تكفي المراقبة البسيطة لما يجري في العالم اليوم كي نلاحظ الانقلاب الذي تتعرّض له "الواحديّة القطبيّة". فإلى"المستنقع"العراقيّ الكبير، هناك"المستنقع"الأفغانيّ الأصغر والمؤهّل أن يكبر في حال انهيار النظام، ومن ثمّ المستنقع الباكستانيّ. وإلى تمرّدات صغرى في السودان وموريتانيا، وفي غزّة وبيروت، تعود الى الصدارة توكيدات الإعلام على استجماع"القاعدة"قوّة ظُنّ أنها فقدتها. وفي المقابل، يشي النزاع الروسيّ - الغربيّ من حول جورجيا بتمرّد ضخم على"الواحديّة"حمل بعض المعلّقين ويحملهم على توقّع اندلاع"حرب باردة ثانية". والأمر لا يقتصر على تعدّد بؤر الصدام أو توسّعها. فبعد المواجهة الروسيّة - الجورجيّة الأخيرة والمستمرّة، صار في الوسع الكلام عن تعدّد أنماط الاشتباك أيضاً. فهناك"الحرب على الإرهاب"وامتدادها الإيديولوجيّ المتّصل بالثقافات والأديان والحضارات، على اختلاف التسميات وتباين مصادر المُسمّين. ولكنْ أيضاً هناك الحرب الباردة المحتملة، وهي ليست"حضاريّة"ولا دينيّة بأيّ معنى، إذ جميع المتصارعين مسيحيّون فيما الأطراف المباشرون، الروس والجورجيّون والأوسيتيّون، على مذهب الروم الأرثوذكس. وفي نظرة سريعة الى الوحدة التي تجمع المثقّفين الغربيّين ضد نوازع الاستبداد الروسيّ، يتبدّى أن الصراع المستجدّ هذا سيكون أشدّ امتلاءً بحمولة إيديولوجيّة حديثة في مناهضة الاستبداد والتوسّع الإمبراطوريّ. وربما خدمت الذكرى الأربعون لسحق الدبّابات السوفياتيّة"ربيع براغ"، التي تحلّ الآن، أداة تحفيز لهذا المضمون وللتشديد عليه في مواجهة"الروسيا"المتخلّفة والتي ما أن"انبعثت"عسكريّاً حتى خسرت بلايين الاستثمارات والتوظيفات الخارجيّة!. بالطبع، سيكون سابقاً لأوانه التكهّن في كيفيّات التعايش بين نمطي الحرب، البادئة في 2001 بعد 9/11، والبادئة قبل أسابيع قليلة. كما قد يكون سابقاً لأوانه الضرب في صلة منطقتنا بهذين النمطين وبتعايشهما، أو ربما وراثة أحدهما الآخر، على رغم وجود إشارات مفيدة وكثيرة في ما خصّ الصلة هذه تتقدّمها علاقات التسلّح الروسيّة - السوريّة واللغط المتّصل بها. بيد أن ما يمكن الجزم فيه، حتّى إشعار آخر، أن مركّباً جديداً سينشأ تمتدّ مفاعيله من الجغرافيّ - السياسيّ الى الثقافيّ والفكريّ. أما الطرفان الفاعلان فيه فواحدٌ يصرّ على"كسر هيمنة الواحديّة القطبيّة"بمن حضر، أي بالمستبدّين، الحديثين منهم والقديمين، العسكريّين والملالي، وبجملة من الأفكار العريضة جداً والمتنافرة جدّاً التي لا يجمع بينها إلا النسب التوتاليتاريّ، الدينيّ أو القوميّ أو اليساريّ. وأما الطرف الآخر فهو الذي كسب الحرب الباردة في 1989-91 ويعود الآن، بفعل"الواحديّة القطبيّة"إيّاها، فيحصد هزائم موضعيّة في بعض جبهاتها. وربّما كان التحدّي الأكبر الذي يواجه الفريق هذا يطاول قدرته على الجمع بين الديموقراطيّة الليبراليّة واقتصاد السوق من جهة، وبين توسيع نطاق"الواحديّة"بحيث تشمل الديموقراطيّات جميعاً، الأوروبيّة في أوروبا والشرق الأوسط، واليابانيّة والكوريّة وسواهما في آسيا والشرق الأقصى. هنا فقط يكمن البديل الواعد بعالم أفضل. أما الذين تأسّسوا وترعرعوا على واحديّة الفكرة وواحديّة التنظيم، فآخر من يكسر"الواحديّة القطبيّة".