انفصال جنوب السودان عن شماله وتحوله إلى دولة في تموز (يوليو) المقبل سيكونان نهاية رحلة استمرت 56 عاماً منذ اندلاع أول تمرد مسلح في الجنوب في آب (أغسطس) 1955 أي قبل خمسة أشهر من استقلال البلاد في أول كانون الثاني (يناير) 1956 ولم يشهد جنوب السودان خلال تلك العقود استقراراً إلا فترة هدنة في عهد الرئيس السابق جعفر النميري. التاريخ يعيد نفسه... فقبل ستة أشهر من استقلال جنوب السودان اندلع تمرد بات يهدد ميلاد دولة ويحيلها إلى دولة فاشلة اذ تنشط سبع ميليشيات وتخوض عمليات دامية أوقعت مئات الضحايا وصار شبح الحرب الأهلية ينذر بتمزيق أحدث دولة في العالم. فصل جنوب السودان عن شماله ظل جنيناً في رحم الغيب. القوات البريطانية المستعمرة تركت خلفها مشروع انفصال بدعوى حاجة الشعب الجنوبي للاستقلال ما حدا به للتمرد عام 1955 ليبدأ الصراع بين الشمال والجنوب. وتداخل هذا الصراع السياسي مع الصراع العسكري في محاولة لحل القضية بواسطة الحكومات السودانية المتعاقبة التي تمكنت من عقد العديد من الاتفاقات مع الجنوبيين إلا أنها فشلت في الوصول إلى اتفاق يقبل به الطرفان. وترتبت على عقد اتفاقية شباط (فبراير) 1953 بين مصر وبريطانيا لتقرير مصير السودانيين نتائج عكسية على الجنوب كان منها غضب الجنوبيين لأن احداً لم يسعَ الى معرفة آرائهم، ثم ما جرى في الانتخابات التي أعقبت المعاهدة من إسراف في الوعود التي قطعت لهم سواء من جانب الأحزاب الشمالية أو من جانب المصريين وهي الوعود التي لم يتحقق منها شيء. ووصلت الشكوك إلى ذروتها عندما بدأ الشماليون عام 1955 في إعادة تنظيم القوات العسكرية وتقرر نقل بعض مجموعات الفرقة الاستوائية إلى الشمال الأمر الذي أنتهى بتمرد هؤلاء، وهو التمرد الذي كان بداية لتفجر مشكلة الجنوب التي انتهت بانفصاله. ولا تزال القبلية مسيطرة في جنوب السودان وهي الأكثر تأثيراً والأقوى نفوذاً على الحركة السياسية والحياة العامة، وتعتبر الدينكا أكبر قبائل الجنوب عدداً، اذ يقدر عددها بنحو 3 ملايين ويفاخر بعض قادتها بأنها الاكبر في القارة السمراء وافرادها موزعون بين مناطق بحر الغزال وأعالي النيل وان كانوا يتمركزون في مديرية بحر الغزال بنسبة أكبر، وتتجمع حول الدينكا قبائل أخرى نظراً لامتلاكها القوة والحكم ولانها استطاعت نسج تحالفات مع قبائل ومجموعات صغيرة، وترفض القبيلة مبدأ تقسيم جنوب السودان إلى مديريات لأنه يفتت قوتها ويقلص من مناطق نفوذها وسيطرتها ومن أبرز رموز القبيلة جون قرنق مؤسس «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، ورئيس حكومة الجنوب وقائد الجيش الجنوبي سلفاكير ميارديت. وتأتي قبيلة النوير في المرتبة الثانية بعد قبيلة الدينكا من الناحية العددية ويقارب عددها نصف مليون نسمة معظمهم يعيش في أعالي النيل، وتقع في اراضيها حقول النفط وتحتل إقليم المستنقعات والسدود على جانبي بحر الجبل الأدنى، وساهم وجودها في المنطقة التي يعيشون فيها في ابتعادهم وعزلتهم حيث تغرق المستنقعات أراضيهم في موسم المطر بينما تصبح أشبه بالصحراء في فصل الجفاف، لذا عاشوا في شبه عزلة وقد أدى عاملا التمركز والنشاط إلى احتكاكات مباشرة بينها وبين قبيلة الدينكا مما جعلها خصماً ونداً لها ومن أهم رموزها نائب رئيس حكومة الجنوب رياك مشار، وتشتهر القبيلة بالشراسة والقتال. وتأتي قبيلة الشلك في المرتبة الثالثة وتعيش في شريط على الضفة الغربية للنيل الأبيض من كاكا في الشمال إلى بحيرة نو في الجنوب وتحتل كذلك الضفة الشرقية من كدوك إلى التوفيقية كما تمتد قراها مسافة 40 كيلومتراً على الضفة الشمالية للسوباط. وتحكم قبيلة الشلك من خلال نظام سياسي مركزي تحت قيادة ملك أو سلطان ومن أبرز شخصياتها وزير الخارجية السابق لام اكول، والأمين العام للحركة الشعبية باقان اموم. وبرز انشقاق بعض القيادات العسكرية الجنوبية عن الجيش الجنوبي و «الحركة الشعبية لتحرير السودان» التي تحكم الجنوب إلى السطح بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي أجريت في البلاد في نيسان 2010، التي عكست اختلافات وتناقضات قبلية، مما أحدث تصدعاً وشرخاً عميقاً في داخل «الحركة الشعبية»، إذ خرج كثير من قياداتها عن أجهزتها ورشحوا أنفسهم مستقلين خصوصاً لحكم الولايات وعضوية البرلمان، فهددتهم بالتراجع أو فصلهم من عضويتها، لكن المستقلين حزموا أمرهم وترشحوا للمناصب على المستويات كافة رافضين تخطيهم في الاختيار وفضلوا تغليب البعد القبلي والعلاقات الشخصية في عملية الاختيار. وفي ولاية جونقلي التي تشهد منذ اسابيع مواجهات مسلحة خرج الجنرال جورج أطور من الجيش الجنوبي، وقال إن الدافع الأول لتمرده هو حدوث عمليات تزوير كبيرة في الانتخابات من قبل الحركة حتى لا يفوز بمنصب حاكم الإقليم. وينتمي جورج إلى قبيلة الدينكا كبرى قبائل الجنوب وقاتل في صفوف الجيش نحو عشرين عاماً وهو عسكري شرس وأفضل من يجيد حرب العصابات بين قادة الجيش الجنوبي، وبدأ تمرده قبل شهور وبأمرته 33 ألف مقاتل غالبيتهم من قبيلة النوير ثاني اكبر قبائل الإقليم، وتوصل إلى تفاهم مع رئيس حكومة الجنوب ورفيقه السابق في النضال العسكري سلفاكير ميارديت لكنه طرح شروطاً اعتبرتها حكومة الجنوب تعجيزية، ويعتقد انه سعى إلى هدنة لتحقيق مكاسب أبرزها إطلاق أسراه ورفع الحصار عن مجموعته والحصول على سلاح. ومن ابرز المنشقين أيضاً ديفيد ياوياو كان أحد المبعدين من الترشح للانتخابات، ولعل هذا كان باعثاً قوياً لحمله السلاح في وجه الجيش الجنوبي، ساعده في ذلك أن أبناء قبيلة المورلي التي يتحدر منها مقتنعون أن «الحركة الشعبية» تعتبرهم قبائل غير متعاونة مع الشلك، وقاد باو عمليات عسكرية لكنه انضم الى الجنرال اطور بعدما تعرض إلى ضغوط عسكرية. ومن قبيلة الشلك ثالث كبرى قبائل الجنوب انشق الجنرال قاي وأولونج عن الجيش الجنوبي وقاد عمليات في منطقة أعالي النيل، وكذلك قلواك قاي الذي أعلن تمرده في ولاية الوحدة الغنية بالنفط، بعد محاصرته من حاكم الولاية تعبان دينق ومحاصرته بسبب دعمه المرشحة لمنصب الحاكم انجلينا تينغ ولكنه انتهى ليكون ضمن قادة الجنرال أطور. وكان آخر المنشقين الجنرال بيتر غديت، الذي قال انه انشق عن الجيش الجنوبي لأسباب تتعلق بالظلم والتهميش والإقصاء وأعلن الحرب على مَنْ وصفهم الفاسدين في دولة الجنوب الوليدة. وخطورة تمرده أنه قريب من حقول إنتاج النفط في ولاية الوحدة ما يهدد بوقف الإنتاج مع طرد الكوادر الشمالية العاملة من مهندسين وفنيين من الحقول. هذه التطورات العسكرية ستجعل استقلال الجنوب الذي طال انتظاره يأتي في منتصف عام شديد الدموية. ووفقاً للأمم المتحدة، قتل 800 شخص على الأقل في الصراعات المسلحة في الاقليم حتى نهاية آذار الماضي بينما كان عدد الذين قتلوا خلال العام الماضي 980 شخصاً، ما يؤشر الى أن وحدة الجنوب التي تشكلت قبل الاستفتاء يمكن ان تنهار بسرعة. ووفقاً للامم المتحدة، هناك سبع ميليشيات مؤكدة تنشط حالياً في الجنوب، وتهدد الاشتباكات المتصاعدة مع الزعماء العسكريين المارقين والاشتباكات التي تقع بين القبائل المتخاصمة بإفساد فرحة الانفصال عن الشمال، وترى قيادات في «الحركة الشعبية» الحاكمة في الجنوب أن حمل السلاحِ سيؤدي إلى طريقٍ مسدود لكل الأطراف، وأن مصلحة الحركة تكمن في فتح الباب أمام الجميع للحوار والمشاركة في بناء دولة الجنوبالجديدة. ولم يمنع إعلان حكومة الجنوب العفو عن المنشقين أعداداً كبيرة من قياداتِ الجيش من الانخراطِ في مجموعات قتالية ويستعد المنشقون لتنظيم ما سموها «ثورة من أجل تحقيق العدل والتنمية وتصحيح أوضاع الجيش الجنوبي». وفي المقابل ترى قيادات جنوبية أن المليشيات المنشقة تجد دعماً مباشراً من الخرطوم لتأجيج الأوضاع في الجنوب حتى لا يهنأ بدولته الجديدة وتغيير الخريطة السياسية والعسكرية حتى تصعد إلى السلطة مجموعات موالية للسلطة في الشمال والتحالف معها للسيطرة على شطري البلاد وإجهاض حلم الجنوبيين في الاستقلال بعيداً من الخرطوم، لكن قادة في الحكم في الشمال يتهمون نخباً في الجنوب بدعم وإيواء حركات التمرد في دارفور حتى لا يستقر الشمال بعد ذهاب الجنوب، الأمر الذي يهدد بحرب بالوكالة واستخدام الميليشيات والمتمردين «كوسائل ضغط» متبادلة وهو ما يعتبره مراقبون لعباً بالنار ينبغي تجنبه لأن أطراف اللعبة سيخسرون جميعاً.