من أبرز سمات العاصمة الفرنسية الانتشار الكثيف للمقاهي على مختلف جاداتها وشوارعها مما يضفي عليها حيوية تميزها عن سواها من مدن. وتشكل المقاهي جزءاً لا يتجزأ من المشهد الباريسي ومن حياة الباريسيين وعاداتهم اليومية، ومن تراثهم وتاريخهم كونها واكبت تطورهم السياسي والفكري والاجتماعي منذ القرن الثامن عشر. ولكل من المقاهي الواقعة في هذا الحي أو ذاك من باريس سيرته الخاصة المرتبطة مباشرة بنوعية وشخصيات رواده. فمقهى"لوبروكوب"الذي يعد من أول المقاهي التي افتتحت في العاصمة في القرن الثامن عشر شهد ولادة التيارات الايديولوجية الجديدة، واعتمد بمثابة مقر من قبل فلاسفة"عصر الأنوار"، من أمثال فولتير وجان جاك روسو ومونتسكيو. المقهى نفسه شهد ولادة الثورة الفرنسية كونه استخدم مقراً لاجتماعات آباء هذه الثورة وفي طليعتهم روبسبير ودانتون. واعتبر القرن التاسع عشر العصر الذهبي للمقاهي في فرنسا، وشكلت مصدر وحي لكبار الرسامين والكتاب الذين كانوا يترددون عليها، وخلدت في لوحات بول سيزان وفي نصوص لبالزاك وجيرارد ونيرفال. وشكلت المقاهي الواقعة في حي مون بارناس مهداً لولادة الحركة السوريالية التي يعد الكاتب اندريه بروتون من رموزها الاساسية. وبعيد الحرب العالمية الثانية شهدت المقاهي الواقعة في حي سان جيرمان ولادة الحركة الوجودية مع جان بول سارتر. واتسمت المقاهي الباريسية وفقاً لموقعها بحيثية خاصة وجو يجعلها مختلفة عن سواها ويعبر عن ماضيها، وشكلت مساحات يتمازج فيها الأثرياء والمثقفون والسياسيون والاشخاص العاديون والفقراء. وعلى رغم الجهود التي يبذلها أصحاب المقاهي للحفاظ على وظيفتها الثقافية والاجتماعية، فإنها تبدو مهددة بالزوال. فعام 2009 شهد إغلاق حوالى ألفي مقهى في باريس في حين أن العدد الاجمالي للمقاهي في فرنسا تراجع من 200 ألف عام 1960 الى 30 ألف مقهى حالياً. والأسباب الكامنة وراء انخفاض عدد المقاهي متعددة ويوجزها البعض بقرار حظر التدخين في الاماكن العامة وبالأزمة الاقتصادية وانعكاساتها على القدرة الشرائية. لكن أحد أهم هذه الأسباب هو التباين الذي بدأ يبرز بين نوعية الخدمة التي تقدمها هذه المقاهي ونوعية الطلب الذي يترقبه الجيل الجديد من الرواد. فالجلوس على الطاولة التي تحمل اسم سارتر أو بروتون في هذا المقهى أو ذاك لم يعد أمراً يثير بالضرورة اكتراث أبناء الجيل الجديد. فهؤلاء تجذبهم شبكات المقاهي الجديدة، المصممة وفقاً لنمط حديث ومزودة مقاعد مريحة ويتوافر فيها امكان استخدام الكومبيوتر. ويعتبر المعهد المسؤول عن تطوير المقاهي، ان تغييرات عدة طرأت على الأذواق والعادات وأن على أصحاب المقاهي أخذ ذلك في الاعتبار والتكيف معه بتجديد مقاهيهم لحمايتها من الاغلاق. نشر في العدد: 17129 ت.م: 26-02-2010 ص: 31 ط: الرياض