ليس مصادفة أن يطلق محمود درويش على الديوان الذي يسجل فيه تجربته في الإفلات من قبضة الموت اسم"جدارية محمود درويش"مستخدماً صيغة التنكير التي تتحول إلى تعريف بالانتساب إلى صاحب التجربة. والجدارية هي نوع من الإبداع التشكيلي سواءً كان نحتاً بارزاً، أم رسماً، أم موزاييك الذي تتجسّد به وعليه وقائع ملحمية، تضفي صفة الخلود على موضوعها، يستوي في ذلك أن يكون الموضوع حدثاً استثنائياً أو استعراضاً تاريخياً، مثل جداريات محمود مختار على قاعدتي تمثالي سعد زغلول بالقاهرة والإسكندرية، وجدارية فائق حسن في بغداد التي كتب عنها سعدي يوسف قصيدته"تحت جدارية فائق حسن"1974، وجدارية حرب أكتوبر في البانوراما التي تحمل اسم هذه الحرب في القاهرة، وقبل ذلك كله الجداريات التي تركتها الحضارات الفرعونية والآشورية والبابلية. ولا تتباعد دلالة جدارية محمود درويش عن سياق مدلولات"الجدارية"بوجه عام، فهي جدارية شعرية، ملحمية الطابع، تقوم بتسجيل موضوعها، في المدى الذي تستبطن به الذات تحولات تجربتها في مصارعة الموت، مستعينة بلغة تصف أوابد العدم وضواري الغياب، كي تؤبِّد انتصار المبدع على الموت، ومن ثم انتصار الحياة التي هي الإبداع. ولذلك تبدأ القصيدة بالسؤال عن الاسم: هذا هو اسْمُكَ؟ قالتْ امرأة وغابت في الممر اللولبي. وسواء كانت المتحدثة ممرضة أم طبيبة نعرف في ما بعد أنها الممرضة تقود المريض إلى حجرة العمليات، فحضورها الذي يعلنه السؤال قرين البياض الذي هو بداية الطريق إلى غرفة العمليات ببياضها الذي يكمل المشهد الاستهلالي المتناص للجدارية، حيث ندخل فضاء المابين، فتختفي حدود الزمان والمكان، مع اكتمال عملية التخدير، كأننا في سديم المابين، حيث تتدافع المجازات، صانعة عالماً من الرؤيا - الحلم، أو الحلم - الرؤيا، فيرى المريض الذي يرتدي الأبيض السماء في متناول الأيدي، يحمله جناح حمامة بيضاء صوب طفولة أخرى، حيث"الواقعي هو الخيالي الأكيد". وعندئذ يؤدي"التجريد"- حتى بمعناه البلاغي القديم - إلى أن يصبح الجسد جسدين: أولهما راقد وسط البياض، يراقب الثاني الذي انشق منه، مُحلِّقاً في الفضاء الأبيض الذي يحدِّق فيه اللاوعي الذي يغلب الوعي، كما لو كان يحدِّق في الموت الذي كاد يغدو إياه، وذلك في رحلة الصراع التي تمضي فيها القصيدة، عابرة فوق الشعرة الفاصلة والواصلة بين الحياة والموت، حيث لا تفكير في البداية أو النهاية، فلا شيء سوى طائر الموت يحمل اللاوعي إلى السديم، والشاعر ليس حيّاً أو ميّتاً، فلا عدم هناك، ولا وجود لشيء سوى لا وعي الذات التي تغدو"آخر"يشهد حلبة الصراع الذي لا ينتظر طويلاً كي يشارك فيه. فيعبر بعض نهر الموت، يصرع الموت، ويعود إلى شاطئ الحياة، مستعيداً مشاهد الصراع الأبدي بين الإبداع الذي ينتسب إليه انتساب الاسم إلى مسمَّاه، والموت الذي يحاول أن يقهر الإبداع، ويتغلب عليه بالموت، مؤكداً النغمة الأساسية التي تتجسد دلالتها المتكررة الرجع، في معنى أساسي مؤداه أنه ما مات من أبدع، أو خلق فنّاً يظل باقياً على الدهر، أو على رغم الدهر. هكذا، يسهم اللاوعي الإبداعي للذات المفردة التي تنوب عن المبدعين جميعاً في قهر الموت، خصوصاً حين تتقمص هذه الذات حضور غيرها الذي لا يفني إبداعه ولكن يتجدد، في النقطة الفارقة التي يتغلب فيها الحضور على الغياب، والحياة على الموت، مؤكدةً الانتصار، المتكرر أبداً، على الموت الذي يقهره الإبداع، ما ظل هناك وجود، وما ظل للإبداع قدرة على المقاومة التي تنتهي بالانتصار. وتتحول لحظة الانتصار إلى موقف للكشف، أبرز ما فيه نقطة الالتقاء التي تتقاطع عندها كل شبكات الدلالة في الجدارية، حيث نقرأ: هَزَمتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعها هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين: مسلَّة المصري، مقبرة الفراعنة النقوش على حجارة معبدٍ هَزَمَتْكَ وانتصرتْ، وأَفلَتْ من كمائنك الخلود. هذا الانتصار بالفن على الموت هو الذي يؤجّج في الذات الشاعرة مبدأ الرغبة الذي يصل بين الوعي واللاوعي، في امتلاك شجاعة التحديق في الموت، والتسلّح برغبة التجدد ونهم المعرفة. ولذلك تتجاور في الذات الشاعرة إرادة الحياة ومبدأ الرغبة النهمة في المعرفة. أعني مبدأ الرغبة الذي يقهر مبدأ الواقع، ويجاوزه كي تكمل الذات المبدعة عملها على جغرافيا البركان الأرضي، من أيام لوط إلى قيامة هيروشيما، حيث يتأبَّد الدمار في الأرض الخراب، كأنه الحاضر العليل في امتداده الأبدي كالموت، في مقابل إرادة الحياة التي تتكرر دائماً كفصل الربيع، وانتصار الجمال على الفوضى. هكذا تزداد الأنا وعياً بنفسها وما حولها، فتغدو أقدر على مواجهة الغياب بالحضور، والتغلب على شروط الضرورة التي تحول بين الإنسان وآفاق الحرية التي لا نهاية لامتداد آفاقها. وفي الوقت نفسه، تزداد الأنا شبقاً إلى ما لا تعرفه، في تقلّب الأزمنة وتحولاتها، خصوصاً حين يكون"الآن"أبعد من الحاضر، أو يكون"الأمس"أقرب إلى الحاضر من ماضيه، أو يكون"الغد"هو الماضي في حركة الدائرة. وينقلب شبق المعرفة من حضور الذات الفاعل إلى زمن الوجود، وإرادته المناقضة للعدم، فلا تكون الذات بعض دورة الفصول الأبدية التي تحدَّث عنها محمود سامي البارودي عندما قال في إحدى قصائده: تغيب الشمسُ ثم تعودُ فينا/ وتَذْوي ثم تخضرُّ البُقُول طبائع لا تَغِبُّ مردّدات/ كما تعري وتشتمل الحقول. وإنما تغدو الذات مبدأ فاعلاً، لا مفعولاً أو منفعلاً، تمتلك قدرة صنع الزمن على عينها، والتاريخ بحسب إرادتها، نافرة من الجبرية العاجزة، منحازة إلى مبدأ الاختيار الحر الذي يقهر العدم والعبث، إذا استخدمنا بعض المصطلح الوجودي، فلا عبث في إرادة المواجهة العنيدة للزمن، حيث تقف الذات نقيضاً لكل زمن يكرر نفسه كالدائرة، في عود أبدي، أو انحدار إلى نقطة الابتداء التي تغدو نقطة للمستقبل، في حلم الإحياء الديني السلفي، وتحيله إلى صعود متواصل بها ومعها، فيغدو الزمن زمناً للتطور المندفع أبداً إلى الأمام، غير ناظر إلى الوراء، كي لا يمسخ حجراً، أو يزيد التخلف تخلفاً. وعندئذ، تصنع الذات التاريخ، بحسب ما تريد، كأنها تحقق دلالة بيت أبي تمام: بيض إذا اسودّ الزمان توضَّحوا/ فيه، فغودر وهو منهم أبلق. حيث يكتسب الزمان المفعول لون الإنسان الفاعل، فيتحول من اللون الأسود إلى الأبيض الأبلق. ويوازي ذلك ما نراه في تداعيات جدارية محمود درويش، في مدى الذات الحرة الصانعة للتاريخ، بمعناه الخاص على الأقل، خصوصاً حين نقرأ: ولكني أشد"الآن"من يده ليعبر قربي التاريخ، لا الزَّمَنَ المُدَوَّر. ولذلك تتحرك عناصر الرؤيا - الحلم، في جدارية محمود درويش، خصوصاً في موقف الكشف، في سياق متوتر، عصيّ على الثبات أو السكون، كأنه اصطراع الأضداد، ما بين لحمة الجدارية وسداها، فتصعد اللغة إلى مستوى"الشهود"في عالم الرؤيا، كاشفة عن دوال تتولد منها مدلولات، ومدلولات تتولد منها دوال، في دوران رهيف يجوب ما بين السماوات والأرض، والأرض والسماوات، مانحاً فضاءات السديم اسماً ومحلاً، فتغدو الذات الرسالة والرسول صلى الله عليه وسلّم، الطريدة والسهام. وبالقدر نفسه، يغدو التاريخ صنواً أو عدوّاً، صاعداً ما بين هاويتين كأنهما العنصران الواصلان والفاصلان بين الجدب والخصب، الحياة والموت: فماذا يفعل التاريخ، صِنوك أو عدوّكَ بالطبيعة عندما تتزوج الأرضَ السماءُ وتذرف المطر المقدس؟ والإشارة إلى زواج الأرض والسماء الذي ينتج منه المطر المقدس هي إشارة إلى أسطورة"البعث"في الأساطير الزراعية، حيث الانتصار للخصب على الجدب، وحيث المطر هو ماء الحياة الذي يدخل قرارة القرار من الأرض، كي يُخصبها وينجبها ثمراً أخضر، بكراً كوليدٍ بكر. قد يعقب النماء الجدب، والحياة الموت، لكن ليرحل النقيض بفعل نقيضه الذي يدور وإياه في دورة الفصول الصاعدة لا الهابطة، وفي تجدد الحياة مع المطر المقدس الذي يخصِّب الأرض، وذلك على نحو يذكِّرنا، في مدى فاعلية التناص، بالبعد الأسطوري لقصيدة"أنشودة المطر"لبدر شاكر السياب 1926 - 1964 التي يتحول فيها دال"المطر"إلى مدلول ولادة لحياة جديدة، شأنها في ذلك شأن قصيدة"المسيح بعد الصلب"التي تنتهي شعائر الموت فيها ببداية"مخاض المدينة"مع تلقيح أرضها بالمطر المقدس، وذلك في الوقت الذي تستدعي قصائد السياب التموزية تكرار الشعيرة التي يكلّلها انبعاث الحياة، كأنها"تموز"الذي ينبعث من عالم الموتى، حاملاً المطر والخصب والنماء إلى الأرض، معلناً - كما في قصيدته"النهر والموت"- بعث الحياة بقوله:"إن موتي انتصار". وهي الشعيرة نفسها التي نجدها في جدارية محمود درويش، بادئة بهبوط"المطر المقدس"نتيجة زواج الأرض والسماء، وإخصابه الأرض اليباب بما يجعله يكرر أن قصيدته"خضراء"كلون الزرع الذي يغدو علامة الحياة العفية التي تأتي مع الربيع الذي تستهله الأمطار، أو فيضان الأنهار، في الأساطير الزراعية التي يتخذ فيها طقس البعث أكثر من مجلى للحضور المعلن أو المضمر للرّبة المنقذة عشتار، إيزيس، إنانا، عناة، أفروديت... إلخ للإله المحبوس في العالم السفلي للموت، فتعيده إلى الحياة كما يعود المطر ويفيض النهر، جالباً الخصب والنماء إلى الأرض الخراب التي تغدو خضراء، مؤكدة الدلالة الرمزية لحضور قصيدة درويش التي تشبه حضور المطر المقدس: خضراء أرض قصيدتي، خضراء عالية على مهل أدوّنها، على مهل، على وزن النوارس في كتاب الماء أكتبها ... خضراء أكتبها على نثر السنابل في كتاب الحقل، قَوَّسها امتلاء شاحب فيها وفيّ. وكلما صادقت أو آخيت سنبلة تعلَّمتُ البقاءَ من الفناء وضدّه:"أنا حبة القمح التي ماتت لكي تخضر ثانيةً. وفي موتي حياةٌ ما...". والمقطع كله - على رغم طوله النسبي - واضح الدلالة على ارتباط اللون الأخضر بالوظيفة التي تتحول بها الجدارية من قصيدة في مواجهة الموت إلى شعيرة طقسية للبعث الذي يؤدي إلى الخضرة التي تغدو سبباً ونتيجة، قرينة دورة الخصب التي يذكِّرنا بها"كتاب الماء"وپ"نثر السنابل في كتاب الحقل"، واتحاد الإخاء بين الأنا الشاعرة والسنبلة التي انطوت على سر البقاء ضد الفناء وقهره، فيغدو موتها الأول بداية اخضرار ثان، كما يغدو آخر العبور في نهر"الأخيرون"بداية العودة منه، ومن ثم عودة الحياة. والحلم - الرؤيا هو المدى الذي يتحرك فيه ذلك كله، خصوصاً حين تمارس القصيدة شعائر الأسطورة التي تضع دورة الحياة على سلم الزمن الصاعد، في موسم الربيع، حيث يتحول الشاعر إلى مؤدٍّ في الشعيرة الطقسية التي تغدو، بدورها، استجابة لكلمات غامضة، كأنها غمغمة اللاوعي الذي ينطوي على رموز عتيقة، أو نماذج بدئية في اللاوعي الجمعي، من منظور يونج، كلمات تقول حروفها الغامضة للشاعر المشدود بين الحضور والغياب: اكتبْ تكُنْ واقرأ تجدْ وإذا أردت القول فافعلْ، يتَّحد هواك في المعني وباطنك الشفيف هو القصيد. والإشارة لافتة إلى التناص الديني الذي يدفع القصيدة في مداها الرؤيوي، جامعة بين التجسيد الذي يتشخص به المجرّد، فيغدو محسوساً مجسّداً، والتشخيص الذي يبث من روح الإنسان في الأشياء والكائنات، غير مفارق نزعة إنسانية أنثروبومورفية anthropomorphic تخلع الصفات البشرية على غير الإنسان، وبخاصة الآلهة الوثنية في الأساطير القديمة. هكذا، تتحدث الأنا الناطقة في القصيدة إلى الموت الذي يغدو كائناً، تطلب منه القصيدة - الرؤيا الانتظار عند الباب لتودِّع الأنا داخلها في خارجها، وريثما تنهي زيارتها للمكان والزمان، وتعدّ حقيبتها للسفر الذي لا تعرف هل تعود منه أو لا تعود، وتنتقل من هذا الموقف إلى ما بعده الذي تضع فيه الموت موضع المساءلة، محدِّقة فيه، متأمِّلة إياه، بما ينزع عنه براثنه المخيفة وصولجانه، فتنتصر عليه بما يشبه المرآة التي قضى بها برسيوس Perseus على الميدوزا Medusa عندما جعلها ترى صورتها في المرآة فتدرك بشاعتها، وتفقد أقوى أسلحتها، وذلك في فعل يشبهه ما تقوم به الأنا المبدعة، في جدارية محمود درويش، حين تضع مرآة الإبداع أمام ناظري الموت، محدِّقة فيه، مروِّضة إياه، بما يمكِّنها من أن ترى أوسع من أحداقها، مؤكِّدة انتصار الفن على الموت. وعلى رغم أن الفن قرين القدرة المحدودة للإنسان فإن الإبداعات التي ينجزها تقهر الموت. وتلك هي معجزته التي تؤدي شعيرتها جدارية محمود درويش بعد أن نزعت عن الموت، غير هائبة منه، مظهره المرعب البشع، وبعد أن رأت مثل جلجامش، وعرفت مثل إنكيدو، فغدت أكثر تعاطفاً مع الموت الذي أدركت حقيقته المؤنسنة، فيبتعد عنها بما يكفي لمعرفة ما لا تعرف من حقيقته.