افتتحت الثورة التونسية بتضحية بوعزيزي بنفسه من أجل خلاص الآخرين، على رغم أن الانتحار محرَّم في الاسلام. وموت بوعزيزي لا يمتّ بصلة إلى العمليات الانتحارية. وبعد 3 أسابيع من موته، قالت والدة بوعزيزي:"موت ابني لم يذهب هباء". ويعيد حرق النفس الى الاذهان حادثة إحراق الرهبان البوذيين أنفسهم احتجاجاً على حرب فيتنام وإشعال جان بالاش النار بنفسه احتجاجاً على اجتياح السوفيات براغ. وما أقدم عليه بوعزيزي أخرج التونسين من شرنقة الصمت، وأطلق غضبهم. وأخرج الى العلن احتجاجات بقيت، الى وقت قريب، حبيسة جدران المنازل. وفي مرحلة ما بعد الاستقلال، أرسى بورقيبة نظاماً ليبرالياً يستوحي مبادئ الجمهورية الفرنسية الثالثة. ورؤيته الفصل بين الديني والسياسي حكيمة، فهو أفلح في تحييد دور رجال الدين، وانتهج سياسة تحرير المرأة، واسْتَبَقَ تنامي مشكلات ديموغرافية عرفتها دول المغرب، مثل ارتفاع عدد الولادات، فأطلق حملة ضبط الولادات. وفي بعض الحالات، توسلت الحملة هذه بإجراءات عنيفة، على غرار إلزام نساء الأرياف الخضوع لعمليات تعقيم. وأركان نظام بورقيبة ثلاثة، أولها حلف ليبرالي موال لأميركا واكب عملية بناء الدولة. وفي وقت تظاهر طلاب العالم ضد حرب فيتنام، كان الطلاب التونسيون يتساءلون عن سبب افتتاح سفارة لجنوب فيتنام في بلادهم. وثانيهما هو الأحادية الحزبية، فإلى سياسة موالاة الغرب، أرسى بورقيبة دولة الحزب الواحد الشعبوية. والركن الثالث من النظام هذا موروث من تركة الإمارة. وراق لبورقيبة أن يحاكي هارون الرشيد في"ألف ليلة وليلة"، فهو كان يتجول متخفياً في المدينة، ويسمع نداء المستغيث ويقيم العدل. والحقّ أن إخفاقات تونس اليوم وانجازاتها تتحدر من تركة بورقيبة، على حد سواء، ففي عهد بورقيبة، أُنفقت 25 في المئة من موازنة الدولة على قطاع التعليم، ولم يتجاوز الانفاق على المؤسسة العسكرية أكثر من واحد في المئة. وفي نهاية مرحلة بورقيبة، حاول الاسلاميون والعروبيون إفساد النظام التعليمي، وأوكل بن علي في مطلع رئاسته في 1988، الى القاضي محمد شرفي، وهو ناشط حقوق الانسان، علمنة التعليم وتحديثه. وقال لي شرفي ذات يوم:"ارسيت نهجاً تعليمياً يؤهل اشخاص فاعلين أو ذوات لا يرتضون الخضوع"، فهو أراد انشاء مدرسة تُعد مواطنين مسؤولين. واليوم، أبناء هؤلاء المواطنين يقودون الثورة. واستلهم التونسيون مبادئ الثورة الفرنسية في طي الاستعمار والمبادرة الى الاستقلال. ولكن، وفي 1971، فوّت بورقيبة المريض فرصة ارساء الديموقراطية في تونس. فهو لم يقتنص فرصة مؤتمر المنستير لمعالجة تنازع الحزب الحاكم بين تيارين، النازع الاول اشتراكي ? ديموقراطي والنازع الثاني ليبرالي. ولم يرتق بورقيبة فيصلاً في التنازع هذا، ولم يرس ثنائية حزبية تحتذي على الديموقراطية الانغلوساكسونية، بل ألغى مقررات مؤتمر المنستير. ويخفى على كثر أن تونس منقسمة مناطقياً، فالبورقيبية نسبة الى نهج بورقيبة غلّبت كفة الساحل ومدنه، مثل المنستير وسوسة والمهدية على المناطق الاخرى. والبورقيبية همّشت عادات مخزن الحاكم،"الباي". واليوم، انطلقت موجة الثورة من منطقة الوسط الغربي، ومن مدن قصيرين وسيدي بوزيد وفريانة، على وجه التحديد. والمدن هذه كانت، الى وقت قريب، بلدات صغيرة لا يُعتد بوزنها السياسي، فمنطقة الوسط الغربي هي مرتع البدو والقبائل العربية التي أطاحت البربر في القرن الحادي عشر. وبورقيبة نقل تونس من حكم القبائل الى حكم الدولة. والثورة الاخيرة أبصرت النور بعيداً من تونس ومدن الساحل، وامتد اشعاعها الى المناطق الاخرى. ولم تسهم حركة الاسلاميين في الثورة الاخيرة، ولم يظهر هؤلاء في التظاهرات، على رغم أسلمة المجتمع المتعاظمة في تونس، فنسبة النساء المحجبات بلغت نحو 30 في المئة. ومرد الأسلمة هذه الى قنوات تلفزيونية عربية وخليجية، وإلى قناة الجزيرة خصوصاً. ويعود الفضل الى بورقيبة وإرثه في تحصين تونس من الاسلاميين. ولذا، لا نشهد اليوم دعوات الى ربط الدين بالسياسة. وقضى بن علي على الحركات الاسلاموية بين 1989 و1990. ولا شك في أن إسهام المدونين التونسيين راجح في الثورة الاخيرة، وتكريم بعض المدونين - من أمثال لينا بن مهني - واجب، فهم وفروا تغطية مباشرة عن أعمال الشغب وعمليات الشغب، وأماكن التظاهرات. ويوم اطلع التونسيون على تسريبات"ويكيليكس"اكتشفوا أن الاميركيين يشاركونهم الرأي في"مافيوية"رئيسهم وأسرته. * عن"لونوفيل أوبسرفاتور" الفرنسية، 20-26/1/2011، إعداد م. ن.