من الذي سيقود عالمنا في القرن المقبل؟ سؤال يكثر الذين يطرحونه اليوم في الصحافة والتلفزيون، ولكن أيضاً في الكتاب والندوة. فثمة قرن ينتهي وقرن يبدأ، والألفيات بذاتها سبب كافٍ للسؤال والتكهن. بيد أن أسباباً راهنة أخرى لا تكتفي بجعل السؤال هذا أكثر حدةً فحسب، اذ تجعل الجواب أيضاً أشد تحديداً. فالأزمة المالية الآسيوية التي يُختتم بها القرن تستبعد اليابان ومحيطها من دائرة القيادة، عاملةً على تضييق الاحتمالات وحصرها. وهذا بعدما كانت حصة آسيا الشرقية من الناتج القومي العالمي قد تعدّت حصة مجموع دول أوروبا الشمالية والغربية والجنوبية معاً، وفاقت الحصة الأميركية بنسبة 35 في المئة، ما سمح بصدور منافسة قوية يبديها المحور الذي يشمل اليابان وجوارها. لكن الانشغال الأروربي ببناء الوحدة القارية يعمل، بالعكس، على توسيع الاحتمالات: إذ مَن الذي يستطيع أن يجزم بأن هذه الوحدة لن تعدّل، بعد عقد أو أكثر، صورة التوازن العالمي الحالي وانعقادَ القيادة للولايات المتحدة، على ما هو سائد الآن. فزعامة أميركا، بعد كل حساب، حديثة العهد لم ينقض عليها أكثر من عقود خمسة. مع هذا فكل حدث يحصل في أيامنا، أيام القيادة الأميركية المرفقة بتقدم تقني لا سابق له في التاريخ ولا لوتائر سرعته، يملك من المعاني والتأثيرات ما يفوق أحداث سنوات بكاملها من الأزمنة المنقضية. شيءٌ واحد يمكن الجزم به هو أن الزعامة ستبقى في يد الحضارة الأوروبية - الأميركية. فإذا ما نُظر اليها بمعنى مركّب يجمع الاقتصاد والنفوذ والقوة الى الثقافة والديموقراطية والنموذج، أمكن القول بسهولة إن "العالم الثالث" لن يكون في هذا الوارد. فالتراجع في معظم المجالات تقريباً لا يزال الوجهة الأقوى، وقد يكفي أن نتذكر ان هذا العالم الذي يعيش فيه 80 في المئة من بشرية كوكبنا، لا ينتج الا 16 في المئة من الناتج الخام العالمي، فيما يتدنى انتاجه الى حدود صِفرية، أو شبه صفرية، في مجالات شديدة الحيوية علمياً وثقافياً. والأنكى من هذا أنه ما أن تظهر اشارة مضيئة على نسبيتها، كانجازات الاقتصاد الهندي في العقد الأخير، أو نجاح بلدين أفريقيين كأثيوبيا وأريتريا في وضع التنمية والاستقرار وعلاقات حسن الجوار في المصاف الأول، حتى تعود الأحقاد وميول التوتير وما تثيره من انفاق على التسلح لتطيح الكثير من المكاسب. فالذين يقولون، بكثير من الكسل والاستقالة من المسؤولية، إن زمن العولمة يعفي من أعباء بناء الأمة - الدولة، عليهم اليوم أن ينتبهوا الى أن العجز عن بناء هذه الأخيرة لا يحول دون الاندراج في العولمة فحسب، بل يدفع الى سوية الحروب الأهلية أو الاقليمية، ومعها احتمال النكوص الى المرتبة الأفغانية - الجزائرية، أي مرتبة ما قبل الدولة. فالبلدان والشعوب الذين يتجاوزون دولهم وبعض وظائفها لينخرطوا في النشاط المعولَم العابر للدول، انما هم وحدهم الذين نجحوا في اقامة هذه الأنصبة السياسية ذات مرة، أي أنصبة الدولة. وهذا شيء، للأسف، لا ينطبق على معظم "العالم الثالث". وإذا بدت روسيا هي الأخرى منهكة، غامضة الاحتمالات المستقبلية غموض صحة رئيسها بوريس يلتسن ومزاجه، فإن سياستها الخارجية كما يعبر عنها الوزير يفغيني بريماكوف لا تخوّلها على الاطلاق القيامَ بالأدوار التي تنتدبها لنفسها. والحال أن هذه السياسة، وفي ظل شعار صائب مبدئياً هو تنويع المراكز العالمية، تستعيد نبرة سوفياتية لم تعد تجد أي سند لها في أرض الواقع. وفي المعنى هذا فإنها لا تزال تغطي بالصراخ والتوتر على ضعف بنيوي يصعب التكتم عليه. وليس من المبالغة القول إن تكهنات بول كينيدي في "صعود وهبوط الدول العظمى" صحّت عكسياً، بأن سقط وتفسخ الاتحاد السوفياتي، فيما نجت بنفسها الولاياتالمتحدة الأميركية بعدما قلّصت انفاقها العسكري، أو، وهو الأدق، بعدما غدا حضورها العسكري وأكلافه أضعف أسباب قوتها في العالم، وذاك على عكس ما كان تكهن به المؤرخ الاقتصادي البريطاني الذي توقع لهاالأفول تبعاً لأكلافها العسكرية التي تتطلبها ادامة نفوذها. أما الصين التي أفادت، مع المفصل الألفي، من حدثين ضخمين: الأزمة المالية الآسيوية والتجارب النووية الهندية والباكستانية، وغدت شريكاً سياسياً واستراتيجياً لواشنطن، بحسب ما دلت زيارة بيل كلينتون الأخيرة الى بكين، فهي أيضاً لا تزال بعيدة جداً عن ممارسة دور ريادي على صعيد عالمي. وعلى رغم التغيرات جميعاً لا يزال يصح في الصين التبويب الذي اعتمده هنري كيسينجر قبل عقود، حيث ميّز بين القوى الكونية والأخرى الاقليمية، معتبراً يومها أن الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي وحدهما قوتان كونيتان، فيما أوروبا الغربية واليابانوالصين قوى اقليمية. والواقع أن الأخيرة التي تصحّ مضرب مَثَل على القوى الاقليمية في لحظات صعودها، لا يزال ينقصها الكثير كي تضمن ثبات هذا الصعود واستمراريته. ولما كان الاقتصاد نسغ قوتها فإن العلامات المقلقة ليست، بحال من الأحوال، قليلة. فبادىء ذي بدء ما أن نتذكر عدد سكان الصين حتى تصبح الأحكام في ما خص جبروتها الاقتصادي أدق وأكثر واقعية: فالناتج القومي الخام لبلد عدد سكانه خمسة أضعاف عدد الأميركيين لا يزال 9 في المئة من مثيله الأميركي. الى ذلك فعملة الصين لا تزال غير قابلة للتحويل فيما معظم الاستثمارات الأجنبية فيها لا يصدر عن دول بقدر ما يتأتى عن هجرة الشتات الصيني. وأهم من هذا كله أن ضبط سوق العمل والسيطرة على سيولتها يخلقان للسلع الصينية قدرة تنافسية زائفة، تماماً كما يعود الكثير من أسباب قوة الصين الظاهرية الى استمرار الضبط الشيوعي للاجتماع عموماً، وللقرار الاقتصادي أيضاً. وهذا بدوره يجدد طرح السؤال الدائم: ماذا عن مستقبل الحريات والديموقراطية التي وعدت بكين باحلالها بعد خمسين عاماً!؟ والى أي حد يمكن الحفاظ على ثنائية الاقتصاد الرأسمالي ودولة اللاقانون؟ وأي مصير ستنتهي اليه البلاد في حال تفكك دولة الحزب الواحد؟ فالصين، على رغم تحولات سياسية طفيفة ربما كان أبرزها اعتماد الانتخابات المحلية، والبرامج المتلفزة المفتوحة بحسب ما دلت المناظرتان المتفق عليهما سلفاً مع بيل كلينتون، لا تزال تسيّر اقتصادها الرأسمالي و"تدبّر" طبقتها الوسطى النامية، بطريقة لا يخالطها القانون. وهذا الذي وصفه كاتب غربي ذات مرة ب"ترك السيارات تتكاثر وتنطلق بسرعة من دون وجود أضواء توجه حركة السير"، انما يتصاحب مع استمرار علاقات استبدادية، "ما قبل" رأسمالية في الأرياف الفلاحية، بما لا يشجع كثيراً على التفاؤل بدور كبير على نطاق كوني. قصارى القول اننا لا يسعنا الهرب من مواجهة الخيار الفعلي: الولاياتالمتحدة الأميركية أم أوروبا الغربية؟ والحديث عن أوروبا الغربية يجيز الرجوع الى بعض الاستدراكات التاريخية، كونها الطرف العالمي الوحيد الذي يجمع بين "امتلاك التاريخ" و"امتلاك شروط المستقبل"، لكنه أيضاً الطرف الذي يتمتع تاريخه في القرن العشرين بمادة يقولها في القرن الواحد والعشرين، ويقولها له، أكبر من أية مادة ينطوي عليها تاريخ آخر. فمصدر المساهمة الريادية لأميركا كامن في الانتاج والاستهلاك الجماهيريين، وكذلك في الثقافة الجماهيرية ناهيك عن الاختراعات التي عززت نفوذها الكوني وحولت الحياة الحديثة، بسبب شمول واتساع المنتجات والاعلانات والموسيقى والسينما وبرامج التلفزيون الأميركية، الى ما تشعر معه بشرية العالم بأنها تعيش في عالم متأمرك. وهذا ما سوف تتعاظم أهميته جيلاً بعد جيل، لا سيما وأن "الصور" التي تترادف مع الانتاج الأميركي تدخل بوتائر متنامية بيوت العالم في قاراته الخمس. ف 85 في المئة من التداول السمعي - البصري و65 في المئة من أزمنة العروض السينما - فوتوغرافية في العالم مصنوع اليوم كله في الولاياتالمتحدة. وبدورها تتكفل هذه الأرقام بخلق جيوش متوسّعة من الشبيبة التي تعمل حقاً كطوابير خامسة تنخر عظام ثقافات الانكفاء المحلي والديني والقومي. والتفوق هذا انما هو مصدر بعض مشاعر الاستياء الأوروبي، لا سيما الفرنسي، الذي لم يعدم التعبير التآمري والعُظامي عن نفسه: فمنذ الأربعينات شرع بعض الأوروبيين يشكك بأن "خطة مارشال" انما تدل الى "نوايا سرية" لجعل أوروبا نسخة عن أميركا. لكنْ في الثمانينات غدا برنامج "دالاس" التلفزيوني ومطاعم "ماكدونالد" للوجبات السريعة، هي الأدوات الأساسية لإحكام "الهيمنة الثقافية" للأميركيين على الأوروبيين. أما في التسعينات، فكان افتتاح "ديزني لاند" في باريس حجةً لا تُدحض على الميل الخبيث لتدمير الحضارة الفرنسية! وعن هذه الجذور تفرّعت نزعة سياسية تتجه الى التشكيك بسياسيين، كرئيس الحكومة البريطاني توني بلير وزعيم الاشتراكية الديموقراطية الألمانية غيرهارد شرودر: فهما، في شبههما ببيل كلينتون، لا يغذّون الا الارتياب باستقدام النمط الأميركي، خصوصاً أن السياسيين الأوروبيين يقولان بتقليص دولة الرفاه التي لم تعرف مثلَها الولاياتالمتحدة أصلاً. مع ذلك فحروب اوروبا ونزاعاتها الايديولوجية فعلت اكثر بكثير مما فعلت اميركا في تشكيل الطريقة التي بموجبها يفكر شطر واسع من العالم ويتصرف. فلا هوليوود او ديزني لاند تستطيعان المنافسة في هذا المجال، ولا يستطيعها الانتاج والاستهلاك الجماهيريان ومعهما الاختراعات التي يظهر أثرها على مدى زمني أطول. والحال أن التأثير الخفي والمتغلغل لثقافة اميركا الجماهيرية يبقى مختلفاً عن ذاك الذي خلّفته الحركات الجماهيرية والتوتاليتارية لاوروبا، والتي وضعت أوروبيي هذا القرن في قلب التاريخ العالمي، وزوّدتهم الكثير مما سيدخلون به الى القرن المقبل. وهذا لا يعني، بحال، ان اميركا لم تشارك في تاريخ العالم الكبير. فقد كانت لها، هي الأخرى، حروبها ومغامراتها في كوبا والفيليبين وفييتنام، وحاولت، وغالبا بنجاح، ان تفرض نفوذها السياسي والاقتصادي دولياً. لكننا اذا ما اردنا الاحتكام الى انواع تقليدية لا تزال معيارية في "الامبريالية"، بِتنا مطالبين بالعودة الى الكولونياليات الاوروبية التي سبق لها أن أدت الى اخضاع العالم كله وتأسيس التشكّل الرأسمالي على نطاق كوني. واهم من هذا، ربما، ان حروب القرن ولو انجر اليها الجنود الاميركان، تبقى اوروبية في نهاية المطاف. فأميركا لم تتأثر بالحروب التي من دون "عِبَرها" يصعب التقدم نحو الواحد والعشرين. اما اوروبا فرتعت تحت الاستبداد والحرب ثم المظلات النووية، بعدما مثّلت الستالينية والفاشية والحرب الباردة مختبرات أوروبية أولاً وأخيراً. وما صعود وهبوط التوتاليتارية، وهما الدراما الانسانية للقرن الذي ينتهي، الا دراما اوروبية، ولو أن الولاياتالمتحدة لعبت أدوارا أساسية فيها وفي تقرير وجهاتها. وحين نتذكر عدد بلدان العالم التي لا تزال بحاجة الى مبارحة السياسات و/ أو الثقافات التوتاليتارية، ننتبه الى سعة الرقعة البشرية والجغرافية المرشحة، حتى أجل غير معروف، لأن تتعلم من الدرس الأوروبي. فلئن بات من الدارج القول، في العلوم والثقافة تحديداً، ان اميركا غدت مقرّهما بعد الحرب العالمية الثانية، فإن الأمور لن تلبث أن تبدو أكثر تعقيداً. فالقنبلة الذرية في المجال العلمي، وظهور التعبيرية التجريدية كشكل اميركي فريد في الرسم، وكذلك تطور الادب الاميركي منذ ارنست همنغواي، ما كان لها جميعاً ان تحدث لولا تأثير الافكار الاوروبية و/ أو هجرة الاكاديميين والمثقفين من المانيا النازية الى الولاياتالمتحدة. وحتى الشعبية الكونية للسينما الاميركية ما كان من الممكن تصورها لو لم تستقبل هوليوود المخرجين والسينمائيين والممثلين والكتاب الاوروبيين. فأصحاب المشاريع المهاجرون والمنفيون ممن خلقوا الاستديوهات الكبرى، وعباقرةٌ من عيار شارلي شابلن وكاري غرانت، ونقاد الخمسينات الفرنسيون ممن علموا الأميركان مركزيةَ المخرج في العمل، هم كلهم شروط مسبقة لم يكن للسينما الأميركية أن تستغني عنها وتصير ما صارته. أبعد من هذا فالكلام على التأثر الأوروبي بأميركا ينبغي أن لا ينسينا التأثر الأميركي بأوروبا: فما بين الأزياء والأفكار خط أوروبي متصل يترك بصماته على "العالم الجديد". وفي البيئة الأكاديمية خصوصاً، ينظر الجامعيون الأميركان منذ السبعينات الى زملائهم البريطانيين والفرنسيين والألمان بحثاً عن الأفكار والمناهج الأكثر طليعية. وما انتشار موجات "ما بعد الحداثة" و"ما بعد البنيوية"، بغثّها وسمينها، في جامعات أميركا غير واحد من علامات هذا التأثير. أما أنصار ومشايعو الراحل الايطالي أنطونيو غرامشي، أو الراحل الفرنسي ميشال فوكو، فأكثر من أن يُحصَوا في المعاهد الأميركية، لا سيما حيث انتعشت التيارات النسوية والمثلية والمضادة للعنصرية، وصولاً الى جماعات "الصواب السياسي" على أنواعها. صحيحٌ أن الجمهور الأميركي الأعرض ليس مهتماً بالجوانب المذكورة، لكنه شديد الاهتمام بما يفد من أوروبا من ملابس وأثاث وثقافة مطبخية، فضلاً عن اهتمامه، وهذا مفاجىء قليلاً، بما تبقى من تقليد سينمائي أوروبي كما يدل استقباله البالغ الترحيب بأفلام ك"إل بوستينو" أو "ذي فول مونتي". وفيما نحن نقترب من نهاية القرن، تنخرط اوروبا مجددا في اهم النقاشات المعاصرة حول الاندماج الاقتصادي، وانصهار متعددي الجنسية، ودور الدولة في ظل العولمة، والجهد المطلوب لاقامة التوازن بين السوق الحرة والرفاه الاجتماعي، مما لا يشكل في أميركا مواضيع سجالية ساخنة. لكن قوة اميركا، في المقابل، كانت هي العنصر الحاسم في انهاء حروب اوروبا، الساخن منها والبارد، وتالياً انهاء العنف في مسرحه المركزي، إن جاز التعبير. وبدورهما فثقافة اميركا واقتصادها هما اللذان غيّرا كيفيات العمل وكيفيات الشراء وكيفيات قضاء اوقات الفراغ والتسلية، مما غدا يصوغ أقساماً متعاظمة من التوجهات والسلوكات الاقتصادية على نطاق كوني. اما في عالم السياسة والديبلوماسية، وحيث القرارت تنعكس على حياة وموت الملايين، فالمؤكد أن القرن المنصرم كان قرنا اوروبيا، بقدر ما أن القرن الآتي يوحي باللون الأميركي الطاغي. الا أن هذا جزء "طبيعي" من لوحة القوى الراهنة وتوازناتها التي يعوّل على الوحدة الأوروبية أن تعدّلها. على أية حال فالأسطر أعلاه وجدت نفسها أسيرة انشطار ذي دلالة. فالكلام على أوروبا لا يزال يقود الى الاستشهاد بالماضي، وبعِبَر الحروب والتوتاليتاريات والسرديات المعتقدية والجماهيرية الكبرى، فيما الكلام على أميركا يقود تعريفاً الى أنماط فردية في السلوك والانتاج والاستهلاك وقضاء وقت الفراغ، مع ضحالة واضحة في ما خص درس التاريخ. فالسجال بين أميركا وأوروبا سيبقى الى حد بعيد سجالاً في المعايير وأولوياتها: هل تنبغي "أوربة" أميركا، ما يعني منح الأولوية للنزعة التاريخية والانسانية التي يصار الى تضمين التجربة الأميركية بها، أم تنبغي "أمركة" أوروبا، ما يعني منح الأولوية لجرعات أعلى من الفردية والليبرالية مطلوبٌ أن تعبر المحيط الأطلسي؟ وفي انتظار ان تجلو الوحدة الأوروبية صورة أشد تبلوراً عن المستقبل والمستقبلية، وفي انتظار أن تتضح كيفيات استفادة القرن المقبل من "ضرورات التاريخ"، وما اذا كانت ضروراتٍ حقاً، يبقى القول الفصل للإقتصاد ما دامت سلطة القرن المقبل ستكون اقتصادية أساساً. فإذا اعتمدنا الشركات المتعددة الجنسية معياراً، بصفتها أحد أبرز مظاهر الاقتصاد العالمي وتعابير قوته قد يكفي القول، مثلاً لا حصراً، ان ميزانية شركة ك "أي. بي. أم" تفوق ميزانية دولة كالفيليبين تضم 70 مليون مواطن، رأينا أن نصف اكبر الشركات مقرها في الولاياتالمتحدة، فيما 70 في المئة من تركيب رساميلها لا يزال أميركي المصدر. وفي ما خص العملة، بوصفها هي الأخرى من تعابير القوة الاقتصادية، يبقى الدولار، في انتظار اليورو الذي سيوضع في التداول عام 2002، عملة التبادل التجاري العالمي شبه الحصرية. كذلك ففي انتظار خطى التوحيد الأوروبي التي ستتتابع، تبقى الولاياتالمتحدة، في الاقتصاد كما في غيره، مستفيدة من وحدة قرارها المركزي، استفادتها من كون عاصمتها هي عاصمة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وهما أداتا التحكم الأقوى في الكثير من النشاط الاقتصادي الكوني. بيد أن الفوارق الطفيفة في النواتج الخام لمصلحة المجموع الأوروبي، تجعل السباق من موقع قوة متاحاً للأوروبيين، الشيء الذي يعززه تكوين سكاني متعلم ووثيق الصلة بالتقنيات العصرية. وهناك الآن من يتحدث عن بدايات وجهة مضادة تتمثّل في الحركة الراهنة للاندماجات الرأسمالية: فديملر بنز الألمانية هي التي دمجت فيها كرايزلر الأميركية بعد شرائها. وهذا مجرد مثل لا ينبغي ان يحجب الأمثلة الأخرى في مجالات متباينة: فبيرتيلسمان، احدى كبريات دور النشر وشركات الإعلام في ألمانيا، اشترت ودمجت فيها كلاً من دوبلداي وبنتام ودِل، وأخيراً أهمها وأكبرها من المؤسسات الأميركية في مجال النشر: راندوم هاوس. وقبل أيام فقط اشترى المُجمّع الاعلامي البريطاني، بيرسون ليمتد، دار سايمون وشوستر الأميركية. أما أهم ناشري فرنسا، مؤسسة هاشيت، فغدت تموّل مجلة "جورج" الشهرية التي اشتهرت بورقها الصقيل وبكون ناشرها جون كينيدي الإبن. واستثماراتٌ كهذه إن دلّت على شيء، فعلى أن السطوة الأميركية في ما خصّ مضمون الثقافة الجماهيرية، باتت تناظرها سطوة أوروبية في ما خص اقتصاديات بعض المواقع الاستراتيجية في صناعتي الاتصال ووقت الفراغ العالميتين. وفي الحالات كافة فالأميركان والأوروبيون يعيشون في عالم لا ينمو بالضرورة في شكل متجانس، وانما محكوماً بصيغ متزايدة الانتقائية: شيء لهذا وشيء لذاك. وهذا ما يساعد على ابقاء تنافس الأم الأوروبية وابنتها الأميركية مضبوطاً، على الأرجح، بأخلاق البيت وتقاليده - البيت الذي ينحو لأن يصير بيت العالم بأسره، فيما تتزايد غرفه وتتسع. * كاتب ومعلّق لبناني