تستضيفه السعودية وينطلق اليوم.. وزراء الأمن السيبراني العرب يناقشون الإستراتيجية والتمارين المشتركة    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    البرهان يستقبل نائب وزير الخارجية    كاساس: دفاع اليمن صعب المباراة    قدام.. كلنا معاك يا «الأخضر»    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    إحالة ممارسين صحيين للجهات المختصة    جواز السفر السعودي.. تطورات ومراحل تاريخية    حوار «بين ثقافتين» يستعرض إبداعات سعودية عراقية    5 منعطفات مؤثرة في مسيرة «الطفل المعجزة» ذي ال 64 عاماً    التحذير من منتحلي المؤسسات الخيرية    لمن القرن ال21.. أمريكا أم الصين؟    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    استشهاد العشرات في غزة.. قوات الاحتلال تستهدف المستشفيات والمنازل    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    مترو الرياض    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    القصيم تحقق توطين 80% من وظائف قطاع تقنية المعلومات    المدينة المنورة: وجهة استثمارية رائدة تشهد نمواً متسارعاً    مشاهدة المباريات ضمن فعاليات شتاء طنطورة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    الأمير فيصل بن سلمان يوجه بإطلاق اسم «عبد الله النعيم» على القاعة الثقافية بمكتبة الملك فهد    جمعية المودة تُطلق استراتيجية 2030 وخطة تنفيذية تُبرز تجربة الأسرة السعودية    نائب أمير الشرقية يفتتح المبنى الجديد لبلدية القطيف ويقيم مأدبة غداء لأهالي المحافظة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    المملكة واليمن تتفقان على تأسيس 3 شركات للطاقة والاتصالات والمعارض    اليوم العالمي للغة العربية يؤكد أهمية اللغة العربية في تشكيل الهوية والثقافة العربية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    طقس بارد إلى شديد البرودة على معظم مناطق المملكة    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    المملكة ترحب بتبني الأمم المتحدة قراراً بشأن فلسطين    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    وصول طلائع الدفعة الثانية من ضيوف الملك للمدينة المنورة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مارلون براندو : من الصهيونية الى فلسطين ومن اليسار الى النرجسية
نشر في الحياة يوم 09 - 07 - 2004

ترى، حين كان مارلون براندو يتحدث عن الفلسطينيين وانتفاضتهم وعن حقهم في الحصول على دولة لهم، وعن اضطهاد اسرائيل لهذا الشعب المظلوم، هل كان يفكر في دور مسرحي قام به في العام 1946 في مسرحية عنوانها "مولد علم"، كتبها بن هشت ولحن موسيقاها كورت فايل؟ الذي يدفعنا الى هذا السؤال هو أن تلك المسرحية الدعائية الفجة والتي لم تلق أي نجاح يذكر حين عرضت، كانت تقف الى جانب "النضال" الصهيوني الساعي الى تأسيس دولة لليهود في فلسطين، بغض النظر عن وجود شعب عربي فيها. كانت المسرحية تتبنى تماماً وجهة نظر اليمين الصهيوني المتطرف. وفي ذلك الحين كان مارلون براندو نفسه من غلاة المناصرين لمنظمة "شتيرن" الإرهابية. فكيف تغير مارلون براندو خلال نصف قرن من الزمن؟ كيف تغير الى درجة انه، وبحسب ما قال هو نفسه، صار هدفاً للوبي الصهيوني المهيمن على هوليوود، والذي راح يحاربه خلال العقدين الأخيرين من السنين؟
"نجم النجوم"
من الصعب طبعاً الاجابة عن هذا السؤال... لكن من ينظر بإمعان الى مسيرة هذا الذي صار في نهاية الأمر "نجم النجوم" وواحداً من كبار فناني السينما في طول القرن العشرين وعرضه، سيجد انه، على الشاشة وخارجها، كان دائماً متمرداً مشاكساً، غاضباً... وهو دائماً ما تبنى قضايا الشعوب المظلومة مروراً بالهنود الحمر والزنوج الأميركيين وغيرهم: دائماً ما وقف عكس التيار. ولم يكن في وسع فنان تربى في وسط مناخ ليبرالي - يساري كان في الأربعينات مهيمناً على المسرح الأميركي الذي كان مقفزه الى الفن والسينما والحياة، لم يكن في وسعه إلا أن يتخذ مثل تلك المواقف. وما حدث في أواسط سنوات الأربعين هو أن اليهود قدموا أنفسهم بعيد الحرب العالمية الثانية بصورة الضحية... وقدموا صراعهم في فلسطين على انه صراع ضد الاستعمار البريطاني لا أكثر ولا أقل. ومن هنا حين وقف براندو مناصراً الصهيونية اليمينية المتطرفة كان مؤمناً بأنه يساند حركة تحرر وطني، خصوصاً أن مناخاً يسارياً أميركياً معيناً كان يقف الموقف نفسه. لاحقاً بعد سنوات طويلة، سيتنبه براندو الى خطيئته وسيعلن ذلك... وسيدفع الثمن طبعاً.
والثمن كان جزءاً منه، ذلك الحقد الذي به تعاملت هوليوود معه دائماً. فهوليوود لم تحب براندو أبداً... حتى وإن كان جمهورها يجّله دائماً واعتبره من البداية الى النهاية أعظم ما عرفه فن التمثيل الرجالي في تاريخ السينما. على مضض كانت هوليوود تتعاقد مع مارلون براندو. وعلى مضض كانت ترضى حين كان يفرضه مخرجون لهم كلمتهم، من أمثال ايليا كازان وفرانسيس فورد كوبولا. أو هذا ما باتت عليه الأمور منذ نهاية الستينات، حين بدأ ذلك الصراع الخفي، ثم العلني، بين مارلون براندو و"المؤسسة الهوليوودية". وقبل ذلك كان براندو نجم هوليوود وفتاها المدلل. لاحقاً سيقول هو انه لولا الدعم الأوروبي الكبير له، ولولا اصرار كوبولا على اعطائه بطولة الجزء الأول من "العراب" لمات من الجوع. وعلى ضوء هذا قد يمكننا فهم ذلك التصعيد الذي جابه به براندو هوليوود، وكان من معالمه عدم حضوره حفلة الأوسكار التي منحته جائزة أفضل تمثيل رجالي في العام 1972 مفضلاً ارسال هندية حمراء ألقت خطاباً باسمه واسمها حول ابادة البيض للهنود الحمر. وفي ذلك الوقت نفسه نعرف ان مارلون براندو كان معارضاً شرساً للحرب الأميركية في فييتنام، كما انه كان مناضلاً من أجل حصول الزنوج على حقوقهم المدنية. ولم يكن، بالطبع، مهتماً، في أن يؤثر ذلك كله سلباً على موقعه الفني. كان يرى انه بنى من المجد ما يمكن أن يوفر له حماية كبرى. لكنه هنا كان مخطئاً تماماً مثلما أخطأ مرات كثيرة في حياته.
والحقيقة ان حياة مارلون براندو كانت سلسلة من الأخطاء والمآسي، الشخصية والعائلية... وحتى الفنية أيضاً، إذ ها هو برناردو برتولوتشي يروي لنا كيف ان براندو بعد أن انتهى من اداء دوره في واحد من آخر أفلامه الكبرى "آخر تانغو في باريس"، وشاهد الفيلم في عرض خاص التفت الى برتولوتشي وقال له: "أنا لن أقدم أبداً بعد الآن على العمل في فيلم من هذا النوع، أنا عادة لا أحب أن ألعب دور الممثل... ولكن هذه المرة كان الأمر أسوأ. لقد أحسست انني اغتصبت منذ بداية الفيلم الى نهايته، اغتصبت في حياتي وفي أعمق حميميتي، وحتى في أطفالي... لقد انتزعت مني كل شيء". يومها بعد أن قال هذا غاضباً أعلن لصديقه المخرج انه يود ألا يتحدث اليه بعد ذلك أبداً... وبالفعل ابتعد براندو عن برتولوتشي طوال 12 سنة كاملة.
من داخل الروح
وربما يعود هذا الى انها كانت المرة الأولى التي يجد فيها براندو نفسه أمام مخرج قوي الشخصية لا يسمح له بأن يتدخل في الدور أبداً... قبل ذلك، وأحياناً كثيرة بعد ذلك، كان مارلون براندو اعتاد أن يتدخل في أدواره وفي حواراته، إذ انه في مرات كثيرة كاد يكون المخرج الحقيقي للجزء الذي يمثل فيه في الفيلم. ولقد كان ايليا كازان أول المخرجين الذين أعطوا براندو هذا الحق و... لم يندموا. ونحن نعرف طبعاً ان كازان، على المسرح قبل شاشة السينما، كان هو من أعطى مارلون براندو الفرصة الأولى الكبرى: دور كوفالسكي في مسرحية - ثم فيلم - "عربة اسمها الرغبة". كان ذلك بدءاً من العام 1947، حين أخرج كازان، المبتدئ هو الآخر، مسرحية تينسي ويليامز على مسرح باريمور... وكان براندو العشريني، قد ظهر في مسرحيات قليلة قبل ذلك، معظمها لم يحقق نجاحاً، لكن أداء براندو كان لافتاً فيها، إذ ان الفتى الآتي من "ستديو الممثل" حمل الى فن التمثيل جديداً نابعاً من الروح عبر عنه الناقد هارولد كلارمن بقوله - حول اداء براندو في مسرحية "المقهى" لماكسويل اندرسون 1946: "انا لم يسبق لي منذ اداء جون باريمور ان شاهدت مثل هذا التمثيل. لقد كان رائعاً. كان نابعاً من داخله، وأشبه بانفجار نفسي". والحال ان من يراقب اداء براندو منذ أدائه البطولة السينمائية في فيلمه الأول "الرجال" فريد زينمان - 1950 ثم فيلمه الثاني "عربة اسمها الرغبة" ايليا كازان - 1951 وصولاً الى "العراب" 1971 و"القيامة... الآن" كوبولا - 1979 على الأقل، سيجد ان ما قاله كلارمن ظل صحيحاً... وليس فقط في أفلام براندو الكبيرة.
إذاً منذ بدايته اعتبر براندو مفجر نوع جديد من التمثيل السينمائي. وهو في هذا الاطار كان البداية التي راحت تتسع دائرتها لاحقاً: هارفي كيتل، آل باتشينو، جاك نيكلسون، روبرت دي نيرو. كلهم كانوا من أبناء تلك المدرسة ويمكننا ان نضيف اليهم كلينت ايستوود وشين بن. وكان يمكن لجيمس دين أن يكون منهم لو انه أكمل الطريق. مع براندو، ومع خلفائه هؤلاء، لم يعد الممثل - النجم، دمية في يد المخرج، ولا اسطورة حية تتصرف على هواها لتظل هي نفسها من فيلم الى فيلم ممجدة حضور النجم على حساب الدور وصدقيته. فن براندو السينمائي كان يقوم على تلبس الدور تماماً، وامحاء الممثل أمام الشخصية، بوصف الممثل "شريحة من الطبيعة"، بحسب تعبير فرد زينمان، "تتحرك كما تتحرك الطبيعة، في شكل بركاني أحياناً وكالجدول الرقراق في أحيان أخرى...".
الاداء الجواني بامتياز
حضور مارلون براندو في عالم السينما تواصل أكثر من نصف قرن، وكان يمكنه أن يتواصل أكثر لو لم يقض عليه الموت المباغت في الاسبوع الفائت. ولكن هل كان في وسعنا حقاً أن نقول ان مارلون براندو الثمانيني، والذي كان يعيش وحيداً مكتئباً، غارقاً في ديون تقدر بالملايين، مستذكراً بحزن ولوعة مصير أبنائه الدامي ومصير النساء اللواتي أحب وخسر في حياته، كان هو نفسه. ذلك الشاب الرائع الجميل الى حد الدهشة، والذي كانه في الخمسينات يوم راح الجمهور العريض يكتشفه فيلماً بعد فيلم، وفي أدوار رائعة اختاره لها كبار مخرجي تلك الحقبة؟ لقد كان "عربة اسمها الرغبة" العمل الذي نقل براندو الى ساحة النجومية، في الوقت نفسه الذي جعل فيه التمثيل أمراً أكثر خطورة وجدية من ذي قبل. وكان من الطبيعي، اثر نجاح ذلك الفيلم، أن يثنّي كازان في تعاونه مع براندو، فحقق "فيفا زاباتا" 1952 عن حياة ونضال الثائر المكسيكي الكبير... وهنا أيضاً في اداء جواني امتزج فيه العزم بالقلق، ولحظات التردد بلحظات المجد في حياة مناضل كبير، بدا براندو وكأنه يفجر الشاشة، حتى وإن كان ماكياج الدور قلل من جمال قسماته التي سيستعيدها في الفيلم التالي "يوليوس قيصر" جوزف مالكفتش - 1953، إذ صار هنا معبود النساء، بعدما كان في الأفلام الأولى، موضع تقدير هواة الفن الخالص. أما في الفيلم التالي "المتوحش" لازلو بينديك فإنه قام بذلك الدور الذي سيصبح علامة ويؤدي الى خلق جيمس دين، وتصبح سماته شعار الشبيبة المتمردة خلال العقود التالية. فهو هنا بقبضته المشاكسة، وسترته الجلدية وسرواله الضيق أبدع شخصية الأزعر الحنون، التي مهدت للشخصية التبريرية التي سيلعبها في فيلمه التالي عند البناء والذي سجل ثالث لقاء له مع ايليا كازان، والأخير لأسباب غامضة قد تكون ذات علاقة بما اعتبره الفيلم من جانب النقاد: تبريراً ذاتياً قام به كازان لخيانته رفاقه الهوليووديين امام اللجنة الماكارثية، متهماً اياهم بالشيوعية متبرءاً منهم. والحال ان براندو كان في ذلك الحين قد بدأ يتغير، ويتفرس أكثر في الأفلام التي يقوم ببطولتها، وليس فقط في دوره فيها. لكن هذا لم يحمل كل الخير له. صحيح ان الفترة التالية ستكون واحدة من أخصب فترات حياته الفنية، إذ راح يمثل فيلماً بعد الآخر، وصارت حصته من النجاح الجماهيري كبيرة... لكن مجده الكبير كفنان حقيقي كان قد صار وراءه. ففي افلام مثل "ديزيريه" 1954 و"صبيان ودمى" 1955 و"مشرب الشاي في ضوء القمر" 1956 و"سايونارا" 1957 كان من الواضح ان براندو صار في خضم العالم التجاري. صحيح ان اياً من هذه الأفلام لم يكن سخيفاً وتجارياً خالصاً، لكن الأدوار التي أُعطيت الى براندو فيها، لم تكن تضاهي، قيمةً، أدواره السابقة. هنا كان كازان قد اضحى بعيداً... وربما كانت اميركا وهوليوود كلها في حال استرخاء تام. لكن ذلك لم يدم اذ في العام 1958، عاد براندو ليقدم جديداً درامياً وقوياً في "الأسود الصغيرة" من اخراج ادوارد دمتريك، الذي كان بدوره، مثل مالكفتش، ومثل كازان قبل الخيانة من اقطاب التيار اليساري في هوليوود... في هذا الفيلم عاد براندو سيرته في دور الضابط الألماني، ممهداً من جديد لسلسلة ادوار لا تنسى "النوع الهارب" حيث لا تزال سترته ذات جلد الأفعى علامة اجتماعية حتى يومنا هذا، ثم "ثورة فوق السفينة بونتي" للويس مايلستون، وصولاً الى "الأميركي القبيح" ذلك الفيلم الغاضب والذي كان اول مساهمة من براندو في نقد الإيديولوجية الأميركية الشعبوية السائدة... واللافت هنا هو ان براندو وسط عمله على تلك الأدوار التي استعاد فيها مجده القديم، خاض تجربة إخراجية استثنائية في فيلم رعاة بقر لا ينسى هو "جاك ذو العين الواحدة"... ولم يكن توفيقه فيه، كمخرج، موازياً لتوفيقه كممثل، حتى وإن كان كارل مالدن شريكه في الفيلم قد غطى عليه في مشاهد كثيرة.
عند شابلن
منذ اواسط الستينات راحت ادوار مارلون براندو تتنوع اكثر، فمن دور كوميدي رومانطيقي في "حكاية ساعة النوم" 1964، الى دور تجسسي على النمط الهتشكوكي في "المخرب" لبرنارد فيكي - 1965 بدا واضحاً ان مارلون براندو دخل مرحلة الحيرة والبحث عن ادوار يعيد عبرها تأكيد ذاته. والحال ان "المطاردة" من اخراج آرثر بن، اتاح له ذلك، حتى وإن كان اضطر في هذا الفيلم الى مشاطرة نجاحه مع بطل الفيلم الحقيقي روبرت ردفورد. بعد "المطاردة" عادت فترة الركود عبر افلام مثل "آبالوزا" 1966 ثم خاصته "كونتيسة من هونغ كونغ" - آخر وأسوأ افلام تشارلي شابلن، إذ ادى براندو واحداً من اكثر ادواره سطحية... لكنه ابداً لم يندم على ذلك طالما ان الفرصة اتاحت له ان يدنو من اسطورة السينما شابلن. وأن يمثل الى جانب صوفيا لورين -... وأيضاً طالما ان التعويض سرعان ما جاءه تحت عنوان "انعكاسات في عين ذهبية" من اخراج جون هستون... إذ هنا لعب براندو، في مواجهة اليزابيث تايلور واحداً من ادواره الكبرى: الكولونيل العاجز الذي يعيش مرض حبه المستحيل. فهل كفاه ذلك الدور، فنياً وإنسانياً حتى يرضى بأن يلعب بعده، في افلام عدة، لن يذكر فيها المتفرجون سوى ماكياجه الغريب في بعضها، وإصرار المخرجين على التعامل معه كرمز جنسي في بعضها الآخر "القادمون ليلاً" لمايكل وينر - 1971؟ مهما كان الجواب، فإن المجد لن يتخلى في المرحلة التالية عن براندو. إذ ها هو المخرج الإيطالي الأصل مثله يحمل إليه ذلك الدور الذي سيصل به الى الذروة: دور فيتوكور ليوني في الجزء الأول من "العراب". ترى من يمكنه ان ينسى لحظات اداء براندو في ذلك الفيلم لحظة بلحظة... وصولاً الى مشهد موته هادئاً محايداً في حديقته؟ من يمكنه ان ينسى روعة ادائه الصوتي - في تجربة سيكررها لاحقاً في تلك الدقائق الهائلة التي اعطيت له في "القيامة... الآن"؟
الحقيقة ان براندو ولو انه في حياته لم يمثل سوى دور العراب في ذلك الفيلم، لكان هذا كافياً لسنوات طويلة من المجد. صحيح ان دوره التالي سيكون في اتجاه آخر تماماً. بل في اتجاه متناقض كلياً، وفي فيلم سيقول براندو انه واحد من افلام قليلة حطمته تماماً: "آخر تانغو في باريس". ومع هذا، وعلى رغم كل ما قاله براندو وقاله آخرون حول هذا الفيلم، يمكننا ان نقول انه ضخ فيه كل خبرته الفنية والإنسانية وأدى دوراً لا سابق ولا لاحق له في تاريخ الفن السينمائي. صحيح انه، هو، ادى الدور، كمزحة في اول الأمر، نظر إليه ككارثة بعد ذلك، ولكن بين المزحة والكارثة كان هناك ذلك الحضور المتألق، وذلك الشباب الباهر الذي اخفى وصول بطلنا الى الخمسين. هنا، وعلى رغم قوة المخرج برناردو برتولوتشي وقوة موضوعه، يمكننا ان نقول انه لم يكن ثمة، في الفيلم، شيء آخر سوى براندو نفسه... كل ما عداه بدا اكسسواراً يحيط به. ترى أفلا يمكننا قول الشيء نفسه عن الدور الذي سيعود ويلعبه بعد ذلك بسنوات عدة في فيلم "القيامة... الآن" لفرانسيس فورد كوبولا 1979؟
ربع ساعة فقط
بين "آخر تانغو" و"القيامة" كانت هناك افلام قليلة وأدوار متنوعة قبل بها براندو من اجل لقمة العيش، هو الذي كانت حياته في ذلك الحين قد تلخبطت تماماً: مآس عائلية، صراعات مع هوليوود، تقلبات سياسية، وشيخوخة تقترب بقوة متلازمة مع زيادة في الوزن مرضية. ومن تلك الأوار ظهوره العابر في "سوبرمان" حيث نال اول مليون دولار اعطيت لممثل في تاريخ هوليوود عن دور قصير الى ذلك الحد وبطولته فيلم "ميسوري بريكز" لآرثر بن 1976. اما في "القيامة... الآن" فإنه هيمن على الفيلم تماماً: هيمن عليه في غيابه كما في حضوره. ذلك ان هذا الفيلم - الذي يعتبر من اعظم الأفلام الحربية في تاريخ السينما، كما من اكثر أفلام "فييتنام" التباساً - لم يكن عن الحرب ولا عن فييتنام، بقدر ما كان عن الشرط الإنساني، عن السلطة والجبروت، عن الطبيعة وانتقامها. وهذا كله كان يمثله مارلون براندو الذي لعب دور الكولونيل كورتز المنتزع كما الفيلم من رواية جوزف كونراد "قلب الظلمات". والفيلم كله مبني من خلال مهمة يقوم بها الضابط الأميركي ويلارد للعثور على كورتز الذي كان تمرد على الجيش الأميركي في فييتنام وأقام لنفسه مملكة خاصة به عند الحدود مع الأدغال. لم يظهر براندو في هذا الفيلم سوى خلال ربع ساعة... وإلا في لقطات مكبرة. وهو ظهر لكي يُقتل على يدي ويلارد... ولكن اي ربع ساعة؟! وأي لقطات مكبرة؟! وأي قتل؟!
هنا في هذا الدور لخص براندو فنه التمثيلي كله... لخص الفن السينمائي وعظمة الإنسان... لخص الحياة والموت... الى درجة انه لم يعد في حاجة من بعد الى لعب اي ادوار جديدة. كان ذلك الدور من نوع تلك التي يختتم بها الفنان حياته ويفتح الباب لخلود اسطورته.
وبالفعل ما مثله براندو بعد ذلك كان مجرد ظهور عارض -للقمة العيش - في افلام راح يتعامل معها كمزحة، فارضاً على المخرجين والمتفرجين ان يتعاملوا مع الدور على انه دور لمارلون براندو، مهما ابتعدت الشخصية عن شخصيته. وهذا ما جعل حضوره في افلام مثل "المعادلة" 1980 و"فصل ابيض وجاف" 1989، و"الخريج الثانوي" 1990 و"دون جوان دي ماركو 1990 وحتى "كريستوف كولومبوس - الاكتشاف" 1992، يبدو كحضور ضيف شرف لا اكثر.
وفي يقيننا ان مارلون براندو، حين وافق قبل اسابيع على اداء دور في مشروع المخرج التونسي رضا الباهي وعنوانه "براندو وبراندو" وافق لأسباب سياسية "احب ان اقول للعرب والفلسطينيين عبر هذا الفيلم كم انني احبهم" قال للباهي، لكنه وافق ايضاً لأسباب شخصية: لقد وجد في لعب دور براندو في فيلم يتحدث عن ممثل تونسي شاب يشبهه تماماً الى درجة انه لقب نفسه ببراندو، فرصة لتكريم نفسه وفنه مرة اخيرة، ولاختصار مجمل الأدوار التي لعبها في الآونة الأخيرة والتي كان همها الإفادة من اسطورته اكثر من فنه التمثيلي "الصولجان" مثلاً... هنا، في فيلم براندو كان يمكن للفنان ان يوصل نرجسيته - المشروعة على اي حال - الى ذروتها... لكن القدر لم يمهله: القدر جاءه على شكل موت مفاجئ غدر به.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.