بدأت مطلع الأسبوع الجاري سلسلة المزادات التي تنظم في باريس لبيع تركة اندريه بروتون السوريالية التي يقدر ثمنها بعشرين مليون جنيه استرليني. ثلاثة آلاف وخمسمئة كتاب وقعها مؤلفوها، وأربعمئة لوحة لخوان ميرو وماكس آرنست ورينيه ماغريت وسلفادور دالي وسواهم، وآلاف الصور لمان راي ومئات الرسائل والوثائق المختلفة. بعد موته في 1966 عن سبعين عاماً ووفاة زوجته الثالثة قبل عامين ورثت ابنته اوب ممتلكاته وقررت بيعها عندما امتنعت الحكومة الفرنسية عن شرائها وطالبتها بضريبة الإرث. كانت شقته أصغر من ان تحول الى متحف لكن حائطاً فيها زين بالتذكارات جال في معرض اوروبي وسيعرض في شكل دائم في مركز جورج بومبيدو في باريس. تقدم المزادات فرصة لإعادة تقويم الحركة السوريالية التي ساهم اندريه بروتون في تأسيسها في 1924. عندما غزا النازيون فرنسا تشتتت السوريالية برحيل بروتون وزملاء له الى اميركا وتركهم الساحة لجان بول سارتر الذي نقل النقاش الفرنسي المعتاد وسط دوائر الدخان من مقهى "لو دو ماغو" الى "لو فلور" القريب. حطمت السوريالية المقدسات وبنت الفن والحياة على اسس جديدة. الحلم، الغريزة، الرغبة والثورة. البيان السوريالي الأول قال انها "آلية نفسية خالصة فحاول عبرها التعبير شفهياً وكتابياً وبأي طريقة اخرى عن عمل الفكر الحقيقي. إنها املاء الفكر في غياب تحكّم العقل والهموم الجمالية والأخلاقية". كمنت الحرية الفردية والتحرر الاجتماعي في العقل الباطن الذي ظهر في اعمال شارل بودلير وارتور رامبو وألفرد جاري، وأخلصت الحركة منذ ظهورها للتغير والصراع المستمرين. في بيان السوريالية الثاني في 1929 قال بروتون ان ابسط افعالها هو الجري في الشارع وإطلاق النار بعشوائية على المارة. كان العنف والقمع والإكراه جوهر التحرر عند بروتون الذي انتقم من امه بأن اصبح مثلها. اوقفته امامها طفلاً وصفعته حتى تعبت وأكدت له انه فاشل حتماً ولا يحتاج الى المحاولة. لكنه ولد ليقود وتمتع بجاذبية القائد وطغيانه معاً. طرد انتونان ارتو من الحركة عندما قدّم مسرحية "حلم" لأوغست ستريندبرغ وأوقفت "قوات الاغتيال" التي شكلها عرض المسرحية. دعاه العالم النفسي جاك لاكان الى زفافه فمزق بطاقة الدعوة وأعادها من دون تعليق. منع الدين وفن النهضة والأطعمة والمشروبات غير الخضراء والأخلاق البورجوازية. ولأنه كره الموسيقى باعت صديقته البيانو في حين حضر بعض اصدقائه الحفلات سراً. أدار الحركة السوريالية بين الحربين كما يدير ديكتاتور دولة استخبارات بكل لوازمها. الجواسيس والمخبرون والمستنطقون والمحاكمات والتهديد والضرب والطرد والنفي والنبذ. بقي حتى شيخوخته لئيماً حقوداً مزاجياً متسلطاً، وأرسل المجرمين الصغار لضرب من "يسيئون التصرف". عادى وطرد وتسبب برحيل الفنانين والأدباء البارزين الذين انضموا الى الحركة من انتونان ارتو الى لوي اراغون وسلفادور دالي وبول ايليوار وماكس آرنست وأندريه ماسون وبابلو بيكاسو. درس الطب والطب النفسي وحاول الإفادة من التحليل النفسي عندما عمل في قسم الأمراض العصبية في مستشفى في الحرب العالمية الأولى. جذبه التمرد على الشكل الفني في الحركة الدادائية ثم تمرد عليها بعد مشاحنات كثرت: "أترك كل شيء. أترك دادا. أترك زوجتك، اترك عشيقتك. اترك آمالك ومخاوفك. اترك اولادك في الغابة. اترك المادة للظل. اترك حياتك السهلة، واترك ما اعطيت للمستقبل. انطلق على الطريق". كان هدف الرحلة السوريالية الوصول الى نقطة لا يبدو معها اي تناقض بين الحياة والموت، الحقيقي والخيالي، الماضي والمستقبل. ولئن تبادلت الذاتية والموضوعية سلسلة من الهجمات إحداها ضد الأخرى طوال الحياة البشرية خرجت الأولى اكثر تضرراً، وهذا ما حاول "تصحيحه" في السوريالية. رفض تقويم قيمة الأعمال الفنية واكتفى بالقول انها النشاط العفوي للعقل رداً على قول الشاعر لوي اراغون: "إذا كتبت هراء بغيضاً بأسلوب سوريالي اصلي فإنه يبقى هراء".اهتم بحس المرح القاتم عند فرانز كافكا وأرتور رامبو وإدغار الن بو ولويس كارول وشارل بودلير وعزا ابتكاره الى الإنكليزي جوناثان سويفت مؤلف "رحلات غاليفر". فاق نثره شعره اهمية وكان "ناويا" افضل اعماله وتناول فيه امرأة مجنونة. استقال من الحزب الشيوعي لاشمئزازه من إرهاب جوزف ستاليني لكنه بقي ماركسياً علماً ان فرويد والاتحاد السوفياتي اتفقا على انتقاد السوريالية. الأقل احتمالاً واحد من خمسة او ستة انعم عليهم ناقد او آخر بلقب "افضل الكتّاب الأميركيين الأحياء" وروايته الأخيرة الضخمة "زمن غنائنا" اضافت الى حصيلته من أفعل التفضيل. اكثر الروائيين طموحاً، اذكى الروائيين، استثنائي الموهبة نيويورك تايمز ما غيرها وخليفة تولستوي، ريتشارد باورز يقول انه أدرك طريقه بعد الرواية الثامنة وبلوغ الخامسة والأربعين. درس الفيزياء النظرية وعمل مبرمج كومبيوتر وسلك المنعطف الأقل احتمالاً. عندما ضاقت الفيزياء اكثر فأكثر تساءل ما اذا كان في الاتجاه الصحيح وأتى الجواب واضحاً. اختار الأدب لشهادة الماجستير وكشف بطلاه تعقيد شخصيته. واقعية جيمس جوبس نقيض واقعية توماس هاردي، ويشك البعض في انه انتقاهما عمداً لكي يتباهى باتساع اهتماماته. يذكر بالفيلسوف الفرنسي بودريار عندما يقول ان السينما والتلفزيون يشوشان حقيقة الشيء نفسه بطريقة تقديمه. بعد الهجوم على برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك كتب في "نيويورك تايمز" ان رد الفعل على الكارثة غير المتوقعة جعلها شبيهة بشكل فني ما. قال اشخاص ان اقتحام الطائرتين البرجين يشبه فيلما لبروس ويليس كأن التشبيه لم يكن ممكناً خارج الصور الإعلامية والسينمائية. يتناول العرق والانتماء في "زمن غنائنا" ويرى ان العنصرية باقية للأبد. يتحدث عن فيزيائي ألماني يهودي تزوج مغنية سوداء في اميركا الخمسينات. يعاني اولادهما من بعدهما عن البيض والسود عندما كانت اميركا تتبع فصلاً اجتماعياً حاسماً بينهما. تشكو الابنة من رفيقاتها اللواتي لا يستطعن تصنيفها ويقلن انهن كن لطيفات دوماً مع خادماتهن السوداوات. في المقابل تشكو السوداوات في اجتماعات "الفخر الافريقي" من تسلل الجواسيس ذوي السحنة الغريبة الذين يتكلمون كالبيض. يدرّس الأب اولاده العلوم والرياضيات وتعلمهم الأم الموسيقى والفن ويرمي كلاهما التاريخ جانباً. يرغب كلاهما في تجنيب الصغار عقاب الاختلاط العرقي وتجاوزه، لكن هل كان ممكناً ان ينشأ هؤلاء "من دون عرق"؟ "كل حياتنا كانت مخالفة" يقول احدهم، ويعترف الكاتب ذو العينين الثاقبتين ان "البيض وحدهم يستطيعون تجاهل العرق". التمييز العنصري خوف من التشابه كما هو خوف من الاختلاف، يقول، وأميركا تفتقر الى النزاهة حياله. في العاشرة ذهب الى بانكوك حيث درس والده في ثانوية وأفاد من التجربة في "زمن غنائنا" التي يغلب العقل فيها الدفء الإنساني. خرج من عالم الفيزياء والكومبيوتر لكن هذين قد يتركانه ابداً. النظرة الأولى يراه البعض ذوقاً لا فناً، ووجدته فرنسا طريقة لكي ترسخ نفسها سوق العالم كله في عشرينات القرن العشرين، معرض "آر ديكو" يستمر في متحف فكتوريا وألبرت، لندن، حتى العشرين من تموز يوليو المقبل، ويضم أقساماً عدة عن تأثيره في العالم. اعاد منظمو المعرض "تركيب" مدخل فندق ستراند بالاس الذي أنقذه المتحف من التدمير في 1969 ببابه الدوار ودرجاته السبع وجانبيه وعواميده المضاءة من داخل. ثمة شريط عن المغنية الأميركية السوداء جوزفين بيكر وهي ترقص ولا ترتدي شيئاً سوى اقراط موز من الساتان تحت خصرها. سرير هندي ضخم بسقفه وستائره وقطع عدة من الأثاث والأعمال الفنية. تعني "آر ديكو" الفن التزييني ولأنه يكاد يعجب الجميع من النظرة الأولى لا ينجو من التساؤل عن قيمته الفكرية ورفعته. يحلو للبعض ان يروا فيه تعبيراً عن الراحة والانتعاش بعد انتهاء الحرب الأولى ما لبثت الحرب العالمية الثانية ان كتمت انفاسه. المعرض يسترجع معرضاً آخر اقيم في باريس في 1925 ودشن رسمياً ولادة هذا الفن. وهو يعيد إحياء قسم من المعرض الأصلي بما فيه الصالون الكبير الذي صممه جاك اميل رولمان. المصممون البريطانيون تجنبوا اسلوب "آر ديكو" ووجدوه مخنثاً وتمسكوا بالأثاث الوظيفي الذي يشبه الصندوق. استوحى "آر ديكو" الفن عند الرومان والمصريين والأفارقة والأزتيك وأوحى حسية وحباً للعيش وحداثة بأشكاله الطويلة الهندسية. على انه ما لبث ان اعطى مكانه لحداثة اخرى تجاهلت الماضي وشددت على قلة التفاصيل والناحية العملية.