنكسات والانكسارات والنكبات!! وإذ يختم شرشار دراسته يرى أن فلسطين كانت من الأساطير حلقتي الموت والانبعاث. ويؤكد أن للأسطورة منطق الخيال الجامح الذي يستوعب مختلف أشكال الصراع الانساني والديني. فاللجوء الى الأساطير يعني الخروج من التاريخ المتأزم الى"خرافة"التفوق على الآخر/ الصهيوني. وهو ما لفت شرشار في"أسطورة ليلة الميلاد"ورحلة الشيخ مرجان المنقذ/ المخلص الذي تسربل بأحلامه وبشهادات الفدائيين يأتونه ليمسكوا بشاهد قبره هامسين:"جاءك أحبابُ يا شيخ مرجان ليشعلوا السراج كل ليلة". يهب الناس من رقادهم ويصابون بهوس الثورة التي كأنها أسطورة تولد، وتهز صيحاتهم الأفق والمدى:"ها القبور تتحرك"أذ أحرقها الشوق الى وطن طال غيابها عنه!