هذه المنطقة التي نعيش فيها تدور في مسرح اللامعقول وتتحرك وفق ضوابط شواذ القواعد السائدة في السياسة الدولية. انها منطقة مجنونة... مجنونة تعيش على المفاجآت وانقلابات المواقف بين عشية وضحاها وتدور الزوايا حسب تغير الأمزجة وتبدل الأدوار! منطقة كل من عليها يسبح في فضاء مجهول، لا يعرف يومه من غده ولا حاضره من مستقبله ويغوص في أعماق تاريخه ويسجن في عقدها وتعقيداتها أو ينتفض عليه وعلى كل قيمه وضوابطه وخطوطه الحمر ليفاجئ العالم بمواقف ملتبسة تحول الأبيض الى أسود والأسود رمادياً. منطقة تشرب من كأس الجنون حتى الثمالة. جنون الحروب والأزمات والخلافات والانقلابات، وجنون المصالحات والحلول والسلام، وتدفع أهلها الى الجنون، لتصل عدواه الى العالم كله الذي نشهد عينات من مواقفه وانقلاباته عليها لا سيما من فرنسا ساركوزي وأميركا بوش. منطقة تنام على حرب وتصحو على سلام، وتغفو على أزمة وتستيقظ على حل، والعكس بالعكس وكأننا في مسرح عبثي من مسارح اللامعقول يتبادل فيه الأبطال الأدوار فيتحول المجرم الى ضحية والصديق الى عدو وسط أجواء من الإثارة والتشنج والرعب ومشاهد تثير الضحك حتى البكاء. وما شهدناه من انقلابات ومتغيرات في المواقف والمواقع، ومن مفاجآت في السياسة والأحداث والتطورات يعطي صورة واضحة عن درجة هذا الجنون المستشري... فقد كانت طبول الحرب تقرع بشدة مبشرة بالويل والثبور وعظائم الأمور، وكانت المعطيات والدلائل والتصريحات والتسريبات تنذر بقدوم صيف ساخن لاهب يحرق الأخضر واليابس من إيران الى لبنان ومن فلسطين الى السودان ومن العراق الى الامتداد الأفقي والعمودي في الجغرافيا والاقتصاد والنفط... وفجأة تبدل كل شيء وانتقلنا من حال الى حال في عالم اللامعقول، وتحولت التهديدات الى ابتسامات ونزلت الكلمات برداً وسلاماً على قلوب الأفرقاء فبردت أعصابهم وتباروا في التنافس على إبداء النيات الحسنة والتبشير بغد مشرق تسود فيه أجمل أيام السلام وأحلى مشاعر المحبة والوئام والتسامح، وكأن كلمة سر قد سرت بين الجموع، أو أن"مايسترو"مخفياً حرك عصاه السحرية ليعزف الجميع انشودة السلام. صدقوا أو لا تصدقوا، ولكن هذا ما حصل بسحر ساحر خلال أقل من شهر وكلنا أمل ورجاء بأن نصدق أن المسيرة قد انطلقت وبأن صفحات الماضي البغيض المليء بالأحقاد والحروب والفتن والظلم والقهر قد طويت وأن ما يجري حالياً ليس"هدنة"مؤقتة أو مناورة من جملة مناورات تهدف الى تقطيع الوقت وكسب الرهانات بانتظار انقضاء عهد الرئيس جورج بوش وقدوم رئيس جديد وعهد جديد الى الولاياتالمتحدة ليمسح خطايا الماضي ويرسم طريقاً مختلفاً يحول هذه الهدنة الى وضع دائم ومستقر لا الى وضع قائم ومهتز يمهد لتفجير الحروب والأزمات في أية لحظة. وبانتظار جلاء الموقف من الآن وحتى تشرين الثاني نوفمبر موعد اجراء الانتخابات الرئاسية الأميركية أحاول أن أصدق أن ملف الحروب والمآسي قد طوي وأن نافذة الأمل قد فتحت أمامنا من جديد بعد عقود من الآلام والندابات والضياع والفتن والحروب. أحاول أن أصدق أن الذئب الاسرائيلي تحول الى حمل وديع وأنه سيرضخ أخيراً لمشيئة السلام ويسارع خلال أشهر قليلة لمحو خطايا 60 عاماً من الاحتلال والاغتصاب والتهجير والاستيطان الاستعماري ويتجه لإقرار الاتفاق النهائي مع الفلسطينيين قبل نهاية عهد بوش، كما وعدنا فخامته، ويقبل بقيام دولة فلسطينية مستقلة وتحديد الحدود والانسحاب من القدس وتفكيك المستوطنات المسماة غير شرعية، وهي كلها غير شرعية في الأساس القانوني الدولي، والسماح بعودة اللاجئين الفلسطينيين وفقاً لقرارات الشرعية الدولية. وأحاول أن أصدق أن التهدئة في غزة مع"حماس"هي نهائية وحقيقية وأن العلاقات أصبحت"سمناً وعسلاً"وأن الأمر ليس مجرد مناورة لتقطيع الوقت وإنهاء مهمة مفاوضات تبادل الأسرى مع الجندي الاسرائيلي الأسير غلعاد شاليت. كما أحاول أن أصدق أن حركة المقاومة الاسلامية"حماس"قد اطمأنت الى الذئب الاسرائيلي وعقدت معه هدنة تمهيداً للاتفاق الحبي الشامل الذي يعيد الحقوق والأراضي المحتلة، وأن قادتها الذين كانوا يهددون السلطة و"فتح"ويحتجون على أية هدنة ويعملون على خرقها وإفشالها بإطلاق الصواريخ على المستعمرات الاسرائيلية فإذا بهم اليوم يتهمون من يطلق الصواريخ على اسرائيل بأنه خائن وعميل. وأحاول أن أصدق أن المفاوضات السورية - الاسرائيلية جدية وحقيقية وأنها ستنتهي على خير وتحقق المرتجى حيث ترضخ اسرائيل وتوافق على الانسحاب من جميع الأراضي السورية المحتلة عام 1967 وتعيد مرتفعات الجولان الاستراتيجية والغنية بمياهها الى سورية وتفكك مستعمراتها وتسحب مستوطنيها. كما أحاول أن أصدق أن سورية صدقت مزاعم اسرائيل و"قبضت"تعهدات ايهود اولمرت بالانسحاب الكامل وهي تعرف أنه غارق حتى أذنيه في وحول فضائحه وأنه راحل لا محال خلال اسابيع قليلة لتأتي الليكود مع حكومة برئاسة بنيامين نتانياهو وأن أي كلام في السلام في ظل هذه المعطيات، ونظراً لشلل الراعي الأميركي من الآن وحتى قدوم الرئيس العتيد، هو مجرد كلام في الهواء لا يقدم ولا يؤخر ويعتبر بمثابة اللعب في الوقت الضائع. وأحاول أن اصدق أن تركيا، العلمانية حتى العظم، محكومة بحكومة إسلامية مسموح لها بلعب دور بارز في المنطقة في غياب الولاياتالمتحدة والقوى الكبرى وتقوم بدور الوسيط بين العرب وإسرائيل وفق دور وضوابط وآليات تستطيع تجاوز حدودها. وأحاول أن أصدق أن"اتفاق الدوحة"بين الموالاة والمعارضة في لبنان قد أنهى أزمة لبنان، أو أزماته، بلمسة سحرية، وفي توقيت تناغم مع التطورات الاقيلمية والعربية والدولية، وأنه تحقق لمجرد اجتماع الأطراف المعنية ولم يأت بايحاءات خارجية وقرار دولي بتمرير الوقت وتكريس الهدنة الموقتة لتتماشى مع"الهدنات"الأخرى في المنطقة. وأحاول أن اصدق أن"حزب الله"سيرضى بالتخلي عن سلاحه وإقرار استراتيجية دفاعية تنهي دور تفرده بالمقاومة ومواجهة إسرائيل وتحوله من قوة تتحدث عن قدسية السلاح وعن التهديد باستخدام السلاح لحماية السلاح وتأديب كل من يمسه بأذى إلى حد قطع الأيادي، كما أحاول أن أصدق أن الأطراف الأخرى قد صدقت التحولات في المواقف وتأكدت من صدقيتها وأيقنت أن لبنان قد خرج من دائرة الخطر وأصبح بمنأى عن التجاذبات العربية والاقليمية والدولية وعن استخدامه مرة أخرى كساحة أو ورقة في حروب الآخرين. وأن الفتن الطائفية والمذهبية قد ولت إلى غير رجعة بعد أن صفت النفوس وزالت الأحقاد. كما أحاول أن أدصق أن إسرائيل لم تعد تضمر شراً للبنان، وأنها رضخت للأمر الواقع وأوقفت استعداداتها لشن حرب جديدة للانتقام من"حزب الله"وفرض شروطها في المياه واللاجئين والقضايا الأخرى. وأحاول أن أصدق أن العراق قد تجاوز مرحلة خطر التقسيم والتفتيت، وأن الأكراد لم يعودوا يخططون للانفصال، وأن الفتنة بين السنّة والشيعة قد تم وأدها، وأن"القاعدة"قد استسلمت وحزمت حقائبها استعداداً للرحيل، وأن التدخلات الاقليمية والدولية قد توقفت نهائياً. كما احاول أن أصدق أن الولاياتالمتحدة ستسحب قواتها من العراق قريباً، وأنها لا تنوي إقامة قواعد عسكرية دائمة ولا تريد السيطرة على منابع النفط، كائناً من كان سيد البيت الأبيض الجديد. كما أحاول أن اصدق أن الاتفاق على"أفق زمني حول الانسحاب"الذي أعلن عنه بوش ليس سوى نسخة معدلة ومخففة من المعاهدة الأمنية التي قيل ان هناك معارضة لها. وأحاول أن أصدق أن إيران سترضخ للشروط الغربية وتقبل بسلة الحوافز لقاء تخليها عن مشاريع تخصيب اليورانيوم وبالتالي التخلي عن حلمها بامتلاك سلاح نووي ثم تحولها إلى قوة عظمى تهيمن على المنطقة والعالم وتفرض شروطها كأمر واقع. كما أحاول أن أصدق أن إيران تخلت عن خطط تصدير الثورة وفرض نفسها كقوة اقليمية لا بد أن يكون لها رأي ودور في أي شأن من شؤون المنطقة بعد أن غاب الدور العربي وأصبح الزمام بيد القوى الاقليمية والدولية. وأحاول أن اصدق أن الرئيس بوش قد تخلى عن حلمه وخططه لضرب إيران قبل نهاية عهده، وأن ما أعلنته وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس بأن الولاياتالمتحدة ليس لها أعداء دائمون، وأن حضور موفدها بيرنز محادثات جنيف مع الإيرانيين كان بداية لشهر عسل سيدوم ويشكل بداية لفتح صفحة جديدة من العلاقات تبدأ مع فتح مكاتب لرعاية المصالح بين"الشيطان الأكبر"، حسب التوصيف الإيراني، و"محور الشر"حسب التوصيف الأميركي. كما أحاول أن أصدق أن إسرائيل لم تعد تخطط للضربة العسكرية، وأنها ستترك إيران حرة في بناء قوتها النووية وتستسلم للأمر الواقع، وأن إيران قد صدقت ذلك ومدت يد الصداقة إلى إسرائيل بعد سنوات من التهديد بحرقها وهدمها وازالتها من الوجود لتتحول إلى"صديقة للشعب الإسرائيلي"، كما صرح نائب الرئيس الإيراني. أحاول أن أصدق أن المنطقة المجنونة قد عاد إليها عقلها الضائع، وأن أهل الحل والعقد فيها قد نزل عليهم"عقل الرحمن"، وأن بركة السماء قد حلت على قيادات العالم ليبشروا بالسلام، وعلى رأسهم الرئيس الفرنسي ساركوزي الذي تحول إلى داعية سلام يعمل على سد الفراغ الحاصل ويسجل أهدافاً في"الوقت الضائع"بانتظار أن يسلم الراية من جديد إلى الرئيس العتيد للولايات المتحدة. أحاول أن أصدق كل هذا، ولا اصدق، فلا التجارب أقنعتني، ولا المنطق دفعني للتصديق ولا الوقائع تحمل بشائر الأمل. ومع هذا فإن علينا أن ننتظر مجريات الأمور والمفاجآت خلال الفترة الانتقالية ثم بعد جلاء الأمور من الآن وحتى بدايات العام الجديد، لعل وعسى أن تتحول الهدنة إلى سلام والشك إلى يقين، فلنتفاءل لعلنا نجد الخير في عالم كله شرور!! * كاتب عربي