لعل أحد أهم الألغاز المحيرة التي خلّفتها أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001، ولم تتوافر لنا إجابات عنها بعد، هو كيف استطاعت شرذمة من المنبوذين، ليس فقط من الوصول إلى الأهداف المدنية في نيويورك، ولكن أيضاً الوصول إلى قلب وزارة الدفاع الأميركية، معقل أعتى قوة عسكرية في العالم، المحصنة بكل أنواع الحماية العسكرية، والتي كانت تزعم أنه حتى الذباب لا يستطيع دخولها من دون استئذان! وبغض النظر عن تخطئتنا لهذا العمل - الذي عارضه غالب الرأي العام العربي في وقته ? إلا أنه أعاد للأذهان من جديد، أنه حتى أقوى قوة على وجه الأرض يمكن أن تؤتى من جهة معينة! وأنه ليست هناك دولة، مهما بلغت قوتها، تستعصي على الهزيمة. ولعل أحد أهم أسباب انتصار أي مقاومة تقاوم احتلالاً أجنبياً أو تدفع غزواً خارجياً، هو الاعتقاد الجازم بأن قوة الاحتلال مهما بلغت، ليست أقوى من عزيمة الشعب المقاوم. وأمثلة التاريخ شاهدة على هذا بما يغني عن الإسهاب. وللاستدلال على أهمية نجاح الشعوب في مقاومة النوع الأول الاحتلال الأجنبي، أو النوع الآخر الغزو الخارجي، يمكن الاستشهاد بأنه لولا ذلك الإيمان لما انتصرت المقاومة الشعبية في الهند والجزائر وبقية المستعمرات ضد الدول المستعمرة، ولما خسرت الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي السابق في فيتنام وأفغانستان على الترتيب، رغم انهما كانا أقوى قوتين عسكريتين في وقتهما. وحريٌ الإشارة إلى أن إسرائيل - التي قهرت الحكومات العربية أمداً طويلاً - قد ذاقت طعم الهزيمة مرتين، لتجمع بين نوعي الخسارة عبر غزوها واحتلالها، ليس بسبب رد فعل الحكومات العربية، وإنما بسبب ما واجهته من مقاومة شعبية عنيدة. ذلك أن الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان ما كان لينتهي لولا روح المقاومة التي تمكنت في النهاية من طرد إسرائيل عام 2000، وبالمنطق نفسه يمكن القول أيضاً إن المقاومة هي التي اضطرت إسرائيل إلى سحب قواتها من قطاع غزة عام 2005 لإنهاء احتلالها المباشر. بيد أن من أساسيات فن المقاومة أنها، حين تقاوم عدواً بعينه، أن لا تستعظمه أو تعطيه أكبر من حجمه الطبيعي، لأن إعطاء أي خصم أكبر من حجمه الطبيعي سيسبب إحباطاً لمن يفكر في مقاومته، قد يؤول إلى الاستسلام. في الوقت ذاته، فإن المقاومة عليها ألا تلغي قوة الخصم أو تستصغره، لأنه كما أن في تعظيم الخصم هزيمة، فإن احتقار قوة الخصم قد يكون هزيمة أيضاً. وبين هذين المحورين عاشت الأمة العربية هزائمها العسكرية في خصومتها اللدودة ضد إسرائيل خلال الستين عاماً الماضية، تارةً باحتقار دولة إسرائيل وتارةً أخرى بتعظيمها واعتبارها"قوة لا تقهر". وعلى رغم أن المعايير المادية في المعادلة العسكرية بين العرب وإسرائيل، تميل لمصلحة الكفة العربية التي تضم 300 مليون عربي قد ملأتهم حكوماتهم غيظاً وحنقاً على"العدو الصهيوني"، إلا أن استثمار ذلك الكنز لم يتحقق في يوم ما، من حكومات الدول العربية عموماً وحكومات دول المواجهة خصوصاً، الأمر الذي جعل البعض يتساءل عما إذا كانت تلك خطة مرسومة بدهاء منذ وقت بعيد! إذ أن المتأمل في الهزائم العسكرية المخزية للأمة العربية يخلص إلى أنها قادت إلى هزيمة أشد وأقسى على الأمة العربية، وهي الهزيمة السياسية وقتل روح المقاومة عند الأمة العربية. وتبعاً لذلك، آلت بنا الحال إلى ما نحن فيه اليوم من استجداء عدونا لأجل مرضاته. حيث بادرت الأنظمة العربية بتخليها عن مساندة المقاومة العسكرية، وأطلقت عبارة"السلام مع إسرائيل هو الخيار الوحيد"الممكن. ولكن بعد أن تعرض هذا الطرح للنقد البارع، لوجود حلول أخرى بديلة عن"السلام"الذي هو بمعنى"الاستسلام"، قامت بعض النخب العربية بتعديل صوغ العبارة السابقة لتؤكد أن السلام مع إسرائيل هو"الخيار الاستراتيجي"للمنطقة. إضافةً إلى ذلك، سخرت حكومات عربية عدة ومعها"نخبها المثقفة"من فكرة استعادة الحقوق عبر المقاومة، ومضت في تقديم التنازلات تلو التنازلات للعدو الذي لم يقدم يوماً تنازلاً واحداً لخصومه. وحيث لم يجد"دعاة السلام"في العالم العربي من أفعال الحكومة الإسرائيلية ما يعينهم على كسب معركتهم الداخلية ضد"دعاة دعم المقاومة"، بسبب إصرار إسرائيل على رفضها المبادرة العربية التي أقرتها الجامعة العربية في مؤتمر بيروت 2002 - في إشارة واضحة الى استفادة إسرائيل من بقاء الوضع الراهن، وعدم رغبتها في سلام دائم مع خصومها العرب - يحاول أولئك النفر اليوم أن ينالوا من خصومهم بالترويج لفكرة مفادها أن أسباب التخلف والهزيمة في العالم العربي هي وجود ثقافة لا تزال تؤمن برفع السيف لحل مشكلاتها مع خصومها! ويؤكد هؤلاء أن كسب المعارك اليوم قد تعددت واختلفت طرقه، ولم يعد بالطريقة التقليدية، التي عرفها الإنسان الحجري، وحدها. ومن هذا المنطلق، حاولت هذه الفئة التأثير على تفكير رجل الشارع العربي بتسفيه الرأي الآخر القائل بفعالية المقاومة في استرداد الحقوق. وعلى رغم قوة حجة هؤلاء، إلا أن هذا المنطق لم يتغلغل في ذهن رجل الشارع العربي. ذلك أن الشعوب العربية اليوم لم تعد جاهلة لما يدور حولها، فهي تعلم عدم صدق إسرائيل في تحقيق السلام المزعوم. إذ لو كانت إسرائيل جادة في سعيها إلى السلام فلماذا رفضت عبر أكثر من زعيم، مبادرة عربية قدمت على طبق من ذهب، تشمل التطبيع الكامل في مقابل بعض التنازلات؟ كما أن المواطن العربي اليوم قد فطن إلى أن إسرائيل لا تريد سلاماً جماعياً يفرض عليها تنازلاً واحداً، وإنما تريد سلاماً منفرداً مع كل دولة عربية على حدة لتحقق مكاسبها عبر فرض ما تريده هي من شروط، كما فعلت مع الدول التي وقعت معها اتفاقات ثنائية، وكما تسعى حالياً إلى كسب البقية بالطريقة نفسها. في الوقت ذاته، هناك أسئلة عدة تحول الاجابات عنها دون اقتناع المواطن العربي بالزعم الرافض لدعم المقاومة في فلسطين، خصوصاً بعد أن جربت الحكومات العربية الحلول السلمية بما فيها من تنازلات، والتطبيع الكامل، من دون أن تجني حتى"خفي حنين"! إذ كيف يمكن القبول بخروج أي محتل من دون مقاومة، وشواهد التاريخ الغربية قبل العربية تؤكد أن المحتل لم يخرج مختاراً قط؟! ثم لماذا يُحرم الفلسطينيون من حقهم القانوني الدولي الذي تقره الشرائع الدولية في مقاومة المحتل؟ أليس قطاع غزة والضفة الغربية بما فيها القدس أراض محتلة بموجب قرارات مجلس الأمن والشرعية الدولية؟ وحيث استعصت الحلول السلمية لإعادة الحقوق لأصحابها، فلماذا يمنع أصحاب الحق من الدفاع عن أنفسهم؟ ثم لماذا آمن من آمن بمبدأ"المقاومة المشروعة"للشعب الأفغاني ضد الاحتلال السوفياتي، ويكفر من يكفر اليوم بالمقاومة في فلسطين؟ وهل كابل التي فزعت لها الأمة العربية والمسلمة بإرسال فلذات أكبادها وأموالها هي أكثر قدسية في قلوبهم من فلسطين؟ واقع الحال في العالم العربي اليوم، وبعد ستين عاماً على ذكرى النكبة، يشير إلى أن ثقافة المقاومة - بسبب العناد الإسرائيلي، والفشل العربي الرسمي - تزداد انتشاراً وتأييداً بين مختلف طبقات المجتمع العربي، المثقفة منها وغير المثقفة. كما أن الشعوب العربية اليوم - وعلى مستوى واسع - بدأت تعي حقيقة أن حكوماتها لم تكن جادة في يوم من الأيام في مقاومتها لإسرائيل عبر الستين عاماً الماضية! وتبعاً لذلك، بدأت الشعوب تعي أيضاً حقيقة كذبة المقولة السائدة التي زعمتها إسرائيل منذ إنشائها، وروجت لها نخب عربية منذ وقت ليس بالقصير، أن"إسرائيل قوة لا تقهر"، وأنه لا يمكن لأية مقاومة أن تهزمها. إذ لا يزال الناس يتساءلون منذ أحداث أيلول سبتمبر 2001: إذا كانت شرذمة منبوذة استطاعت أن تدك أعتى معاقل الغرب بطائراتها المدنية، فكيف تعجز حكومات الدول العربية بجيوشها الجرارة عن شن هجوم على الدولة التي لا تزيد مساحتها على مساحة ضاحية أو مزرعة؟ إذ لو قدر للحكومات العربية أن تسمح فقط لشراذمها بالإقلاع بطائراتها المدنية نحو تل أبيب، لربما أبيدت دولة الصهاينة قبل أن تقوم، فكيف لو تبعتها أسلحة الجيوش العربية الجرارة، بما في ذلك طائراتها الحربية، ودباباتها المدججة، وصواريخها الموجهة إلى بعضها بعضاً، ماذا يبقى من دولة إسرائيل؟ * حقوقي دولي