ليس من الصعب أبداً العثور على أسباب عدة تبرر اعتبار فيلم "عند الميناء" لإيليا كازان فيلماً حاسماً، من ناحية في تاريخ هذا الفنان الأميركي ذي الأصل اليوناني، ومن ناحية ثانية في تاريخ فن التمثيل السينمائي، انطلاقاً من الأداء الذي قدمه مارلون براندو في هذا الفيلم. وهنا لا بد من الإشارة بداية الى انه اذا كانت الناحية الثانية فنية بحتة، فإن الناحية الأولى سياسية ايديولوجية على رغم انها، في ظاهر الأمور تلامس عمل فنان مبدع أراد هنا أن يقدم فيلماً مسلياً ومشاكساً، لكنه أراد أيضاً، وهذا هو الأهم، أن يقدم فيلماً تبريرياً. ولكن لماذا يمكننا أن نقول عن"عند الميناء"انه تبريري، ان الجواب الواضح على هذا السؤال يحيلنا، الى السياسة والى تاريخ ايليا كازان مع السياسة أكثر بكثير مما يحيلنا الى الفن نفسه. ولأن هذا الأمر يبدو هنا حاسماً في سياق أي حديث عن هذا الفيلم، لا بد من الدنو منه في شكل مباشر. * في ذلك الحين، أي عند بداية خمسينات القرن العشرين، كان ايليا كازان واحداً من كبار فناني السينما الاجتماعية المجددين في هوليوود، بعد أن حقق لها أفلاماً عدة طبق فيها نظراته الفنية العميقة والمرتبطة بالمجتمع التي كان اكتسبها من عمله الطويل واللافت في المسرح اليساري الأميركي. قبل ذلك، اذاً، كان ايليا كازان، مثل مبدعين كثر في عالمي المسرح والسينما، يسارياً، بل أكثر من هذا، كان لفترة من حياته عضواً نشيطاً في الحزب الشيوعي الأميركي. وبهذا كان دائماً على يسار كتاب ليبراليين اخرج بنفسه أعمالهم المسرحية مسرحاً وعلى الشاشة مثل كليفورد أوديتس وتينيسي ويليامز وآرثر ميلر. صحيح انه سرعان ما ترك الحزب الشيوعي احتجاجاً على الممارسات الستالينية فيه، لكنه لم يتخل عن أفكاره اليسارية التي ساعدته على انطلاقة"ستديو الممثل"مع زميله وصديقه لي ستراسبرغ. وكان يمكن لكازان أن يبقى على ذلك النحو، رافضاً الستالينية من موقع انساني يساري عبّر عنه على أي حال في كل ما قدم حتى ذلك الحين من أعمال. ولكن ذات يوم حلت اللجنة الماكارثية في هوليوود، بعدما أقامت الدنيا ولم تقعدها في شتى الدوائر الحكومية وغير الحكومية الأميركية، مطاردة كل من هو ديموقراطي أو تقدمي أو حتى روزفلتي منفتح على العالم، تحت ستار محاربة الشيوعية. وأخذت لجنة ماكارثي تستجوب الفنانين المشتبه بهم، ولو من بعيد جراء عملهم فكراً يسارياً أو ديموقراطياً، طالبة من كل من يريد تبرئة نفسه من أي ماض"يلطخه"أن يفسد على رفاق سابقين له. نعرف أن كثراً رفضوا هذا وحوكموا أو طردوا من أعمالهم، لكننا نعرف، في المقابل، أن كثراً أيضاً لعبوا اللعبة. وكان كازان من بين هؤلاء: وشى بزملائه وأمّن"مستقبله المهني"في هوليوود، لكنه في المقابل استحق لعنة وكراهية الغالبية العظمى من فناني هوليوود، حتى من دون أن يكونوا يساريين. فعل الوشاية نفسه كان هو الذي أثار اشمئزازهم. وكان في مقدم هؤلاء آرثر ميلر، الذي أوقف كل تعاون مع كازان. لاحقاً، بعد أكثر من ربع قرن، سيحكي كازان كل هذه الحكاية مبرراً فعلته في كتاب مذكراته المعنون"حياتي"؟ غير انه في الحقيقة كان قد شرع في ذلك التبرير فور انتهاء القضية واستجوابه وشهادته ونميمته... أي منذ حقق"عند الميناء". ذلك أن هذا الفيلم هو في الحقيقة مرافعة فنية حققها ايليا كازان ليقول انه اذا كان قد"خان ووشى"فإنه انما فعل هذا لأن"جرائم"اليسار - ممثلاً في الفيلم بالتنظيم النقابي أشد بؤساً وشراً من فعلته. وليس من الصعب العثور، في طول الفيلم وعرضه، على عبارات ومواقف تقول هذا... لا سيما حين يقف بطل الفيلم تيري مالوي ليقول لنا ذات لحظة، بعد ان كان قد وشى بالنقابيين انه اذا كان يقف هنا مرتدياً ثياب الخائن لرفاقه السابقين، فإنه كان في الحقيقة قد سبق له أن خان نفسه طوال حياته. مشيراً في هذا الى انه انما كان يخون نفسه وانسانيته حين كان يقف في صف أولئك الرفاق متغاضياً عن شرورهم! وهذا هو المعنى الأساس الذي توخى ايليا كازان التعبير عنه في هذه العبارة... ولكن أيضاً في الفيلم كله. بل حتى في الكثير من أفلامه السابقة والتالية حيث غالباً ما نجد الخيانة وتبريرها ونذكر هنا في هذا السياق، الى"فيفازاباتا"لكازن، الذي يدنو من الموضوع نفسه على خلفية الثورة المكسيكية، نذكر"الزائران"الذي يعود فيه سنة 1971 الى الوشاية ومبرراتها على خلفية حرب فييتنام، ثم أخيراً"آخر العمالقة"الذي يستعين فيه كازان برواية لسكوت فيتزجير الدليمكي سنة 1976، عن هوليوود الخمسينات، مركزاً وفي سخرية مرعبة تبرر النميمة على شخصية الكاتب اليساري النقابي. "الزائران"وپ"آخر العمالقة"حققا في السبعينات، أي بعدما كانت الأمور هدأت. أما"عند الميناء"تحقق في سنة 1954، حين كانت الخيانة طازجة، والمقاطعة التي جابهت كازان في شأنها مؤلمة. ومن هنا كان لافتاً أن يقول كازان في صدد هذا الفيلم:"انه فيلم عن ضرورة أن يشعر المرء في بعض الظروف أن عليه أن يتكلم. وهو يرى كيف ان السكوت في بعض الأحيان وفي مثل تلك الظروف يكون ضاراً. والحكاية التي رويتها في الفيلم حكاية حقيقية... لم أبالغ في شيء بصددها، بل رويتها كما هي...". وفي هذه النقطة الأخيرة لم يكن كازان بعيداً من الصواب، ذلك انه اقتبس فيلمه - الذي يبدو في النهاية منتمياً اليه تماماً -، من سلسلة تحقيقات كانت ثالث جائزة بولينزر في ذلك الحين أجراها الصحافي مالكولم جونسون حول الجريمة المنظمة والعمل النقابي في مرافئ نيويورك. والحقيقة أن هذا الفيلم لو حقق في زمن آخر، لما كان من المنطقي ربطه بوشاية كازان... لكن التوقيت كان هو العامل الحاسم. نقول هذا مذكرين بأن ايليا كازان، كان تناول الموضوع نفسه قبل ذلك بنحو عشرين سنة، من خلال عمله على مسرحية"في انتظار ليفتي"لكليفورد أوديتس، ضمن اطار عروض مسرح"المجموعة"، فاعتبر العمل يسارياً ودعوة الى تنظيف العمل النقابي من عصابات الجريمة المنظمة التي تهيمن عليه. أما هذه المرة... فإن الموضوع نفسه اتخذ مساراً آخر. وذلك بالتحديد، لأن كازان شدد في الفيلم على مسألة الوشاية الخيّرة وضرورتها. ثم لأنه اختار أن يكون الواشي ذلك النجم الشاب الصاعد، في ذلك الحين، مارلون براندو، خالقاً من حال تعاطف الجمهور المسبق معه وتماهيه مع شخصيته، فعلاً ايديولوجياً حقيقياً، خصوصاً أن براندو قدم في هذا الفيلم ذلك الأداء التاريخي الذي سجل نقطة انعطاف في تاريخ فن التمثيل، بعدما كان سجل نقطة أخرى في أدائه في أفلام كانت من اخراج كازان نفسه "فيفازاباتا"وپ"عربة اسمها الرغبة". في"عند الميناء"قدم براندو ذلك الأداء الطبيعي الذي سيكون خبز كبار ممثلي هوليوود الساخن منذ ذلك الحين وسنجده لدى كبار الكبار من مونتغمري كليفت الى آل باتشينو، ومن ايلي والاك، الى روبرت دي نيرو... وكما أشرنا لعب براندو في"عند الميناء"دور عامل المرفأ تيري مالون، الملاكم السابق الذي يدنو هنا من الثلاثين، والذي كان عضواً في النقابات يعمل من أجلها بإخلاص حتى اليوم الذي يُقتل فيه عامل آخر على يد هذه النقابات فيصحو ضميره، ولا يعود قادراً على السكوت وتصنّع الغباء، فيشي بالقتلة مجابهاً النقابات وعصاباتها... اضافة الى كونه يقع، في الوقت نفسه في غرام شقيقة العامل القتيل. اذاً، على خلفية هذا الموضوع وعلى خلفية التحقيقات الصحافية التي كشفت في الخلفية ممارسات النقابات، رسم ايليا كازان فيلمه، مستحوذاً على الموضوع، ولكن مركزاً في الوقت نفسه على أن تيري ما كان أمامه أخلاقياً ومنطقياً إلا أن يفضح تلك الجماعات السرية التي لم يكن من الصعب اقامة التطابق بينها وبين الحزب الشيوعي الأميركي، ثم انطلاقاً من هذا كله، بينها وبين اليساريين الذين نستخلص من فيلم"عند الماء"أن فضحهم انما يهدف الى وقف"الجرائم"التي كانوا يرتكبونها في حق الناس، أفراداً، والمجتمع ككل. وكما أشرنا، أدى تحقيق ايليا كازان، الذي كان، ذلك الحين، في الخامسة والأربعين من عمره، الى صب اللعنات على رأسه، لكنه في المقابل وفر له المزيد من الفرص للعمل في هوليوود، اذ صار منذ ذلك الحين الابن المدلل لستوديواتها. غير أن شيئاً في داخله ظل على الدوام يعصره ويؤرقه فأمضى حياته يبرر ويبرر، في الأفلام والكتب التي يبدو التبرير واضحاً فيها، ولكن كذلك في الكثير من أعماله، التي لا يبدو ظاهرياً انها تحمل أي تبرير أو دنو من الموضوع"مثل"شرقي عدن" 1954 ، و"بيبي دول" 1956، وپ"وجه في الزحام" 1957 وپ"النهر المتوحش"1960 وپ"أميركا أميركا" 1963 وپ"التدبير" 1969 .