لن نعرف أبداً كيف استعرض إيليا كازان مسار حياته قبل أن يموت مساء أول من أمس مناهزاً الرابعة والتسعين. لكننا نعرف انه قبل عشرين عاماً استعرض، أمام الملأ، ذلك المسار في كتاب عنوانه "حياتي". يومها، وعلى رغم ان كازان يعتبر من عمالقة فن السينما في العالم، وعلى رغم ان مساره المهني زاد عن ستة عقود، لم يهتم قراؤه بإنجازاته الفنية، مقدار ما اهتموا بفصل من حياته كان يمكن أن يكون عابراً، لكنه ظل عصياً على العبور. هذا الفصل حدث بداية سنوات الخمسين ووصم الفنان الى الأبد، إذ أعلن أمام لجنة "مطاردة السحرة" الماكارثية تخليه عن مبادئ الماركسية التي سبق له اعتناقها في الثلاثينات والأربعينات، كما وشى برفاق له من "الحمر" الحقيقيين أو المزعومين إبان تلك الحملة. وهي وشاية ظلت هوليوود، وأهل السينما في أوروبا كلها، في حال عجز عن غفرانها. يومذاك، وفي كل بساطة، بدلاً من أن يواجه كما فعل دالتون ترامبو وبن بارزمان، وبدلاً من أن يسلك سبيل المنفى كما فعل جوزف لوزي مثلاً، آثر إيليا كازان الوشاية وكسب رضا لجنة النشاطات المعادية لأميركا. ولم يفده ذلك على الصعيد الإنساني، إذ سرعان ما وجد نفسه منبوذاً من رفاقه السابقين كما من الحياديين، من دون أن يكسب رفاقاً جدداً كانوا بعيدين منه ومن تاريخه السياسي سنوات ضوئية. لكن من الناحية المهنية وفر له الأمر مواضيع للكثير من أفلامه التالية، التبس فيها بُعد الندم ببُعد التبرير. ووصل هذا الالتباس الى ذروته في واحد من أواخر أفلامه: "الزائران" 1971، حيث حكى حكايته مواربة من خلال جندي يشي برفاق له ارتكبوا جريمة في فيتنام وها هم الآن آتون للانتقام منه. بعد "الزائران" لم يحقق إيليا كازان سوى فيلم واحد أخير هو "آخر العمالقة" 1976 عن رواية لفيتزجيرالد، يراجع فيها موقفه من هوليوود. هنا أيضاً طغى الالتباس من خلال شخصية كاتب سيناريو شيوعي يجابه هوليوود نقابياً. بيد أن كازان استغرق وقتاً قبل أن ينتقل من اليقين الى ذلك الالتباس الذي رآه البعض صحياً لديه، إذ انه بعد الوشاية عام 1951، حقق فيلماً يسخر من جدوى الثورة "فيفا زاباتا" وآخر يبرر الوشاية تحت ذريعة فساد العمل النقابي "على رصيف الميناء" 1954. ومع هذا لم تكن كل أفلام كازان تبريرية أو ملتبسة، بل كان بعضها محطات في تاريخ السينما: "شرقي عدن" 1955، "بيبي دول" 1957، "النهر المتوحش" 1960، ناهيك عن "أميركا أميركا" 1963 و"روعة على العشب" و"التدبير" 1969 أحد آخر أفلامه وأكثرها حميمية. والحال ان كازان الذي انصرف الى الكتابة بعدما توقف عن الاخراج خلال ربع القرن الأخير من حياته، استعاد في بعض أفلامه الأخيرة خيط الإبداع الذي كان ربطه بماضيه، هو اليوناني من أصل تركي والمولود تحت اسم الياس كازانجوغلوس في اسطنبول العام 1909 كما يفيدنا، مثلاً، فيلمه الذاتي "أميركا أميركا". وكازان الذي هاجر في صباه الى أميركا درس في جامعة يال، ثم اجتذبته برودواي، بالتزامن مع الأفكار اليسارية أيام الأزمة الاقتصادية الكبرى. وانضم الى الفرق المسرحية التقدمية الى جانب كليفورد أوديتس وحقق أعمالاً لافتة من تأليف آرثر ميلر "موت بائع جوال" وتنيسي ويليامز الذي كان ينقل الى الشاشة مسرحيته الأشهر "عربة اسمها الرغبة" عام 1951، حين انقض عليه الماكارثيون فخاف خوفاً من الصعب اليوم فهمه. خوفاً عاش بقية حياته يحاول هو فهمه، من دون أن ينصرف عن فنه، بل حتى عن رغبته في أن يضخ الحياة الفنية بمواهب جديدة، كما فعل حين شارك لي سترسبرغ في تأسيس "استوديو الممثل" أحد أهم مراكز تعليم الفن الدرامي في العالم. وكان هذا كله كافياً لمنحه قبل أربع سنوات أوسكاراً خاصاً عن مجمل انجازه السينمائي.