لافت جداً تجاهل الإعلام الأميركي والمرشحين للرئاسة لمسودة مشروع المعاهدة الأمنية بين الولاياتالمتحدةوالعراق والذي بات موضوعاً رائداً في الإعلام العربي والإيراني في الفترة الأخيرة. فهذه المعاهدة تنظم العلاقة الثنائية لسنوات عدة، لجهة الوجود العسكري الأميركي في العراق إن كان بقواعد موقتة وفق الصيغة التركية، أو بقواعد دائمة. ولأن صلاحيات الجانب الأميركي، بموجب مسودة المعاهدة، أثارت غضب إيران، انطلقت قيادات ايرانية وعراقية ضد مشروع المعاهدة بصورة يُفترض أن تلقى - على الأقل - فضول الإعلام الأميركي، لا سيما أن بعض هذه القيادات حرّض صراحة ضد القوات الأميركية الموجودة في العراق. واجب الإعلام الأميركي قبل الانتخابات الرئاسية أن يكف عن الترفع عن مواضيع مثل مستقبل المعاهدة الأمنية، ومستقبل العلاقة الأميركية - العراقية، كما يتصورها الناخب الأميركي، وكما يطرحها كل من المرشح الجمهوري جون مكاين والمرشح الديموقراطي باراك أوباما. وقد حان للمرشحين والناخبين والإعلام البدء بالتدقيق في الأدوات الضرورية لأي استراتيجية ومدى توافرها، وفي الاسباب التي عطلت قدرة اميركا على كسب ثقة الناس، وفي ما إذا كانت الانعزالية خياراً حقيقياً للولايات المتحدة في هذه الحقبة من الزمن. فهذه ليست مسائل داخلية للتسلية، وإنما قضايا مصيرية تستحق الأخذ بجدية بالغة، أميركياً وشرق أوسطياً وعالمياً. قبل أسبوعين، حدث أمر نادر أثناء الحملة الانتخابية عندما أصدر المرشحون الرئيسيون الثلاثة، جون مكاين وباراك أوباما وهيلاري كيلنتون، بياناً مشتركاً نددوا فيه بالفظائع التي ترتكب ضد المدنيين في دارفور، وطالبوا بإنهاء العنف. وحذر المرشحون الثلاثة من أنه"سيكون خطأ جسيماً أن يعتقد نظام الخرطوم أنه سيستفيد من تضييع الوقت"، و"إذا لم يستتب السلام والأمن لشعب السودان عندما يتم تنصيب أحدنا رئيساً يوم 20 كانون الثاني يناير عام 2009، فإننا نتعهد بأن تنتهج الحكومة المقبلة تلك السياسات الصارمة نفسها ضد العنف في دارفور التي تبنتها إدارة جورج دبليو بوش بعزم لا يلين"، حسب ما جاء في البيان. اصدار البيان النادر لم يوقف الفظائع، لكن ادخاله في السجل له تأثير بالتأكيد على تفكير حكومة الخرطوم وتفكير المتمردين والفصائل المتناحرة، أقله لجهة عدم تصورهم أن الفترة الانتخابية الأميركية فرصة متاحة بلا رقابة. لن تحدث مواقف مشابهة في موضوع العراق أو نحو إيران ما لم تقع حادثة تصب في خانة الأمن القومي الأميركي. عندئذ الأرجح أن يقع باراك أوباما بالذات في الامتحان الأصعب، لأنه صاحب مواقف ستحتاج الى التأقلم الخلاق مع مقومات الأمن القومي التقليدية. هناك من يقول إن مفاجأة لافتة ستأتي من العراق، في تلميح إلى شيء ما في حوزة إدارة جورج دبليو بوش، سيكون له مردود على صعيدي العراقوإيران معاً. هذا المردود سيكون في صالح جون مكاين لأنه صاحب مواقف حازمة في مسألة أسلحة الدمار الشامل عراقية كانت أو إيرانية. اما باراك أوباما فالواضح أنه لا يريد الحسم العسكري مع إيران، ولا يريد البقاء عسكرياً في العراق، وأنه متماسك في مواقفه ضد حرب العراق منذ البداية، إنما ما لا يتقدم به باراك أوباما هو تلك الاستراتيجية المتكافلة التي تجيب على أسئلة جذرية رئيسية على نسق: ما العمل بإيران إذا استمرت في رفض"رزمة الحوافز"التي تقدمها إليها الولاياتالمتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا والمانيا بموجب قرارات مجلس الأمن مقابل مجرد موافقة طهران على"تعليق"تخصيب اليورانيوم؟ ما العمل بإيران اذا كانت حساباتها الاستراتيجية مبنية على افتراض"سذاجة"قوامها الحوار بلا شروط مسبقة يضرب بعرض الحائط إجماع الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن ويقوّض قرارات بموجب الفصل السابع من الميثاق؟ جون مكاين، بدوره، عليه أن يجيب عن اسئلة في ذهن المؤسسة الإيرانية الحاكمة ذات حذاقة تدربت عليها بدروس عمرها قرون. ما العمل بإيران اذا خلصت إلى قرار استراتيجي قوامه أن القوات الأميركية في العراق شبه"رهينة"لإيران إذا ما خطر للولايات المتحدة الخوض في مغامرة عسكرية؟ ما العمل بإيران إذا أخذت جميع الاحتياطات الاقليمية لعملية عسكرية ضدها بتدابير انتقامية ليست في داخل الأولويات والرادار والبوصلة الأميركية؟ العراق هو العنوان الأهم في العلاقة الأميركية - الإيرانية، يليه لبنانوفلسطين وما يترتب من افرازات لجهة علاقة إيران بسورية وعلاقتها ب"حزب الله"في لبنان، وب"حماس"في فلسطين. الأساس بالطبع، يبقى الطلب الأساسي للنظام الحاكم في الجمهورية الإسلامية وهو الاعتراف الأميركي به والإقرار بأنه الحاكم المسيطر على إيران إلى ما لا نهاية. فإذا كان جون مكاين أو باراك أوباما على استعداد لتأهيل كامل للنظام الإيراني عالمياً، ما هي نوعية العلاقة التي تتوقعها الولاياتالمتحدة مع الجمهورية الإسلامية في إيران في أعقاب التأهيل؟ وما هي عناصر الصفقة الثنائية أو الصفقة الكبرى بين البلدين اللذين لهما ايديولوجيتان متنافستان فكرياً واستراتيجياً؟ في اليوم التالي لدخول باراك أوباما التاريخ بحصوله على الأصوات الانتخابية الكافية ليصبح المرشح المفترض الأول للحزب الديموقراطي الآتي من جذور افريقية، خاطب أوباما لجنة"ايباك"المتخصصة في تعزيز العلاقة الأميركية - الإسرائيلية على جميع المستويات. قال إنه سيقوم"بكل شيء في وسعي لمنع إيران من الحصول على السلاح النووي... كل شيء". شرح ما سبق أن قاله عن استعداده للجلوس مع أي زعيم وقائد، بمن في ذلك الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد،"بلا شروط"مسبقة، لكنه في شرحه كان غامضاً. قال إنه ليس راغباً في الجلوس مع الأعداء"لمجرد التحدث"معهم. قال:"انني سأكون مستعداً لقيادة ديبلوماسية صارمة ذات مبادئ مع القائد الإيراني الملائم في الوقت والزمان الذي اختاره، فقط اذا كان ذلك سيدفع بمصالح الولاياتالمتحدة إلى الأمام". قد يكون في بال أوباما التمييز بين نجاد وبين النظام الإيراني وأقطابه الآخرين بما يمكن وصفه ب"سذاجة"الفكرة السائدة هذه الأيام. فهناك منظرون وأكاديميون ومن يسمون أنفسهم خبراء في الشأن الإيراني، الذين يعتقدون أن المشكلة مع إيران هي محمود أحمدي نجاد، متناسين تماماً من هو الحاكم الفعلي وكيف أن هذا نظام متكامل يتخذ القرارات. اوباما، في سعيه لشرح مواقفه أمام جمهور لجنة"ايباك"الموالية لإسرائيل، حاول إبعاد نفسه عن خلفية جزء من عائلته ذات الجذور الاسلامية، علماً بأن جدته لجهة أبيه مسلمة من كينيا وأنه اعتنق المسيحية، وأصبح مسيحياً متديناً، وأن لا علاقة له بالاسلام سوى عبر اسم ابيه الذي يتوسط اسمه: باراك حسين أوباما. فهو واعٍ لما يشكله ذلك من شكوك وصعوبة للكثير من الأميركيين في دعمه، نظراً إلى لونه الأسود واسمه الإسلامي، وتاريخ طفولته ونشأته في اندونيسيا وهاواي وليس في المدن الأميركية، حيث لتجربة سود أميركا بعد مميز وخاص. هذا إلى جانب كونه ليبرالياً بميول يمكن للجمهوريين وصفها بأنها إلى اليسار، في حين أن معظم أميركا يقف في منتصف اليمين. ما أدركه باراك أوباما وهو يخاطب"ايباك"أن عليه أن يكسب الصوت اليهودي والدعم اليهودي كأساس مهم جداً إذا كان له حظ في البيت الأبيض. لذلك تعهد بتقديم معونة بقيمة 30 بليون دولار لإسرائيل في العقد المقبل"لضمان تمكن إسرائيل من الدفاع عن نفسها أمام أي تهديد، من غزة إلى طهران". وقال إن أي اتفاقية بين الفلسطينيين والاسرائيليين"يجب ان تحفظ هوية اسرائيل كدولة يهودية"وبالقدس عاصمة لها غير مقسمة. هذا الكلام سيفاجئ كثيرين في منطقة الشرق الأوسط الذين راهنوا على مواقف مختلفة نوعياً لباراك أوباما من المسألة الفلسطينية ونحو اسرائيل. ما سيريح البعض هو قول اوباما انه ينوي الانخراط في عملية صنع السلام الاسرائيلي - الفلسطيني مع مطلع ولايته في البيت الأبيض"ولن أنتظر حتى أواخر أيام رئاستي"، في انتقاد موجه الى جورج بوش. وقال ايضاً ان الفلسطينيين يجب ان تكون لهم"دولة متصلة ومتماسكة". وهذا ما يقوله جون مكاين ايضاً في شأن الدولة الفلسطينية. فالفارق ضئيل في المواقف نحو اسرائيل بصفتها الحليف الأول والأهم للولايات المتحدة الاميركية لدى أي من المرشحين للرئاسة. هيلاري كلينتون التي تود ان تدخل التاريخ مرتين - بصفتها أول امرأة تخوض معركة الرئاسة، وأول امرأة يمكن أن تتولى منصب نائب الرئيس - إذا وافق باراك أوباما على ذلك - تحدثت عن"حاجة الولاياتالمتحدة الى سياسة خارجية جديدة"، قالت أمام لجنة"إيباك"ايضاً ان سياسات إدارة جورج بوش في العراق وغيره كلفت الولاياتالمتحدة غالياً، من ناحية النفوذ ومن ناحية"التأثير الاستراتيجي". العراق سيبقى في أولويات المرشحين للرئاسة الأميركية كميزان من موازين اطلاق الأحكام وتبادل الاتهامات بين الجمهوريين والديموقراطيين وبين داعمي جون مكاين وداعمي باراك أوباما. باراك أوباما سيحتاج الى نائب رئيس مرشح يكون بمثابة ما كان عليه ديك تشيني مع جورج بوش اثناء الجولة الأولى من الانتخابات التي أوصلتهما الى البيت الأبيض. اي انه في حاجة الى شريك أوعى وأكبر وأكثر خبرة وحنكة. قد يرى الكثيرون ان هيلاري كلينتون في منصب نائب الرئيس هي الورقة - الحلم للولايات المتحدة وليس فقط للحزب الديموقراطي، في إشارة الى مرشح اسود للرئاسة وامرأة لنائب الرئيس. مثل هذا التفكير يدخل في خانة"الحركة"التي ترافق ترشيح باراك أوباما والتي واجهت هيلاري كلينتون صعوبة كبرى في التنافس معها. لكن ما ستتطلبه المرحلة المقبلة سيكون من نوع آخر. وقد يكون - على سبيل المثال - بيل كلينتون هو النموذج المرجو كنائب رئيس مرشح الى جانب باراك أوباما، كشريك يأتي بالخبرة والوعي والتجربة والحذر، فلا يكفي ان يقال ان اوباما سيحيط نفسه بأفضل الخبراء. ولا يكفي ان يقال ان جون مكاين سيستفيد كثيراً من تحسن الأوضاع في العراق. كلاهما مطالب بالتفكير الجدي في شكل المستقبل الأميركي في العراق ومع ايران ومنطقة الشرق الأوسط. إدارة جورج بوش تتفاوض حالياً مع الحكومة العراقية حول المعاهدة الأمنية المفترض توقيعها في تموز يوليو المقبل. وبرغم قرب موعد التوقيع، وبغض النظر عما اذا كان الموعد سيحترم أو سيتم تأخيره، فالمدهش ان يغيب الاعلام الأميركي عن نقاش هذا الأمر لا سيما انه يستعر في اعلام منطقة الشرق الأوسط. فإذا كان المرشح الديموقراطي المفترض يكسب الأصوات على اساس دعوته الى الانسحاب شبه الفوري في العراق، فأقل ما يمكن للاعلام الاميركي ان يقوم به هو طرح الأسئلة حول تقاطع او تنافي أو تناقض معاهدة أمنية ثنائية كهذه مع ما يقوله باراك أوباما حول اخراج القوات الأميركية في العراق. فقد أصدر أحد رجال الدين الايرانيين آية الله كاظم حائري فتوى تحرم الاتفاقية حول وضع القوات الأميركية لإخفاء أسس قانونية لوجودها عندما ينتهي التفويض الدولي للقوات بموجب الفصل السابع من الميثاق. كما دعا مقتدى الصدر أتباعه الى التظاهر عقب صلاة كل جمعة و"التحرك اقليمياً"لمنع توقيع الاتفاقية بين واشنطن وبغداد. رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي سيبحث هذه الاتفاقية في طهران عندما يزورها الاسبوع المقبل كما سيبحث ما سمي بأدلة على تدخل ايران في شؤون العراق. فربما حان الوقت لزيارة مشتركة لكل من جون مكاين وباراك أوباما الى العراق، أقله للاطلاع على ما يشغل المنطقة بأسرها، فيما الاعلام الاميركي في غفوة عنه.