بعد تعيينها وزيرة للخارجية الأميركية، سئلت كوندوليزا رايس عن السلف الذي تتمنى محاكاته في مهمتها، فإذا بها تطرح ثلاثة أسماء: جورج مرشال ودين أتشيسون وهنري كيسنجر. الاسبوع الماضي اختارت دور صاحب "ديبلوماسية المكوك" هنري كيسنجر، لتؤكد أن زيارتها المقبلة للمنطقة تسجل أول اختراق حقيقي للمفاوضات المتوقفة منذ انهيار مشروع الحل بين ياسر عرفات وايهود باراك سنة 2000، وقد أوحت من خلال جوابها السريع، بأنها مسلحة بقرار الرئيس جورج بوش الذي يحاول دعم خطته العسكرية الجديدة في العراق عن طريق إحياء مشروع"خريطة الطريق". خصوصاً بعدما اقترح تقرير بيكر - هاملتون ضرورة الاستعجال في ايجاد حل للقضية الفلسطينية باعتبارها تمثل القضية المركزية للشعب العربي. اللقاء مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، لم يكن ناجحاً بدليل انه رفض مبدأ التفاوض على حل انتقالي متدرج يقود خلال سنوات الى إقامة دولة فلسطينية. ورأى ان الموافقة على استئناف المفاوضات على أسس موقتة أوصلت اتفاقية أوسلو الى طريق مسدود. لذلك طلب من رايس العمل على جمع مشروع"خريطة الطريق"مع المبادرة السعودية التي طرحت في القمة العربية، بحيث تأتي التسوية شاملة ومرضية لفريقي النزاع. وقال لها ان القبول بحل موقت يعني العودة الى طاولة المفاوضات للبحث في تسويات جزئية تتعلق بالحدود السياسية الجديدة التي رسمها جدار الفصل لاسرائيل الكبرى. ومثل هذه الحدود التي تجاوزت الخط الأخضر تعبّر عن خطة التوسع الاستيطاني وتتجاهل قرار العودة الى حدود 1967. كما تمثل نزعة الهيمنة على القدسالشرقية وأجزاء كبيرة من الضفة الغربية، لهذه الأسباب وسواها دعا أبو مازن الى اجتراح حل شامل كامل لنزاع استمر أكثر من نصف قرن. تدعي الوزيرة كوندوليزا رايس انها بحاجة الى فترة زمنية أطول من الفترة التي أمضاها هنري كيسنجر من أجل احتواء تداعيات حرب 1973. يومها دشن الوزير السابق ديبلوماسية الخطوة - خطوة وقام بجولات مكوكية استمرت أكثر من سنة تنقل خلالها بين واشنطن والقاهرة ودمشق وتل أبيب. واقتصرت حصيلة تلك التحركات على نتيجة جزئية بينها عملية فصل القوات على الجولان 1974 واتفاقية سيناء 1975. وترى رايس ان ما ينتظرها من متاعب وصعوبات تتجاوز بتعقيداتها كل ما واجهه كيسنجر من ضيق وخلاف على مستوى القيادات. وهي ترى أنه من الضروري جمع المواقف الفلسطينية عبر حكومة واحدة تمثل كل تيارات المجتمع وتحول دون بلبلة الموقف الداخلي. أي الموقف الذي يمنع الرئيس محمود عباس من التحالف مع"حماس"بعدما اختارها الشعب الفلسطيني لتمثيله في الحكم عبر انتخابات حرة. ثم اتسعت الهوة بين موقفي رئيس الوزراء اسماعيل هنية ورئيس السلطة لأسباب كان ظاهرها الخلاف حول تشكيل حكومة الوحدة الوطنية. ذلك ان هنية أصرّ في البداية على الاحتفاظ بالوزارات السيادية الأربع: الخارجية والداخلية والمالية والإعلام. وبعد تدخل مصر وافق هنية على التخلي عن وزارتي الخارجية والإعلام. وفجأة، تبين ان الاشكال الحقيقي يكمن في تهمة ارتهان"حماس"لقرارات خارجية ادعت"فتح"انها صادرة عن ايران وسورية. ويزعم محمد دحلان أن زيارة اسماعيل هنية لطهران عرقلت عملية تشكيل الحكومة، بسبب رفض"حماس"الخضوع لشروط مسبقة مثل نبذ العنف، والاعتراف باسرائيل والالتزام بالاتفاقات السابقة. رئيس الوزراء اسماعيل هنية رفض منطق الربط بين زيارته لطهران وقرار استمرار المقاومة المسلحة نبذ العنف مشترطاً قبل ذلك انسحاب اسرائيل من جميع الأراضي المحتلة. وقال انه اتفق مع"فتح"على وثيقة الوفاق الوطني المؤلفة من 18 بنداً، التي حددت الأهداف السياسية ب"إقامة دولة مستقلة عاصمتها القدس، وبإزالة الكتل الاستيطانية وانسحاب المحتل الى حدود 1967". أما بالنسبة الى نتائج زيارته الأخيرة لطهران، فقد اعترف هنية بأنه تلقى مساعدات مالية من أجل الصمود أمام سياسة الحصار والعزل، وحرمان الفلسطينيين من المستحقات والضرائب التي تجنيها اسرائيل باسمهم. وعلى رغم بعد المسافة بين غزة وطهران، فإن هنية يرى في ايران عمقاً استراتيجياً مهماً للثورة ولحركة المقاومة الفلسطينية بالذات. والسبب ان الرئيس محمود أحمدي نجاد ساهم في جمع التبرعات لفلسطين. اضافة الى هذه البادرة، فهو دائماً يشير في تصاريحه الى التوافق الايديولوجي الذي يجمع بين نظام الملالي و"حماس"في مواجهة مخطط شرير يستهدف العرب والمسلمين على السواء. ولا ينسى هنية الاشادة بسورية معتبراً ان"نصف مشاكلها مع الغرب آتية من صدق وقوفها مع القضية واحتضانها للمقاومة". على خلفية هذه المدائح السياسية، هاجمت"فتح"تفرد اسماعيل هنية بتوظيف القضية الفلسطينية لخدمة أهداف ايران، معتبرة أنه يدفع لنظام الملالي ثمناً ضخماً مقابل مساعدات مالية سبق للدول العربية أن أمنتها للفلسطينيين على امتداد سنوات ومن دون منة، وذكرت قيادة"فتح"ان الخميني حوّل سفارة اسرائيل الى سفارة فلسطين، ولكنه رفض تفويض ياسر عرفات القيام بالوساطة مع واشنطن أثناء أزمة الديبلوماسيين المحتجزين، لأن قرار ايران المستقل لا يخضع لخدمة جهات أخرى. من هنا ترى"فتح"ان القرار الفلسطيني قد صودر من قبل ايران وسورية، علماً بأنه يجب أن يكون مستقلاً وسيادياً وغير خاضع للمصالح. ردت"حماس"على هذه الاتهامات بالقول ان رئيس السلطة الفلسطينية يسعى الى انتزاع اعتراف"حماس"باسرائيل قبل توقف التوسع الاستيطاني واعلان موافقة حكومة اولمرت على احترام القرارات الدولية الداعية الى هدم جدار الفصل والانسحاب الى خطوط 1967، وهي ترى ان تجريدها من السلاح ليس شرطاً حقيقياً لتحرك العملية السياسية، وانما هو شرط لتشكيل حكومة خاضعة لإرادة اسرائيل والولاياتالمتحدة. وتقدم قيادة"حماس"نتائج الأعمال التي قامت بها المقاومة الاسلامية في لبنان، وكيف أربك انتصارها الحكومة الاسرائيلية وأدى الى استقالة رئيس هيئة الأركان الجنرال دان حالوتس، لذلك طلبت من الرئيس عباس توظيف موقفها الرافض، لعله يحصل على شروط أفضل من شروط الاملاءات المفروضة عليه. للخروج من المأزق الفلسطيني، جيرت كوندوليزا رايس مسؤولية الوساطة، الى الحكومة الالمانية باعتبارها تترأس حالياً الاتحاد الأوروبي. ومن المتوقع ان تكلف اللجنة الرباعية مطلع الشهر المقبل، باجراء اتصالات مع الجهات المعنية من أجل الدخول في عملية السلام، استناداً الى المراحل التي تحددها"خريطة الطريق". وبما ان قضية الشرق الأوسط أصبحت مرتبطة بقضايا اقليمية في لبنانوالعراق وسورية وايران، فإن"الرباعية"مضطرة الى حلحلة العقد المتراكمة قبل الشروع في بحث الملف الفلسطيني. ومثل هذا العمل الشاق يحتاج الى فترة زمنية طويلة قبل أن ينضج، كما يحتاج الى رئيس وزراء اسرائيلي غير ايهود اولمرت، قادر على تمرير قرارات من النوع الذي أتعب مناحيم بيغن وقتل اسحق رابين. ويبدو أنه أدرك عجزه عن مواجهة التحديات التي يتطلبها الحل النهائي، بدليل انه اختار أفيغدور ليبرمان كمعين على تنفيذ الخطة المطلوبة. لذلك يتطلع الاسرائيليون بعد الهزيمة العسكرية، الى وزير التخطيط الاستراتيجي المهاجر الروسي ليبرمان، لعله ينجح في تحقيق وعوده بممارسة سياسة القمع التي تستخدمها موسكو في الشيشان. كما يتطلعون الى وزيرة الخارجية تسيبي ليفني، الطامحة الى اقتناص فرصة إخفاق اولمرت، للقفز الى مقعد القيادة مثل غولدا مائير. وهذا ما تسعى صديقتها رايس الى إعداده مع إدارة بوش، تحاشياً لوصول بنيامين نتانياهو الذي وعد بضرب إيران في حال اختير لرئاسة الحكومة. السؤال الذي يطرحه هذا السيناريو يقود الى سلسلة اسئلة تتعلق بمدى قدرة الولاياتالمتحدة على فرض حل يرضي اسرائيل والسلطة الفلسطينية و"حماس"وايران وسورية! المحللون في واشنطن يؤكدون أن اندفاع جورج بوش جاء تلبية لنصيحة صديقه وشريكه في حربي افغانستانوالعراق، توني بلير. وحجته من وراء تحريك المسار الفلسطيني، تأمين جرعة من التهدئة للشعوب العربية تساعدها على تناسي صور المجازر التي ترتكب في العراق. لهذا وصفت الصحف البريطانية رحلات رايس المكوكية بأنها جعجعة من دون طحن، لأن المناخ السياسي في المنطقة يميل الى توقعات الحرب لا السلام. والدليل على ذلك أن كل المؤشرات تنبئ عن حدوث فشل ذريع قد توظفه واشنطن أو اسرائيل لتبرير ضربة استباقية تسددها للمفاعلات النووية الايرانية. أما الاحتمال الثاني الذي تتحدث عنه تنبؤات المنجمين، فيكمن في خطر الطريق المسدود الذي وصلته الأزمة اللبنانية. والكل يذكر سنة 1975 ان هنري كيسنجر قرر إبعاد ارتدادات أزمة"كامب ديفيد"عن مصر، فإذا به يلقي بتبعاتها فوق أرض لبنان، البلد المهيأ لامتصاص كل صدمات المنطقة. والمؤسف أن الأجواء السياسية المتشنجة في لبنان قد توحي لكوندوليزا رايس وايهود اولمرت، بأن شن حرب انتقامية محدودة ضد لبنان وسورية، ربما يفتح عروض السلام على أفق لم يكن موجوداً سنة 1973 لولا اختراقات الحرب! * كاتب وصحافي لبناني