لم يسبق أن خلّف انتحار أثراً سياسياً مماثلاً. فمنذ أضرم محمد البوعزيزي، البائع التونسي المتجول ابن ال26 عاماً، النار في نفسه في سيدي بوزيد احتجاجاً على مصادرة عربته، تنتفض الشعوب العربية ضد الانظمة الديكتاتورية التي تصادر حقوقها السياسية والاجتماعية. وتجتاح العالم اليوم موجتان مشهديتان لحرق الذات: الاولى في العالم العربي، والثانية في التيبيت التي تحتلها الصين. وتعيد الظاهرة هذه الى الاذهان موجتين مماثلتين في الستينات، الاولى في فيتنام يوم أحرق راهب بوذي نفسه احتجاجاً على قمع النظام الكاثوليكي البوذيين واضطهادهم، والثانية في براغ 1969 يوم أحرق جان بالاش نفسه احتجاجاً على الاجتياح السوفياتي بلاده. وحرق الذات هو فعل يعود الى القرون الوسطى في الصين البوذية. وانتشر في الهند في تلك الحقبة بين البوذيين والهندوس، على حد سواء، للتعبير عن التقوى والاحتجاج السياسي. وانتقلت الظاهرة هذه في القرون اللاحقة الى روسيا إثر انقسام الكنيسة الارثوذكسية وإلى اوساط الرهبان اليسوعيين الفرنسيين في القرن السابع عشر. وفي القرن العشرين، ارتبط إحراق الذات بالاحتجاج السياسي في فيتنام وأوروبا الشرقية تشيكوسلوفاكيا وبولندا وهنغاريا ورومانيا وفي الهند والولايات المتحدة في أوساط معارضي حرب فيتنام، وفي دول مثل تايوان وإيران وتركيا وإيطاليا وكوريا الجنوبية وباكستان. ويرى عالم الانتروبولوجيا، ألان بيرتو، المختص في شؤون الشغب والاضطرابات أن اضرام النار في النفس هو صنو اعمال الشغب التي تندلع حين يتعذر الكلام وتكمم الأفواه ويتعذر الحوار. فهو فعل قطيعة لا فائدة استراتيجية ترتجى منه في المعتاد. لكن حالة البوعزيزي شذت عن القاعدة وأطلقت الثورة التونسية. وتربع مشهد حارق نفسه محل مشهد الشهيد التقليدي في العالم الاسلامي على وجهيه وجهي الشهادة: الاستشهاد في قتال العدو والاستشهادي الانتحاري القاتل. ويرى مراقب أن الثورات العربية، على خلاف المقاتلين الاسلاميين الذين يشرّعون قتل الغريم والعدو، انتخبت النضال السلمي غير العنفي، وقصرت فعل القتل على حرق الذات من غير إرداء الخصم، وتركت القتل الخبط عشواء للأنظمة. وحرق عشرات انفسهم في الثورات العربية في تونس والجزائر ومصر وموريتانيا. والاسلام يحظّر قتل النفس، وهذه أمانة يستردها البارئ وحده. وثمة جانب انتحاري في اضرام البوعزيزي النار في نفسه، لكن لا يجوز حمله على الانتحار فحسب. فهو أحرق نفسه عوض حرق المحافظ في ساحة عامة على مرأى من الناس. ونظر أهالي سيدي بوزيد الى قتل البوعزيزي نفسه على أنه فعل مجتمعي غير مخالف للدين، ورفِعت مكانته من طريق صوغ امتداد متخيل له. فإضرام البوعزيزي النار في نفسه أفضى الى اطاحة الطاغية وإرساء الديموقراطية في تونس. وارتقى البوعزيزي في العالم العربي بطلاً ثورياً، على رغم طعن بعض العلماء الخليجيين في شرعية ما اقترفه. لكن حرق عشرات أنفسهم في الدول العربية لم ينته الى ما انتهت اليه الامور في تونس. وفي القاهرة أطلق مقتل خالد سعيد على يد الشرطة شرارة الانتفاضة. فحالة البوعزيزي استثنائية. والحق أن حالات إضرام النار في النفس تتوالى في التيبيت. فمنذ آذار مارس الأخير، كرت سبحة حرق الرهبان والشباب أنفسهم. وتنظر بكين بقلق الى الظاهرة. فالانتحار العلني غير مألوف في التيبيت. وهو مؤشر الى أن الاوضاع بلغت مبلغاً لا يطاق في الاديرة، وأن اليأس هو لسان حال الرهبان والتيبيتيين. وتحرّم البوذية الانتحار، لكن الدالاي لاما، الذي سبق أن دان الإضراب عن الطعام، احجم عن تحريم الانتحار نزولاً على طلب بكين. وبروز ظاهرة حرق الرهبان التيبيتيين أنفسهم بعد ثلاثة أشهر على"استشهاد"البوعزيزي ونجاح الثورة في تونسوالقاهرة، يحمل على التساؤل عن الرابط بين الظاهرتين في العالم العربي والتيبيت. وفكرة تضحية المرء بنفسه فداء لمجتمعه أو لقضية تثير الخوف في أوصال الانظمة العربية والنظام الصيني. * صحافي، عن"لوموند"الفرنسية، 26/11/2011، إعداد م. ن. nadinemoawad.com